}

متحف للكلمة في عصر الصورة بقلب واشنطن

أسامة إسبر أسامة إسبر 29 فبراير 2020
أمكنة متحف للكلمة في عصر الصورة بقلب واشنطن
متحف "كوكب الكلمة" في واشنطن
خَلَقتْ الكلمةُ العالمَ، وقالت له: كنْ فكان، وبها عمّق الإنسان فهمه للوجود، وتواصل مع بني جنسه، وبها ومن خلالها استقصى عالمه وغيّره وطور أفكاره، كما استطاع أن يسبر أعماقه والطبقات غير المكتشفة لذاته ومجتمعه بالشعر والرواية. وبالكلمة شيّد الإنسان صروحه المعرفية وأبدع نصوصه الدينية والفكرية والأدبية التي حوّلت الكلمة إما إلى أداة للتلقين أو أداة للكشف.  وبعد الكلمة جاءت الصورة وهيمنت الشاشة على حياة الإنسان إلى درجة أن البعض ظنَّ أن الصورة والصوت سينحيّان الكلمة وأن التكنولوجيا ستُعيدنا إلى ما قبل ثقافة الكلمة، إلى ثقافة العين والأذن اللتين كانت أداتيْ البدائي في التواصل مع العالم.

فهل آن الأوان لاعتبار الكلمات لقى أثرية؟ وهل هناك خوف لدى البشر من انقراضها في عصر الصورة؟ وهل بدأت الشاشة تفرض حضورها كبديل للوسائل التقليدية للكتابة؟ وهل ستتحول اللغة في المستقبل إلى إشارات ورموز وتطغى لغة العولمة وتؤدي إلى تقلص اللغات الأخرى واختفائها؟ كل هذه الأسئلة صارت مشروعة في عصرنا الذي ما تزال علاقته وطيدة مع الكلمة لكن احتمال أن تطرأ تغيرات جوهرية على بنى لغاته قائم وتعززه كل يوم التطورات التكنولوجية المذهلة. كما أن الكلمة تعني الثقافة والثقافة هي حامية القيم الديمقراطية والحضارية في عصرنا، وهي التي تميز الإنسان عن الحيوان وتفتح له أبواب التمدن. انطلاقاً من هذه الرؤية، ومن أجل إعادة الاعتبار للكلمة وللغات وللشعر وأشكال القول المختلفة سيُفتتح في الثلاثين من أيار/مايو القادم في واشنطن دي سي متحف "كوكب الكلمة"، وهو متحف فريد من نوعه مخصص للكلمة وتاريخها وحاضرها ومستقبلها وطرق استخدامها وتطورها وتوظيفها في النكتة والخطاب والقصة والقصيدة والأغنية وكل أشكال التعبير اللغوية. ستبلغ مساحة المتحف 51 ألف متر مربع وسيتموضع في مدرسة فرانكلين ذات العمارة التقليدية في قلب واشنطن العاصمة ولن يتقاضى رسوم دخول من زائريه. 
سيركز المتحف على إظهار أهمية الكلمة عبر مزجها بالصوت والصورة، وعبر تطويع التكنولوجيا لخدمتها، كي يؤكد أن الكلمة هي الأهم في حياتنا، ذلك أن الكلمة هي الثقافة وحياة الإنسان الديمقراطية مهددة إذا لم تستند إليها، بحسب القيمين على المتحف. وسيكون المتحف تفاعلياً ومكرساً للكلمات واللغات، ومصمماً لتثقيف الزوار حولها، من خلال تجارب انغماسية تركز على الكلمة المنطوقة والمغناة والمكتوبة.

 سيركز المتحف على إظهار أهمية الكلمة عبر مزجها بالصوت والصورة، وعبر تطويع التكنولوجيا لخدمتها

















يتألف المتحف من إحدى عشرة صالة وتحتوي كل صالة على تجربة انغماسية مختلفة، فصالة "الكلمات تهم" تهدف إلى أن تكون التجربة الأخيرة للزائر في المتحف. وفيها سيرى الزائر ويسمع قصصاً من أشخاص حقيقيين عن كيف يمكن أن تغير الكلمات واللغة الحيوات.  أما في صالة "من أين تأتي الكلمات"، وهي صالة رئيسية في الطابق الثالث من المتحف، فيستطيع الزائر أن يتحدث عبر مكبر صوت وستستجيب الكلمة لصوته.

ستُضاء الكلمات على الجدار ويساعده في الإجابة على الأسئلة الراوي اللطيف الموجود في الصالة. بتوجيه منه سيكتشف الزائر مثلاً بعض القوى الكثيرة التي صاغت اللغة الإنكليزية المستخدمة اليوم. وبينما يقوم الصوت والمؤثرات البصرية في تحفيز الحائط سيعرف الزائر أن الإنكليزية هي إحدى اللغات الجرمانية والتي شُبكت مع بعضها من خلال مؤثرات كثيرة مختلفة، وأن حوالى 90% من الكلمات الإنكليزية جاءت من اللغات الجرمانية والفرنسية واللاتينية أو اليونانية. أما العشرة بالمائة الأخرى فقد جاءت من محاكاة صوتية، وبعضها كلمات منحوتة. واستعيرت كثير من الكلمات من لغات أخرى كالعربية والإسبانية والإيطالية. وابتُكرت بعض الكلمات مثل كلمة "سيلفي"، بينما اكتسبت كلمات أخرى معاني جديدة بفضل الفيسبوك.  وفي هذه الصالة ستصل إلى الزوار أهم رسائل المتحف وهي أن اللغة تتطور دوماً ونشارك في تطورها كلما تحدثنا وأشرنا وأرسلنا رسالة وألفنا.

 طرحت فكرة المشروع ومولت إطلاقه في البداية أستاذة سابقة في مدرسة عامة تدعى آن فريدمان


















وثمة صالة أخرى تسمح للضيوف برسم مشهد بالكلمات باستخدام فُرَش صغيرة تغير المشهد الافتراضي.  وفي صالة "العالم المنطوق" هناك كرة أرضية (جلوب) ارتفاعها 12 قدماً وفيها خمسة آلاف لمبة ستعلم الزوار كلمات بلغات يقومون باختيارها بما فيه لغة الإشارة. وثمة صالة مخصصة للشعر يستطيع الزوار فيها أن يُصْغوا إلى قصائد مشهورة وهم يشاهدون الكلمات مسلطة على الجدار أمامهم. سيحتوي المتحف أيضاً على صفوف وغرف للكلمات المتقاطعة وحانوت للهدايا ومطعم وصالة عرض ممتازة للرحلات المدرسية. وسيقدم المتحف أيضاً "حوانيت كلمات" في صفوفه، وأداءات وقراءات لمؤلفين ومناقشات جماعية على مدرجه.

 

فكرة المشروع
طرحت فكرة المشروع ومولت إطلاقه في البداية أستاذة سابقة في مدرسة عامة تدعى آن فريدمان، التي ترى أن قوة الديمقراطية تعتمد على سكان متعلمين كي يفهموا ويعالجوا مسائل اليوم المعقدة. وأشارت فريدمان إلى أن نسبة الأمية في الولايات المتحدة ترتفع كل عام وهناك كثير من البالغين الأميركيين الذين لا يستطيعون القراءة، كما أن عدداً كبيراً من الأميركيين غير قادرين على قراءة وصفات الطبخ أو التعليمات المكتوبة على علب الأدوية أو طلبات الوظائف، كما قل عدد المشتركين في الصحف والمجلات، ولذلك فإن المتحف يهدف إلى تغيير هذا الوضع من أجل جعل اللغة وفنونها جزءاً جوهرياً من التجربة الأميركية. وفي حوار نُشر معها مؤخراً في "واشنطن بوست" قالت آن فريدمان إن مرتادي المتحف سيستمتعون جداً وستذهلهم التكنولوجيا والطرق التي يبعثون بها اللغة إلى الحياة. وأضافت أن أميركا تأسست على الكلمة المكتوبة، وعلى إعلان الاستقلال، ووثيقة الحقوق. ويهدف المتحف ليس فقط إلى إبراز سلطة وقوة الكلمات بل جمالها وقدرتها على الإمتاع أيضاً. واختارت فريدمان واشنطن العاصمة مقراً للمتحف كي توجه رسالة مفادها أن واشنطن هي المكان الأنسب الذي يشدد على الصلة بين التعلم والديمقراطية وأن ديمقراطية قوية تحتاج إلى شعب مثقف.

أما مدرسة فرانكلين التاريخية التي ستأوي المتحف فقد بناها المهندس المعماري أدولف كلوس في 1869.  وستحتوي ساحة المتحف على منحوتة شجرة ارتفاعها 20 قدماً للفنان الكندي من أصل مكسيكي رافايل لوزانو هيمر. وهي منحوتة تفاعلية ستحيي الزوار حين يدخلون فناء متحف كوكب الكلمة، وستقوم مكبرات الصوت بتمتمة القصائد والأغاني في 500 لغة مختلفة. وحين يسير المرء تحت الشجرة يشغّل مكبرات الصوت في الأعلى فتضيء وتخلق نوعاً من الجو العذب والرومانسي، ويبدأ الاستمتاع بالكلمات قبل الدخول إلى المتحف. وقد تحدث الفنان عن تجربته في إبداع هذه المنحوتة قائلاً إن ما هو مهم بالنسبة إليه هو التشديد على تنوع البشر ووحدتهم وأنه يريد من الشجرة أن تذكّر أن جميع اللغات البشرية المختلفة مرتبطة ومتداخلة بشكل حميمي، وهي كلها جزء من العائلة العالمية.
شُرع ببناء المتحف منذ 2013، ودعي متحف "كوكب الكلمة". وعلى عكس المتاحف التقليدية ستكون معارضه تجريبية ومستندة إلى التكنولوجيا. وهذا المتحف بحسب فريدمان جديد وفريد من نوعه، وهو متحف لا يمتلك مجموعة تحف فنية أو أعمالاً مقتناة وبدلاً من الأعمال الفنية والآثار التاريخية سيعرض الأسماء والأفعال والصفات والاستعارات والأسئلة والاقتباسات. سيستضيف المتحف أيضاً أمسيات شعرية ومحاضرات وعروضاً مسرحية وسيحتوي مطعمه على قائمة مأكولات من جميع أنحاء العالم.

ليس الأول
الجدير بالذكر أن متحف "كوكب الكلمة" ليس أول متحف يتعامل مع موضوع الكلمة والقراءة، فهناك متحف موندولينغوا في باريس ومتحفا اللغة في تورنتو وهولندا، كما أنه ليس أول متحف يستخدم الألعاب ذات التكنولوجية العالية ويخرط الزوار في موضوعه، لكنه نادر من حيث أنه يدمج بين هذه الأنشطة كلها. 

فمتحف باريس يركز على اللسانيات فقط، بينما يحتفي متحف الكتاب الأميركيين في شيكاغو بالكتب والقراءة من خلال فحص تأثير الكتاب في الثقافة الأميركية. ويختلف متحف "كوكب الكلمة" عن المتاحف الأخرى في أن زواره يدخلونه لا كي ينظروا إلى الأشياء فحسب، بل كي يفعلوا شيئاً. ويقول أصحاب المشروع إن متحف "كوكب الكلمة" سيكون مكاناً تنبعث فيه اللغة إلى الحياة، ومهمته هي أن يلهم حب الكلمات واللغة لأن اللغة جوهرية لجميع مظاهر حياتنا. وسيعرف المتحف الزوار على قوة وجمال ومتعة الكلمات ومن خلال تجارب انغماسية وسحرية سيكتشف الزوار غنى الكلمات وكيف أن الكلمات تصوغ حياتنا وقراراتنا وعلاقاتنا.

متحف "كوكب الكلمة" ليس أول متحف يتعامل مع موضوع الكلمة والقراءة، فهناك متحف موندولينغوا في باريس ومتحفا اللغة في تورنتو وهولندا



















موقع مهم للشعر

من الواضح أن التنوع في هذا المتحف سيلبي حاجات مختلفة لزواره، ويمنح الشعر موقعاً مهماً فيه. فقد تحدث القيمون عن المتحف عن أهمية الشعر وهم يرون أن القصيدة ترفعنا وتلهمنا وتتحدانا وتغيرنا وإن استخدام الشاعر الحريص للكلمات يمكن أن يمنحنا الراحة أو يثير غضبنا في وجه الظلم. فالقصيدة شيء قوي، وهي إحدى الطرق الأكثر قوة لاستخدام الكلمات ولهذا سيكون للشعر مكانة خاصة وموضع خاص في متحف "كوكب الكلمة". ومن أجل هذا الهدف عقد القيمون على المتحف شراكة مع مؤسسة الشعر الأميركية وتعاقدوا مع الشاعرة الأميركية أدريان رافايل التي أعدت قائمة من خمسين قصيدة تشمل القرون والأشكال والأمزجة وتعكس منظورات مختلفة حول التجربة الإنسانية. وساعدت الشاعرة أدريان في تحديد القصائد السخيفة والمثيرة للمشاعر والغامضة وقصائد الحب وتلك التي تروق للأطفال والراشدين. ومن خلال أبيات مقتطفة من ملحمة بيولف القديمة ومقاطع لشعراء معاصرين ستأخذ هذه القصائد الزوار في رحلة ممتعة لتذوق الشعر. وستتموضع القصائد في زاوية بيضوية الشكل في الطابق الثاني من المتحف في صالة دُعيت "الكلمة تحيط بكم" حيث سيكتشف الزوار مكاناً للتأمل، بعيداً عن ضجيج الصالات الأخرى. وفيما يجلس الزوار ويسترخون ستظهر القصائد على الجدران المحيطة بهم، ويظهر كل بيت شعر ثم يختفي كي يظهر الذي يليه وهم يقرأون مما يسمح للزوار بالانغماس في الكلمات ورسائلها. وفي هذا تأكيد على قوة الشعر وجماله، بحسب القيمين على المتحف.

يبقى أن نذكر أن القيمين على المتحف استطاعوا جمع 16 مليون دولار حتى الآن من المبلغ المرصود لهذا الهدف والبالغ عشرين مليون دولار.  وقد قام بالتبرع للمشروع كل من "مؤسسات بلومبيرغ الخيرية" وعضو مجلس إدارة "كوكب الكلمة" آن دوير، ومؤسسة الشعر، ومؤسسة العائلة ديلر- فون فرستنبرغ وشركة الاتصالات العملاقة تي آند تي. وسيتم افتتاح المتحف رسمياً للزوار في الثلاثين من شهر أيار/مايو القادم.

*صحافي سوري مقيم في أميركا

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.