}

جورجيو فاساري وسمات الفنانين الشخصية: سيرة رافائيل مثالاً

سوار ملا 7 يونيو 2018
عمارة جورجيو فاساري وسمات الفنانين الشخصية: سيرة رافائيل مثالاً
جورجيو فاساري

حينما نتحدَّث عن الفن فإننا نتحدَّثُ، تلقائياً، عن عملٍ إنسانيٍّ صرف، لأنّ الفن نتيجةٌ مباشرةٌ للعقلِ والشعور البشريين، وبالتالي كي يتسنّى للمرءِ فهمَ أي عملٍ فنّي بشكل أعمق، كي يتجلّى العمل ويزول عنه اللبس، لا بدّ له أن يتعرَّفَ إلى الإنسان الكامن خلفه. في هذا السياق بالذات، لا يمكننا إلا أن نذكرَ ونتذكَّر الجهد الحثيث الذي لم يدّخره المعماريُّ والفنان والمورخ الفني الإيطاليّ جورجيو فاساري (1511-1574) في سَبِيلِ تدوين المراحل الحياتيَّة المختلفة، الملامح الشخصيّة وكذا الملامح الظاهريَّة لأهمِّ وأشهر فناني عصر النّهضة الطليان، إلى جانبِ مسارات تطوّر مشاريعهم الفنيّة. إذ أن فاساري، الذي وُصفَ لاحقاً بأبِ تاريخِ الفن، لم يحتمل رؤيةَ أولئكِ الفنانين كثيري الإبداعِ والمهارةِ وهم يغرقون في بحرِ النسيان الذي وصفه فيما بعد بالموتِ الثاني، بل أراد لهم أن يظلّوا حاضرين في ذاكرةِ الأحياءِ ووجدانهم، مؤثرين لامعين في تاريخِ الحضارةِ الإنسانيّة. عمل فاساري لمدّة طويلةٍ، بهمّة ونشاطٍ مُلفِتين، على كتابة سيرِ أكثر من 250 فنانا إيطاليا، بينهم تشيمابو، ليوناردو دافنشي، تيتيان، رافائيل، مايكل أنجلو وغيرهم. 

ينتبه قارئ هذه السير إلى نظرة فاساري التي تعدّ الصفات الشخصية التي يتمتَّع بها كلّ فنان قريناً مباشراً لنتاجهِ الفنّي، بل حتى إنَّه يراها مُكمِّلاً جوهريّاً لأعمالِه التي لا يمكن لها أن تكتسبَ معناها المكثَّف، البليغَ، من دُون وجود تلك الصفات في شخصيّة صانعِها. وذلك يتجلَّى بوضوحٍ في قولِه: حينَ بدأت تحت تأثيرِ قواي النّشطة بكتابة سير هؤلاء الفنانين العظماءِ لأجلِ الفنّ وكرامتِه، استعملتُ، قدر الممكن، الأسلوب ذاته في وصفِ كلّ هؤلاء الرجال المبدعين، ولم أسعَ إلى عرضِ أعمالهم فحسب، بل رغبتُ إضافةً إلى ذلك في أن أعرضَ الفارق بين الجيِّد والأفضل، بين الماهرِ والعظيم، وبعنايةٍ فائقة حاولت أن أبيِّن طرائقَ عملِهم، أساليبهم الفنيّة، مظهرهم الخارجيِ، وكذلك صفاتهم الشخصيّة وأفكارهم.

في السيرة الذاتية للفنانِ الإيطالي رافائيل يتبدَّى جليّاً اهتمام فاساري بالجانب الشخصي، الروحي لدى الفنان. صفات مثل "grazia"، التي تتجاوز المعنى الراهن للجمالِ/الأناقة، مكتسبة تحت تأثير "الأفلاطونية المُحدّثة" في فيورنتنيا القرن الخامس عشر، معنى يميلُ بصورةٍ إيجابية نحو الألوهيةِ، وكذلك صفات الجمال، النشاط، اللطافة والتواضع، تبرزُ بكثافةٍ في مقدمة هذه السيرةِ.
إنَّه بالفعل جديرٌ بالمعرفةِ ما الذي ينوي فاساري قولَه، حين يصف، تحديداً في بدءِ سيرةِ رافائيل وقبل أن يذكر تاريخ ولادته في يوم الجمعة العظيمة من عام 1483، خصائصه الروحيّة التي، من وجهة نظرهِ، تكفي لتخفي كلّ همّ ثقيل وكلّ نقص.
ولا يُمْكِنُ كذلك أثناء قراءة هذه السيرة أن نسهوا عن توكيد فاساري أن شخصاً بهذه الصفات الذاتيَّة، الروحيّة وبهذا الأدب الرفيع كرافائيل إنما هو هديةُ الطبيعةِ إلى العالم، وبأنّه يشكّل قطيعة مع الفن المُظلِم، المُثقَل بالسلبية والعتمة. كما يشدّدُ على أن اجتماع تلك الصفات في شخص رافائيل ساهم في خروج أسلوب فنّي مزدهرٍ، لا يُخفى بريقه، إلى العالمِ. ولا بدّ لنا هنا أن نشيرَ أيضاً إلى تلك الأهمية البالغة التي يربطها المعماري والمؤرّخ الإيطالي بالتربيَّة المنزليّة الحسنة، التي يعوزها الفنُ لينجحَ بحقّ، ويكون له وجه نقي. 

العلاقة بين الطبيعةِ والفن، بين الفن ومُنجِزِه، بين طفولة الفنان وحياته الاجتماعية الباكرة والعمل الفني الذي يصنعه فيما بعد، بالإضافة إلى الشؤون والتساؤلات الفنية الصرفة، تشكّل جوهر السيرة الذاتية التي دونها جورجيو فاساري عن رافائيل؛ ومن شأنِ كلّ ما سلفَ أن يعبِّدَ لنا الطريقَ إلى صورة الفنانِ المثالي الكامنِ في عقلِ الأبِ الروحي لتاريخِ الفنِ وقَلْبِه.

يرى فاساري القولَ بأن هؤلاء الفنانين، الذين يعدّهم مثاليين، كمثلِ ليوناردو دافنشي ورافائيل، مجرّد بشرٍ يبخسُهم حقّهم، بل يمضي به الإعجابُ إلى اعتبارهم "آلهة قابلة للموتِ، أو آلهة تموتُ". يستند جورجيو فاساري على مبدأ يعتبرُ الذين يحفرُون أسماءهم عن جدارةٍ في ذاكرةِ الناس، ويصنعون من خلال أعمالِهم مجداً على الأرض، كائناتٍ تجدُ فورَ مغادرتها الأرض النّعيم الأزلي السّاحر جزاءً لجهودِهم العظيمة.

إذاً تزخرُ السيرُ بالدلالات التي تُشير إلى أن خلقَ الفنان الحسن، تواضعه ولطافته، من أسسِ فنٍّ نقيٍّ يمنحُ الوجودَ لوناً آخر، لا يصيرُ واقعاً إلا من خلالِه. يمكننا، والحال هذه، أن نستخرجَ من سيرِ حياة الفنانين التي دوّنها فاساري في أواسط القرن السادس عشر سيرةَ الفنِّ بأسره؛ حيث نرى كيف نبتَت أساليب فنيّة بالغة الأثر والجودة، وكيف نمَت أساليب أخرى، وبمَ تأثّرت الفنونُ في عملية تطورها، إضافة إلى معاينة الأثر الذي يتركه الفن في الطبيعةِ، وملاحظة كيف أن الفنّ في جوهره عملية إنسانية تحاول أن تبلغ الكمال، أن تسدّ نقص الطبيعة، أن تجمّلها وتتغلَّب على جبروتها.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.