}

مكاني الأول.. شهادة مريد البرغوثي

ضفة ثالثة ـ خاص 20 أكتوبر 2020
أمكنة مكاني الأول.. شهادة مريد البرغوثي
مريد البرغوثي

الفكرة الأساسية لهذه الزاوية هي ربط تجربة الكاتب، أو الشاعر، بمكانه الأول، أو أمكنته الأولى. ولا يبحث هذا الربط عن المكان كبديهية، أو مصادفة جغرافية، بل عن أثر المكان على تجربة الكاتب وهويته.
في كل حلقة نستضيف كاتبًا يستعيد مكانه الأول، في شهادة مسترسلة، أو على شكل إجابات عن الأسئلة والمفاتيح التالية، من دون التقيّد بها حرفيًا:
ـ كيف تتذكر مكانك الأول، أو أمكنتك الأولى؟
ـ هل لعب المكان دورًا في كونك أصبحت كاتبًا؟
ـ ماذا ظهر في نصوصك من مكانك الأول.. بأية طرق وأساليب؟
ـ هل هناك أمكنة أخرى تركت أثرًا في تجربتك؟
هنا شهادة الشاعر الفلسطيني، مريد البرغوثي.

                                                                       (حسين بن حمزة)

 

مريد البرغوثي: المكان هو الحرية
أنا أكبر من إسرائيل بأربع سنوات، والمؤكد أنني سأموت قبل تحرير بلادي من الاحتلال الإسرائيلي. عمري الذي عشت معظمه في المنافي تركني محملًا بغربة لا شفاء منها، وذاكرة لا يمكن أن يوقفها شيء. عندما سُمح لي بزيارة فلسطين، بعد ثلاثين سنة من العيش في أماكن الآخرين، لم أكن بحاجة لمعايشة أماكن الماضي، بل ماضي الأماكن. أردت أن أرتق الزمنين كما يرتق المرء غيمتين بالإبرة والخيط. أن أرتق تاريخًا قادمًا بتاريخٍ مُدْبِر. ألا يُوحي لنا تأمّل العبارة الشائعة عن "مكان في التاريخ" بأن التاريخ ذاته مكان؟ فلكي يكون المكان مكانًا يجب أن نكون قادرين على أن نتحرك فيه ومنه وإليه عندما نشاء. وحين يفقد المكان هذه الصفات يتغير معناه تمامًا. إنه يصبح رمزًا وهوية. إن حائط برلين، وحائط الاحتلال الإسرائيلي، لا يمكن النظر إليهما كأماكن، بل كمفاهيم، كحكم على الآخرين، كمقياس للسيطرة. والمكان كالطفولة، أي إنه ليس كتلة قائمة خارجنا، وهو ليس بناء نتركه وراءنا حين نكبر. بل يواصل تأثيره الخفيّ في كل مراحل عمرنا، وفي كل أفعالنا وردود أفعالنا. إنني لا أتحسر على "منزل الأحلام" الذي تحدّث عنه غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان"، بل على كل تلك البيوت المؤقتة المرتجلة الطارئة التي أقمت فيها طوال سنوات المنفى. من يفقد جغرافيته الخاصة، يتشبث بتاريخه الخاص. ومن يخسر المكان، يتشبث بالزمن. إن المشرد لا يتعلق بالأماكن. ومن تُكسر إرادته يعيش في إيقاعه الداخلي والأماكن عنده ليست إلا وسيلة

مواصلات تنقله إلى أماكن أخرى، وكأنها خمر، أو حذاء. إن أقسى تجليات الاقتلاع من المكان أنها تجعلك غريبًا لا عن أقوام المنفى فقط، بل عن قومك أيضًا. عندما عدتُ إلى قريتي، مكاني الأول، وجدتني أبتسم محييًا الأشخاص الذين كان يقدمهم لي مرافقي، ويفترض أنني أعرفهم جيدًا، لكنني لم أعرف معظمهم، واضطررت لادعاء العكس، تلافيًا للحرج. نعم كنت أكذب، إن الفشل في استعادة تلك الحميمية يعيد تعريف المكان. هذه العبثية تتضاعف إن نظرنا إلى الأمر من زاوية كونية. إن الاكتشافات الجغرافية للعالم، والاكتشافات العلمية للجسد الإنساني، أدت إلى توسيع العالم المادي. ورغم ذلك أدت إلى خطاب ضيق جدًا من معاداة الآخر المختلف، الزينوفوبيا، والاستعمار، والعبودية، والعنصرية، والرعب. إن مشاركة المكان بين البشر (وهي الفكرة الأصلية للحب والسلام والعدل) باتت مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فماذا يكسب الإنسان إن أدت هذه الإنجازات العلمية، واكتشافات العقل البشري، إلى عالم واسع وأفكار ضيقة؟ إن مسعى الشعراء (حراس فردية الإنسان) كان دائمًا الكشف عن عمق التجربة الإنسانية وتعددها، وإعادة تشكيل إدراكنا للذات والآخر والعالم. وكصناع ماهرين يعملون على الجمع بين المادي والروحي، الخاص والعام، الذهني والمحسوس والمحلي والكوني. أسأل: ما معنى أن يكون لنا كوكب فيه مئات الأجناس والأعراق والقوميات والانتماءات والعقائد والأديان والأساليب واللغات والتواريخ تهيمن عليها كلها قوة واحدة وأيديولوجية واحدة تصدر الحكم على الجميع وتضع لهم التعريف الذي يحلو لها؟ علمتني ثلاثون سنة من المنفى أنه لا يوجد تعريف واحد للمكان. عشرات النساء الفلسطينيات اضطررن بسبب الحواجز التي أقامها الاحتلال إلى ولادة أطفالهن على الأسفلت تحت أقدام المراهقين الإسرائيليين ممن يرتدون زيهم العسكري. هنا يختلف معنى السرير، سواء سرير البيت، أو سرير مستشفى الولادة، والسرير مكان. وبالنسبة للمولود الذي ستظل حياته كلها مهددة بالاحتلال، كما هي مهددة عند لحظة الولادة ذاتها، سيختلف معنى المهد، والمهد مكان أيضًا. لا لم أتعلم من لوتمان أن الحواجز والمعوقات تضيّق المكان، بل تعلمته من تجربتي الشخصية، ومن تجارب أهلي. وضعتني الحياة وجهًا لوجه أمام السؤال التالي: ما الذي يحدث عندما يصبح المكان غياب المكان؟ عندما يصبح الفرق بين الهنا والهناك غامضًا وملتبسًا إلى هذا الحد؟ عندما تصبح الهنا المؤلمة حلمًا يوميًا في بال المطرود إلى اتساع العالم؟ الإجابة الوحيدة أن المكان هو الحرية. ألا يرتبط مفهوم الحرية بالحيز المتاح لنا في المكان؟ إن الفرق بين الأفق والزنزانة هو شعورنا بهما. في حالات فردية ووطنية عديدة يمكن أن يصبح هذان المكانان المتناقضان هما الشيء ذاته.

مريد البرغوثي     

المنفى هو نتيجة من نتائج ما أسمّيه كسر الإرادة، فالمغادر الى أي بلد لتحسين دخله الاقتصادي، والعثور على مستقبل أفضل، أو وظيفة أفضل، ليس منفيًا، إنه مهاجر باختياره، ويملك ترف الحنين الرّخو لوطن تركه بإرادته، وفي وسعه العودة إليه في أي وقت. أما المنفيّ مرغمًا الى مكان بعيد، وتمنعه القوانين، أو الجيوش، أو الغزاة، أو الشرطة، من العودة إلى مكانه الأول، فهذا هو المنفي، هذا الشخص لا يشعر بذلك الحنين إلى الوطن، هذا الشخص يشعر بالغضب، المنفى هو كسر الإرادة، وهذا لا يؤدي إلى الحنين، بل يؤدي إلى السخط، وبالتالي أنا لا أكتب بأي حنين رخو إلى الأماكن التي أتركها، ولم أكتب بحنين رخو إلى رام الله، في "رأيت رام الله". عندما تكون إرادة الإنسان أضعف من إرادة قاهره، فالحنين تفاهة وادعاء. الشعور الذي أراه ممكنًا في هذه الحالة هو الغضب، والرغبة في المساهمة بأية طريقة من الطرق لتغيير الوضع. في الكتابة، حاولتُ ألا أدع هذا الغضب، وهذا السخط، وحتى المقاومة، أن يظهر في حالته الخام، وفي أطروحاته السياسية المباشرة. لقد حاولت أن أهتدي مبكرًا إلى نبرة تقوم على تبريد اللغة، وإبطاء المعنى، أو تأجيله. كلما كان التعبير الشعري مقتصدًا وخافتًا كان وقعه أشد على القارئ. فالشعر عندي نوع من العمل، وأنا أتحاشى المفردات المستعملة ذات المعاني الجاهزة. القصائد التي تفعل ذلك تمارس بطالة شعرية، وترشو القارئ بلغة متوقعة وكسولة. المكان الفلسطيني لم يكن مكانًا عاديًا. لقد تحول إلى مكان مفتقد، وإلى قضية شعب كامل. ومن الطبيعي أن يشكل ذلك ضغطًا هائلًا على أي كتابة،

وخصوصًا على الشعر. إن فلسطين كقضية سياسية وفعل مقاومة، لم تمارس ضغطًا على التعبير الشعري الفلسطيني فحسب، بل أوقعت هذا الشعر ضحية نقاد راحوا يتعاملون مع هذا الشعر بما أسميه "النقد التضامني"، وهو نقد لم يطالب الشاعر الفلسطيني بأكثر من ذكر الأرض والقضية واللاجئين، وراح يُعلي من شأن المضمون الفكري للقصيدة على حساب جماليّتها. لذلك حاولتُ أن أبتعد عن المعلّبات التعبيرية. كان عليّ أن أبرّد اللغة وأكتب بدقة الجرّاحين لكي أكون أكثر إقناعًا، ولذلك عندما صدرت مجموعتي "قصائد الرصيف" (1980) لم يكتب عنها ناقد فلسطيني واحد، ولكن صار يُنظر إليها لاحقًا كعلامة على تغيّر مفصلي في شكل القصيدة الفلسطينية، تغيرٌ يستند إلى الاقتصاد اللغوي، والتقشف الخالي من أي زخرفة. ففي وقت كان فيه كل شيء ينبع من فوهة البندقية، تضمنت تلك المجموعة 45 مقطعًا شعريًا تتناول تفاصيل إنسانية وحياتية مهملة. وكان ذلك مؤثرًا أكثر مما لو تحدثت مباشرة عن اللاجئين وقضايا النضال.
في النثر، تسنّى لي أن أقترب أكثر من فكرة المكان، ومن الحنين، ومن الاقتلاع، بلغة أكثر وضوحًا، ولكن أيضًا من دون أن يكون لها طابع مباشر. وعندما كتبت "رأيت رام الله" كنت أكتب عن ثلاثين عامًا تعطلت خلالها إرادتي، وحُرمت من العودة إلى مكاني الأول. سميت الكتاب "رأيت رام الله" لا "عائد إلى رام الله"، فأنا لفرط ما كنت مهدَّدًا بترك الأمكنة، لم أعد أمتلك جرأة الاستقرار والتعلق بالأماكن. وحاولت في هذا الكتاب النثري الخالص أن أستخدم الدقة الجراحية عينها التي أطالب نفسي بها في الشعر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.