}

أرشيف نيتشه في فايمر.. إطلالة الفيلسوف الأخيرة

علاء الدين العالم 28 ديسمبر 2019
أمكنة أرشيف نيتشه في فايمر.. إطلالة الفيلسوف الأخيرة
"أكثر ما يلفت النظر: آلة كاتبة كان يكتب عليها"
كثيرة هي الأمكنة التي عاش فيها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ومتعددة تلك الفضاءات التي كتب فيها إنتاجه الفلسفي الذي أثّر ما أثّر على مجمل تفكير الفلاسفة المعاصرين.

كانت روكن Roken هي المكان الأساس الذي تشكّل فيه وعي نيتشه الطفل، بعدها دفع موت والد نيتشه العائلة إلى مغادرة روكن إلى ناومبورغ حيث شرع لاحقاً في دراسة اللاهوت لكنه سرعان ما انفض عنه وغادر ناومبورغ إلى لايبزغ، المدينة التي فجرت نيتشه الفيلسوف وأطلقته إلى العالم، إلا أن معظم نتاج نيتشه الفلسفي وكتاباته لم تكن في ألمانيا، بل كانت في الجارة سويسرا وتحديدا في مدينة بازل حيث درّس الفيلولوجيا في جامعتها، وعاش فيها فترة طويلة من حياته لأنها تناسبت وحالته الصحية التي تفرض عليه العيش في كنف هواء جبال الألب البارد، تلك القمم التي لطالما عبر عنها في  شذراته: "الهواء الآن أكثر برودة، لكنه ألذ أيضاً، وها أنا وقد تخلصت من حماقة الخلط بين اللذيذ والدافئ".
بعد تداعيه الجسدي والعقلي في عام 1889، وحادثة الحصان الشهيرة في تورين، نُقل نيتشه إلى بيت أمه في ناومبورغ لتتم رعايته من قبل أمه وأخته حتى عام 1897 إذ توفيت أمه، فقامت أخته إليزابيث فوستر بنقله إلى فايمر لترعاه في سنواته الثلاث الأخيرة حتى وفاته عام 1900.
إذاً تقبع فايمر في خريطة نيتشه في المحطة الأخيرة قبل الرحيل، لم يكتب فيها شيئاً، ولم ينتج فيها أي شيء يُذكر، فحالته الصحية كانت في سنواته الأخيرة متردية جداً حينها، إلا أن الزائر لأرشيف نيتشه القائم في فايمر اليوم، قد يختلط عليه الأمر بعد أن يرى جزءاً من كتب نيتشه وبعضاً من مخطوطاته التي كان قد كتبها قبلاً.

إن تجولت بمدينة مثل فايمر ستجد تماثيل وإشارات إلى عملاقي الأدب الألماني غوته وشيللر، فالمدينة تحتفي بهما أيما احتفاء، لكن ليست فايمر فقط مدينة غوته التي عاش فيها ومات وأصبح رمزاً لها كما هو رمز للأدب الإنساني عامة، وليست فايمر فقط ملعب شيللر، بل هناك عملاق آخر يقبع على هضبة مطلة على المدينة، بعيداً عن ضجيجها السياحي، وعن بنيتها القديمة وأزقتها الجميلة، إنه الفيلسوف الألماني نيتشه الذي قضى سنواته الأخيرة في بيت أخته إليزابيث في فايمر، المنزل الذي استحال إلى أرشيف يحمل بعضاً من آثار الفيلسوف الأبرز حتى يومنا هذا.
يقوم الأرشيف في فيللا  Silberblik  في شارع Luisenslr  سابقا، humboldstr 36  حاليا، وقد عملت عليه بلدية فايمر لتحويله إلى أرشيف يحوي على مقتطفات من عمل نيتشه وآثاره. لكن قبل ذلك، قامت فكرة تأسيس أرشيف لأعمال نيتشه عندما عادت أخته من البارغواي عام 1893 حيث قدمت إلى ناومبورغ للعيش في منزل أمها وباشرت بالعمل على جمع الوثائق والأعمال النيتشوية لتقوم بتأسيس الأرشيف في بيتها عام 1894 في ناومبورغ بدايةً ليتم نقله لاحقاً إلى فايمر عام 1896، علما أن هناك أرشيفا آخر في ناومبورغ حتى يومنا هذا.


طابع منزلي
يشغل الأرشيف الطابق الأول فقط من المنزل الكبير ذي الطابقين والحدائق المحلّقة حوله، وقد حافظ المنظمون له على طابعه المنزلي، حيث ما زالت الأرائك التي كان يجلس عليها نيتشه في هذيانه الأخير، مطلاً على مدينة شاعره الأحب غوته، غوته الذي لطالما اعتبره نيتشه "يقف فوق الألمان بكل الاعتبارات، إذ كيف لشعب أن يكون في مستوى العقل الغوتوي بما يحمله من رفاه وجودي وإحسان".

كذلك الحال مع أثاث الصالون الأدبي الذي كانت قد افتتحته اليزابيث بعيد وفاة أخيها، مستثمرة نتاجه واسمه أيما استثمار. وفي الصالة الرئيسية حيث موظفة الاستقبال، تنتشر صور عائلية لنيتشه وأختيه، بالإضافة لمانشيتات صحافية مختلفة، منها ما يعود زمنه إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حينما دأب نيتشه على نشر مؤلفاته، ومنها ما يوثق زيارة أدولف هتلر للأرشيف ولقاءه بإليزابيث التي ساهمت بشكل كبير في تكريس صورة نازية مغلوطة عن نيتشه الذي كان قبل أن يكون ألمانيا "إنسانيا مفرطا في إنسانيته". أكثر ما يلفت النظر في هذه الصالة هو الآلة الكاتبة التي كان يكتب عليها نيتشه، وهي لوهلة تبدو آلة عجيبة، ولولا التوصيف الذي يتذيلها لخالها الرائي آلة موسيقي قديمة.
في العمق من المنزل، وعلى الميمنة من الصالة الرئيسية، تقبع الغرفة الكبيرة التي جلس فيها نيتشه سنيه الأخيرة. تحوي هذه المساحة تماثيل عديدة لنيتشه، إلا أن ما يميزها هو مكتبته، أو بعض من كتبه إن صح التعبير، حيث تظهر فيها نسخ قديمة لمؤلفات شوبنهاور وغوته وغيرهما، زد على ذلك معاجم ألمانية ومجموعة كتب باللغات القديمة يصفها التعريف بأنها قادمة من الفترة التي كان يدرّس فيها نيتشه الفيلولوجيا (فقه اللغة). كذلك احتفظ الأرشيف ببعض المخطوطات المكتوبة بيد نيتشه بأزمنة مختلفة، ومجموعة من النوتات الموسيقية غير المكتملة المنسوبة له، بالإضافة إلى رسائل أهمها رسالته الأخيرة لريتشارد فاغنر قبل الانفصال الذي وقع بينهما.   
لا جديد عن ما سبق في الغرفة الأخيرة من المنزل، سوى أن هناك الصورة الأخيرة الملتقطة لنيتشه، والتي يبدو فيها شاحباً متعباً أشعث قريباً من الموت، كذلك الحال مع الرسم الأخير له الذي كان قد رسمه هانز أولدي عام 1899 في سنة نيتشه الأخيرة وتحت نظر إليزابيث.
تجدر الإشارة إلى مساهمة التجهيز الصوتي المرافق لزيارة الأرشيف بالتعريف بالأشياء والآثار النيتشوية، وبقصة تكوين هذا الأرشيف منذ افتتحته فوستر مرورا بالحقبة النازية والحرب العالمية الثانية، وصولا إلى يومنا الحالي.

يقوم الأرشيف بمدينة  فايمر في فيللا  Silberblik  في شارع Luisenslr  سابقا، humboldstr 36  حاليا


















روايات مزيفة

عديدة هي الكتب والآثار التي نسبتها إليزابيث فوستر إلى أخيها، خاصة في السنوات الأخيرة التي عاشها عندها في فايمر بعد أن عادت من البارغواي إبان انتحار زوجها، ومن ذلك كتاب زُعم بأن نيتشه كتبه في سنواته الأخيرة في فايمر "شقيقتي وأنا"، وهو كتاب مزيف من جملة تزييفات اليزابيث التي حاولت كثيرا إظهار علاقتها بأخيها غير ما كانت عليه في الواقع.
إن إليزابيث تحمل وزراً كبيراً في تصدير نيتشه مغلوطاً، فهي لم تستثمر اسمه وحسب، بل كتبت له سيرة ذاتية مشوهة بعيدة كل البعد عن الواقع، بيد أن مئات الدراسات الألمانية الحديثة فنّدت الروايات المزيفة عنه، وكذلك الكتب الملفقة باسمه، لكن الغريب في الأمر، هو أن هذا الجهد البحثي المبذول من الباحثين الألمان على مدى عشرات السنين لا يقابله جهد تنظيمي لأرشيف نيتشه في فايمر، فبعيدا عن صغر حجم الأرشيف وفقر ممتلكاته مقارنة بالإرث النيتشوي الهائل، فإن المدينة لا تأتي على ذكر نيتشه في كراساتها التعريفية والسياحية، وفي الوقت الذي ترى فيه تماثيل لغوته وشيللر في أماكن مختلفة في فايمر لا تجد أي تمثال أو معلم يخص الفيلسوف الأكبر شأنا في الفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة، وهذا ما ينعكس بوضوح على عدد زوار الأرشيف وندرتهم بالمقارنة مع المعالم الأخرى في المدينة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.