}

الرواية من العلوم الإنسانية؟

جان لوي فابياني 6 يناير 2020
اجتماع الرواية من العلوم الإنسانية؟
من اليمين: بروست، فلوبير، سولجنتسين
تروي القصص الأدبية مسارات الإنسان وتوثق الحياة الاجتماعية، وتتسلّل إلى الأمكنة حيث يستحيل التحقيق ويتعذّر. إنها تمدّنا بالأدوات والأجهزة التي لا محيد عنها لاستكشاف وفهم العالم.
للأدب وجود أقدم بكثير من العلوم الإنسانية. ولقد نهض بمجموعة كاملة من الوظائف لا تتعلّق بإبداع الأشكال فحسب، بل ترتبط كذلك برهانات المعرفة: نقل الذاكرة الجماعية، إظهار وحدة الثقافة، ووصف تحولات العالم. ويمكن للمرء، على هذا النحو، أن يقرأ قصيدة هومير، وكذلك أبرز الأعمال الأدبية في العصر الوسيط.
في القرن التاسع عشر، كان انتصار الرواية يتحقق بالموازاة مع تعزيز قدرتها على معرفة العالم كما كان في الماضي، وربّما الأهم من ذلك، كما صار في الحاضر. هكذا كان بلزاك يتقصّد من التعبير عن المجتمع إلى مضاهاة كل خطاب ذي قوة تسجيلية أو توثيقية. فكتابه "الكوميديا الإنسانية" كان مدفوعا بإرادة التسجيل الموضوعي لمجموع الواقع الاجتماعي. كما كرّس فلوبير وقتا مهما للتحقّق من دقة أوصافه. أما زولا فكان ينظر إلى رسالته على أنها رسالة عالم يكرّس جهده للتحليل السريري للأمراض الاجتماعية.


نحو اللامرئي أو الممنوع ولوجه
بشكل عام، يَظلُّ الأدب شكلاً لا مثيل له من أشكال التوثيق الاجتماعي. فالخيال لا يدمّر قوة الواقع، ولكنه يحدده وفق إطار سردي يبرز عناصره القوية. يذهب الخيال في كل اتجاه، بما في ذلك اللامرئي والممنوع ولوجه. لنتذكر أن العلوم الاجتماعية هي الأعمال التي ازدهرت في المجتمعات المفتوحة، إذا استخدمنا مقترحات كارل بوبر التي تفترض حدا أدنى من حرية البحث وإمكانية نشر نتائجه. ولهذا السبب فالأدب يُعدُّ المصدر الأساس والملاذ الذي لا بدّ منه لمعرفة ما الذي يحدث في المجتمعات المغلقة. لا نَجدُ سوسيولوجيا خاصة بذلك الشكل من معسكرات الشغل الشاق التي كانت مخصصة لمعارضي النظام في الاتحاد السوفييتي، ولكن هناك أدب كبير، ولربّما هو من أعظم أدب القرن العشرين، الذي جعلنا أقرب إلى حقيقة كانت ستظلّ مجردة وغامضة، والتي علاوة على ذلك يَميلُ عدد من علماء الاجتماع الغربيين إلى إنكارها، أو على الأقل التقليل منها عند نشر أعمال الكتاب المعارضين. في هذا السياق، فإن كتاب أرخبيل غولاغ (1973) لألكسندر سولجنتسين يمكن أن يُقرأ باعتباره محكيا استقصائيا يستند إلى مئات من الشهادات، مثل المقابلات غير الموجّهة التي يعتمدها علماء الاجتماع.
هذا البعد التسجيلي ليس مقصورا على الماضي أو الحالات الحدية. إذا كان استقلال الحقل الأدبي قد أدى إلى تكوّن أدب يتسم بالتجريد منذ جويس، وخاصة مع ظهور الرواية الجديدة الفرنسية، فإن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الأدب يَشهدُ منذ سنوات عودة إلى الأساس التسجيلي للكتابة الخيالية. بعض الكتاب من ذوي الموهبة الكبيرة قد تعهدوا بالتعبير عن العالم من خلال نصوصهم. أفكّر هنا بأعمال لوران موفونييه، خاصة عمله الرائع Dans la foule  (2006) الذي يرتكز السرد فيه على الفاجعة التي شهدها ملعب هيسيل لكرة القدم ببلجيكا، حيث توفي العشرات من المشجعين في حالة من الذعر الشديد. وكذلك بالكاتبة ماليس كارونجال التي من دون التضحية بمتطلبات الشكل الأدبي، أنتجت أعمالا عظيمة تتناول فيها ظواهر اجتماعية، مثل: Naissance d’un pont) 2010) أو Réparer les vivants) 2014). يجب علينا أن نعترف أيضا لميشيل هوليبيك، خاصة في روايتيه Les particules élémentaires) 1998) وSérotonine) 2019) بالقدرة على الكشف عن الجوانب الأقل جاذبية في حياتنا الجماعية. وأخيرا، فإن من يريد القيام بدراسة سوسيولوجية لكورسيكا المعاصرة، من المهمّ له أن يستلهم من روايات جيروم فيراري مثل: Le sermon sur la chute de Rome) 2012) و(A son image 2018)، في غياب سوسيولوجيا حقيقية حول القومية الكورسيكية والتحولات القوية التي أثرت على الجزيرة منذ نصف قرن.


علم الاجتماع: مخاطر الدّنو من الخيال
ينجح الأدب، بشكل حدسي تقريبا، في التقاط ثنايا العالم الاجتماعي المختلفة، وأحيانا في توقع التحولات التي قد يشهدها. لهذا السبب فهو ضروري أكثر من أي وقت مضى لفهمنا للعالم، خاصة في مجتمع حيث الصورة والمعلومة لهما الأولوية. إن أكثر الجهود في مجال علم الاجتماع قوة وعظمة لم يُنتقَص من قيمتها لكونها استعارت أدواتها من الأدب؛ هكذا يعترف بورديو بأنه مدين في العثور على أسلوبه لكاتبين: بروست وفلوبير. و"كان الخطاب البلاغي في علم الاجتماع غير ملائم على الإطلاق" (1) يضيف بورديو. وبخلاف هذا، يسجل جاك ديبوا كم كان بروست عالم اجتماع بارزاً (2). أود أيضاً أن أتحدث عن ذلك التقارب بين بورديو ولابرويير، لأن كتاب التمييز (1979) يشبه الأدب الأخلاقي للعصر الكلاسيكي. وبعض علماء الاجتماع يواصلون مهنة مزدوجة: روائي وباحث. وعلى سبيل المثال، فهذه هي الحال مع راندال كولينز (Civil war two, 2018) وكوثر حرشي (L’Ampleur du saccage, 2018).
ينبغي القول إن السوسيولوجيا تواجه خطر التغزّل بالأدب أكثر من اللازم. فهي لها خصوصياتها التي يمكن أن تكون فخورة بها. فما يجعلها قوية هو القدرة على التحكم، على الأقل إلى حدّ ما، في إنتاج المعطيات، وفي طريقة تحليلها. وللقيام بذلك، يتخلى علماء الاجتماع عن جزء من طموحاتهم السّردية، لكنهم يكسبون القدرة على وضع أعمالهم على محكّ النقاش النقدي، وهو الشرط الأساس ليس لدقة النظرية فحسب، وإنما كذلك للنقاش الديمقراطي.

 عنوان المقال الأصلي: Jean-Louis Fabiani, Le roman, une science humaine ?, revue Sciences Humaines, Numéro 321, Janvier 2020, P40-41.

 هوامش:

[1] - Pierre Bordieu, Secouez un peu vos structures, In Jaques Dubois, Pascal Durand et Yves Winkin (dir), Le Symbolique et le Social, La réception internationale de la pensée de Pierre Bourdieu, Presse universitaires de Liège, 2015.

2 - Jaques Dubois, Le Roman de Gilberte Swan. Proust, sociologue paradoxal, Seuil, 2018.

*عالم اجتماع فرنسي من مواليد الجزائر.

ترجمة: إدريس الخضراوي

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.