}

التراث المادي والرأسمال الثقافي

يحيى بن الوليد 26 أبريل 2017
عمارة التراث المادي والرأسمال الثقافي
حلب (getty)
 

جرت العادة، في الفكر العربي المعاصر، على أن يتمّ التركيز على التراث القومي وعلى الثقافة العالِمة... في سياقات البحث عن الحلول والبدائل... لإشكاليات النهضة والإرهاب والترجمة وحوار الحضارات... إلخ. ومن ثمّ التركيز، في سياقات "مطمح الاستعادة"، على الفلسفة والمنطق واللغة وعلم الكلام والتصوّف والأدب... وهي كلها محاور بإمكانها الإسهام في تحريك الثقافة العربية المغلوبة والمتصدّعة. وذلك كلّه وقف على طبيعة القراءة أو الفكر القرائي ما دام أن التراث هو قراءاته وما دام أن "التراث يوجد أمامنا وليس خلفنا" كما يقال.  

غير أن التراث المادي من صنف آخر، وقبل ذلك هو شاخص أمامنا وعلى الأرض التي نقف عليها. الأرض التي ينبغي لنا أن نعيش معها أيضا... بدلا من أن نعيش فوقها فقط. ودون أن يفيد ذلك انتفاء الطابع "الهويّاتي" عن هذا التراث، إذ هو الآخر معمّق بالثقافة والفنون والأخلاق... وإذ هو الآخر مضمّخ بالرموز والمعتقد والإيديولوجيا. ثقافة هذا الإقليم مقارنة مع ثقافة إقليم آخر. "الإقليم الثقافي" باعتباره "منطقة مركّبة من أشكال موحّدة متميزة، ماديا وثقافيا على السواء"، كما يقول الباحث البريطاني، مايك كرانغ (Mike Crang) في كتابه "الجغرافيا الثقافية". ومن ثم فالتراث المادي هو مجلى للخصوصيات الثقافية التي تمايز بين المجتمعات في سياقات التنوّع الثقافي والاختلاف الهوياتي... التي هي، بأكثر من معنى، سياقات تواصل وحوار بين الشعوب والثقافات.

وتجدر ملاحظة أن التراث المادي، واللامادي، تفرض علينا التمييز بين أربعة أنماط من التراث هي كالتالي:

ــ التراث الشفوي: ويضم المرويات والمحكيات والأمثال والموسيقى... إلخ.

ــ التراث المكتوب: ويضم الوثائق القديمة والمخطوطات التاريخية والخرائط النادرة... إلخ.

ــ التراث المنقول: ويضم القطع الأثرية كالحلي التقليدية والنقود القديمة والمسكوكات النادرة والأسلحة القديمة والأواني الخزفية والأدوات الحرفية... إلخ.

ــ التراث المبني: ويظهر في المدن العتيقة وفي مراكز المدن التقليدية... من خلال مساجد ومدارس وأسواق وحمامات وأبواب وقصبات وقباب وأسقف خشبية وقصور... وعبر طرازات هندسية وزخارف ونقوش وأشرطة كتابية... إلخ. كما يظهر التراث المبني في مراكز وبولفارات...  المدن التي أنشأها الاستعمار، قبل ما يزيد عن قرن من الزمن، من خلال تيارات الهندسة الأوروبية المعاصرة التي لا تخلو من تأثيرات "عربية". 

وكل صنف من هذه الصنوف، من التراث، محكوم بالانتقال من جيل إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. كما أن كل صنف من هذه الصنوف، وكل حسب عناصره التكوينية، مهدّد إما بأخطار الطبيعة من زلازل وصواعق وأمطار وسيول وتقلبات المناخ... أو أفعال البشر الخبيثة من سرقة وتفويت وتلاعب وسرقة وتدمير وتخريب... قد تفوق أخطار الطبيعة.

ويهمّنا، أكثر، ضمن هاته الصنوف من التراث، صنف التراث المادي متمثلا في الهندسة المعمارية، التي هي مرتكز هذا التراث مثلما هي أيضا مجلى لفنون الصناعة التقليدية ويد الصانع التقليدي الماهرة. وهذا التراث، بدوره، عرضة للتآكل والتفتيت والتشويه والمحو... بالنظر لعوامل كثيرة منها العولمة بآلياتها التفكيكية والضغط الاجتماعي والأزمة الاقتصادية وانفجار الديموغرافيا وتزايد الجماعات الطبقية الدنيا... وشيوع ثقافات فرعية معادية ومفترسة.

وأمام هذه الأخطار جاء دور اليونسكو للحفاظ على الهويّات الثقافية وتنوّع الثقافات وعلى معطى المجتمعات المحلية المختلفة... وذلك كلّه وفق تصوّرات واستراتيجيات ترقى بالتراث الوطني إلى مصاف التراث العالمي، حيث التنوّع الذي لا يهدّد وحدة النوع البشري، وحيث التعدّد الذي لا يقضي على ثراء الثقافات المحلية. ووفق هذا التصوّر تمّ إعلان اتفاقية حماية "التراث الثقافي والطبيعي العالمي" من قبل اليونسكو عام 1972، وذلك كلّه في المدار الذي أفضى إلى "الدمج الرسمي للأنثروبولوجيا في سياسات التراث"، عام 1978،  في دلالة على نوع من المقاربة التي تفيد على مستوى مراعاة تعابير وتقاليد ومهارات وطقوس وعادات وأعراف... الشعوب. وفي عام 2003 تمّ التوقيع على اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لليونسكو. ومن قبل كان التقرير الذي أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية سنة 1995 عن الأمم المتحدة تحت عنوان "تنوّعنا الخلاق". ولعل في ذلك أكثر من دليل على "دور أساليب التفكير وعمل القيم والمعارف والدراسات الخاصة بكل من الجماعات البشرية، باعتبارها مطلبا أساسيا لا بد من تلبيته في إعداد وتنفيذ استراتيجيات التنمية" على نحو ما يمكن أن نقرأ في كتاب "البعد الثقافي للتنمية نحو مقاربة عملية" (منشورات اليونسكو/ الإسكو، 1995).

وبخصوص المدينة العربية ككل، وبخاصة بعد "معيار" الربيع العربي، لا أمل يلوح في أن تحافظ على تراثها المادي ورأسمالها الثقافي. وحتى المدن العربية الكوسموبوليتية المعدودة مثل بيروت والإسكندرية وحلب... مهدّدة في تراثها في سياق التمدين المنفلت أو في سياق التجريف المعماري العمد، كما في حال حلب السورية نتيجة الحرب التي تستهدف التراث المعماري في الوقت ذاته.

وفي المغرب، مثلا، حيث نُقيم وحيث نباشر التحوّلات، فالمدينة صارت تزحف نحو "اللامدينة"؛ ومن ثم معطى "الزعيق البصري" ومعطى "اللامدينة في المدينة"، إضافة إلى أن المدن، وتحت توالد السكن الجماهيري والتجمّعات الوظيفية، صارت متشابهة. صرنا نبني في شمال المغرب كما في جنوبه، وفي شرقه كما في غربه، دون مراعاة لخصوصيات الثقافات الفرعية ومستلزمات الجغرافيا الطبيعية. وقد تكون حالة عربية ككل.

فالمدن لا يمكنها أن تكون بدون معالم دالّة على التراث والتاريخ والذاكرة... وإلا تشابهت المدن في ما بينها، ومن ثم انتفاء شرط الخريطة التي نعيد تشكيلها على أرض الواقع والخيال معا. فهوية المدينة، و"عمل المدينة" بلغة النقد ما بعد الحداثي، من "الوظيفية المدينية" التي تتأكد ــ أوّل ما تتأكد ــ من الحفاظ على التراث المادي الدال على ثقافة فترة محدّدة، بعيدة أو قريبة، وبما في ذلك فترة الاستعمار كما أسلفنا. أجل إن الطرازات الهندسية، في فترة الاستعمار، كاشفة على "علاقات القوة" الكامنة في بنية الاستعمار ذاته؛ لكنها كاشفة عن ثقافة وحضارة... في الوقت نفسه. وحتى الآن، وبعد قرن من الزمن، لا تزال مراكز المدن، التي أنشأها كبار مهندسي ومعماريّي الاستعمار، كما هي. والرهان على الحفاظ عليها، بل الخوف من الانقضاض عليها. 

وبالمغرب، كذلك، توجد ثلاثون مدينة عتيقة؛ ممّا يجعل منها رهانا في الاقتصاد الاجتماعي. ومن ثم ضرورة "التتريث" (من الحفاظ على التراث) (Patrimonialisation) من منظور التحسين والتجويد (Gentrification) ومن خارج أي طرح سياحي فلكلوري. المسألة مسألة دفاع عن ثقافة محدّدة (روحية بمعنى من المعاني) ومسألة ذاكرة وتاريخ وتراث في حد ذاته... ومسألة برامج تنمية أيضا. والإحساس بالخطر أهم دافع للبحث عن الهوية كما قيل. الهوية المعمارية كما في هذه الحال.

فضرورة التراث (المادي) من سياسة المدينة من ناحية، ومن التحرّر من "صنمية التراث" (Fétichisme Patrimonial) حسب المؤرخة والناقدة المعمارية الفرنسية الشهيرة، فرانسوا شواي (François Choay)، من ناحية موازية. وكما يقول المهندس المعماري البحريني يوسف الصائغ: "إن إهمال التراث خسارة ونقل التراث هو الخسارة الأكبر". ولعل هذا ما يبرر تعديل هذا التراث وتحويله... ولعل هذا ما يجعل منه حافزا على الإبداع والإنتاج أيضا.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.