}

العيش مع الآلهة: شعوب وَأمكِنَةٌ وعوالِم

ابراهيم قعدوني 27 نوفمبر 2017

يستضيف المتحف البريطاني في العاصمة لندن معرضاً فريداً من نوعه يحتوي على 160 قطعةً فنيةً من حول العالم موضوعها الأبرز هو معتقدات البشر وأديانهم منذ استوطنوا المعمورة إلى اليوم، ويأتي المعرضُ مكمِّلاً لبرنامج إذاعي على راديو بي بي سي يقدّمه المدير السابق للمتحف البريطاني نيل ماكغريغور، ويحمل البرنامج العنوانَ نفسه الذي للمعرض ويقدّم فيه ماكغريغور سرداً حول تاريخ الأديان والمعتقدات لدى الشعوب عبر تاريخ الحضارات البشرية.

 

للأشياء أهميتها في المقدّس البشري أيضاً

تُذَكِّرُ هذه المعروضات الفنية بأهمية "الأشياء" وليس الأفكار وحدها في حياة الكائن البشري وعالمه الروحي، حتى أنَّ الأفكارَ بغيرِ الأشياء تكاد تكون بلا قيمة، وإلّا لماذا تحيطُ الطقوس نفسها بكل تلك الأشياء من الأشكال والرموز والأيقونات التي لازمت الطقوس الدينية وانغرست عميقاً في الوجدان الثقافي للشعوب؟ كما تحضُرُ القوة التعبوية للفكرة الدينية من خلال مقتنياتٍ تخصّ بعضاً من الحروب التي دارت تحت عنوان المقدّس منذ قرونٍ إلى الآن.

يفتحُ المعرض عينَي الزائر على أهمية الروحانيات في حياة الإنسان، فقد شكّلَ الإيمان بالغيبيات والماورائيات سِمَةً مشتركة بين جميع المجتمعات البشرية، إذ يُقال إنَّ على الأرض نحوَ 4000 من العقائد والديانات وإنّها كانت تَعُدُّ ضِعفَ هذا الرقم منذ قرنٍ مضى، ولعلّ ذلك ما دفع أحد الأنثروبولوجيين إلى القول إنّ البشر كائناتُ متديّنة (Homo religious) أكثر مما هي كائناتٌ عاقلة ((Homo sapiens وفق التصنيف العلمي للمخلوقات.

 


تمثال "الرجل الأسد"، أول تمارين الخيال البشري

أوّل ما يطالعه الزائر للجناح القصيّ الذي اتّخذه معرض "العيش مع الآلهة" في أحد جوانب الدور العُلوي من المتحف البريطاني الذي تبلغ مساحته 75 ألف مترٍ مربّع، منحوتَةٌ عاجيّةٌ عُمرُها 40 ألف سنة بطولِ 30 سنتم تقريباً تُعرَف باسمِ "الأسد الإنسان"، ربما نحتَها واحدٌ من أجدادنا الصيّادين في العصر الجليدي، وهي عبارة عن جسد إنسان برأس أسد يعتبرها علماء الآثار والأركيولوجيون أقدمَ تصويرٍ عرفته البشرية لكائنٍ غيرِ موجود في الطبيعة، يبدو التمثال الذي عُثِرَ عليه في أحد الكهوف في ألمانيا عشيّة الحرب العالمية الثانية وكأنه أول تمارين المخيّلة البشرية على استقصاء الوجود البشري والعالم من حوله. كان التمثال قطعاً متناثرةً استغرق جمعها وترميمها نحو ثمانين عاماً ليُعرَضَ كاملاً لأول مرة سنة 2013 شاهداً على بواكير الوعي البشري.

إلى يسارِ "الرجل الأسد" الواقف في زاويةٍ مُعتِمة تُذكِّرُ بكهوف البشر الأولى، ترى قنديلاً زجاجياً بزخارف إسلامية نُقِشَت عليه عبارةٌ مقتبسة من القرآن الكريم نصُّها "الله نور السماوات والأرض"، وقد كُتِبَ في بطاقة القنديل التوضيحية أنه يعود لمسجد تقي الدين المبني في القرن الرابع عشر في مدينة حلب. وإذ يسيرُ المرءُ إلى الأمام قليلاً يرى صندوقاً زجاجياً يحتوي على مجموعة من الأشياء الخاصة بيوم السبت المقدس لدى أتباع الديانة اليهودية، عطورٌ وأطباق وثيابٌ خاصة للصلاة وشرحٌ موجزٌ عمّا يفعله اليهودي المتديّن في هذا اليوم من ارتدائه لثياب خاصة ومعطّرة، إلى الطبق الذي يتناوله. أما إلى يسارِ المدخل فترى ثلاث قطعٍ من السيراميك رُسِمت عليها طقوس زرادشتية تُسلِّطُ الضوء على حضور النار في الوجدان الروحي للشعوب، فالعناصر كانت دوماً في منزلةِ المقدّس لدى البشرية منذ طفولتها الأولى، فالزرادشتيون يعتبرون النار والماء أدوات للطهارة الروحية، حتى أنهم استهجنوا فكرة اختلاط الجسد المادي بها خشية تلويثها. ثمّة ما يَشي بصلةِ القرابة الخفيّة التي تربِط أديان البشرية وعقائدها بعضها بعضاً وهي التي ما انفكّت تشنُّ الحروب باسم العقائد والأديان أيضاً في مفارقةٍ لا تخلو من المرارة.  

تتقدّمُ في المعرض فيطالعك ثعلبٌ خزَفيّ بنقوش وألوان مدهشةً، تقول بطاقة "الثعلب آفاتار" إنّ اليابانيين يُجلّونه لذكائه وقدراته الخارقة ويعتقدون أنه أيقونة تحمي بيوتهم وممتلكاتهم من اللصوص والأخطار. وفيما يدلف المرء إلى حُجرةٍ صغيرةٍ أخرى تقع عينه على صندوقٍ يضمّ سبحاتٍ خشبية وخزفية يستعملها أتباع دياناتٍ مختلفة، قبل ذلك، كنتُ شخصياً أحسب أنَّ السّبحة أو المسبحة تخصّ المسلمين دون غيرهم.  





ثمّة أيضاً ثيابٌ مصنوعة من الفراء والجلود يرتديها أهل سيبيريا وقد نُقِشت عليها تمائم تقول البطاقة إنها تتعلق بالصيد. هنالك أيضاً قلادةٌ تعود إلى القرن السادس عشر تحتوي على هيكل عظمي صغير داخل نعش حيث تبدأ عيّنةٌ أخرى من المعروضات التي تدخل في نطاق "الأشياء الخفيفة" بعد أن تجاوزنا العناصر والأماكن وكأنّ المعرض يراعي تدفّقاً سلِساً لتطور الفكرة الاعتقادية وأوجه ارتباطها بحياة الكائن وعالمه. إذاً، كان الغيبي والروحاني والسحري ملازماً لسيرة البشر منذ استوطنوا الأرض وعَمَروها. قد لا تروق فكرة كهذه لتشارلز داروين الذي سعى إلى تقويض الغيبي لصالح أطروحة نظريته النشوئية التطورية في "أصل الأنواع"، إذ إنّ من شأن التأمل في فكرة المعتقدات البشرية دفعُ المرء إلى استنتاج مفاده أنَّ أولئك الذين كانوا بلا انتماءٍ عقائديّ ظلَّوا مُغتَرِبين عن المجموع البشري في صوره المتعددة وليس العكس بصحيح على الأرجح.

لقد ألهمت الأديان والغيبياتُ الفنون على مدار قرون بحالها، ويمكن القول إنَّ معظم الفنون قبل القرن الرابع عشر، من لوحات كارافاجيو إلى الأسقف الجصية لقصر الحمراء، إنّما تمحورت حول قيمٍ سماوية لا أرضية، ذلك ما يعيدُ هذا المعرض تذكيرنا به.

من اللافت أيضاً ذلك النسبُ الذي يكاد يجمع مختلف العقائد والديانات لجهة احتفائها بالعناصر الطبيعية من ماءٍ وتراب وضوء. لا شكّ في أنَّ المقارنة هي أول مقاربةٍ تحضر في الذهن البشري أمام هذه المختارات الفنية والأثرية، غيرَ أنّ المقارنة في سياقٍ كهذا تجمع أكثر مما تُفرّق لكثرة المشتركات التي يراها المرء بين معتنقي العقائد المختلفة. وإلى جانب الأديان، يحضُرُ السحر أيضاً بوصفه مجالاً مشتركاً بين الفن والدين والعلم. ترى مجموعةً من التعويذات السحرية استعيرت من طيفٍ واسع من الأديان، فالعلاقة بين الدين والسحر علاقةٌ غامضةٌ بقدرِ ما هي قديمة وملازِمة.

الأيديولوجيات ديانات هي الأخرى!

في حُجرةِ الأشياء الصغيرة يرى الزائر سكّيناً من مقتنيات المتحف البريطاني يسمّى "الموزاييك التركوازي"، وهو سكّينٌ خاصّ بالقرابين البشرية التي اعتاد أهل حضارة الأزتيك تقديمها لآلهتهم حينما كانوا يبقون على جريان الدماء في المعابد. ويمكن أيضاً رؤية قناعٍ مصنوعٍ من جمجمة أحد الضحايا الذين قُدِّموا قرابين لآلهة الأزتيك.

إلّا أنّ ما قد لا يتوقعه الجائل في ثنايا المعرض أن يرى صور لينين وماو تسي تونغ وكتابه الأحمر، لكأنَّ منظِّمي المعرض أرادوا إضافة الأيديولوجيات إلى قائمة المعتقدات البشرية، ولربما كانوا على حق، فالأيديولوجيات ترقى إلى منزلة الدياناتِ بحضورها في وجدان معتنِقيها وهي عندهم بمنزلة المقدّس أيضاً وإن لم تكن تحظى بالديمومة التي حظِيت بها الأديان، أليس ذلك ما يقوله التاريخ على الأقل؟

الصدمة في النهاية:

آخر ما يراه الزائر صليب خشبي صنعه فنانٌ إيطالي من حُطامِ قاربٍ تحطّمَ بلاجئيه الـ300 الذين غَرِقوا قُبالة سواحل صقلية عام 2013، أما إلى جوار الصليب المعروف "بصليب لامبيدوزا"، فترى قميصَين مغمّسَين بالجبس جَرَفتهُما المياه إلى شواطئ ليسبوس بعد أن ابتلعت صاحِبَيهِما، [العمل للفنان السوري عصام كرباج] كُتِب على القميصين بالعربية والإنكليزية ما يفيد بأنّهما يعودان لطفلٍ وطفلةٍ سوريَين بأعمار لا تتجاوز 6 أشهر وقَد جرفت المياه القميصَين إلى شواطئ جزيرة ليسبوس فيما ابتلع البحرُ جُثَّتي صاحبَيهِما الغضّتَين. المؤلم أيضاً أن الأسماء غير معروفة كما يقول النص. هكذا، تتأكد قبل أن تُمسِكَ مقبَض الباب الذي سَيُخرِجُك من المعرض/ المقبرة أنَّه أربعة آلاف ديانةٍ بعبادها وآلهتها كأنما تقف عاجزةً أمام مأساةِ أن يذهب رضيعانِ من بني البشر وجبةً غيرَ منتَظَرة لأسماك متخمةٍ بالبركات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.