}

متحف لسلفادور دالي في أميركا.... فنان الصدمة والإثارة

أسامة إسبر أسامة إسبر 15 مارس 2020
أمكنة متحف لسلفادور دالي في أميركا.... فنان الصدمة والإثارة
سلفادور دالي (11 مايو 1904ـ 23 يناير 1989)
على جدار إحدى صالات المتحف كُتب بخط عريض ورشيق: "هناك فرقٌ واحد بيني وبين المجنون هو أن المجنون يعتقد أنه عاقل بينما أعرف أنني مجنون". هذا أبلغ وصف بكلمات الفنان نفسه لتجربة مثيرة للجدل تلقي الضوء عليها اللوحات المعروضة في المتحف والتي تعبّر عن تطور تجربته الفنية ومراحلها، عاكسة هذا الجنون المختلف والتحويلي وذو الطبيعة الإبداعية والتأثير الجمالي الذي ما يزال يفرض حضوره من حيث علاقته على مستوى المعنى بطبيعة حياة الإنسان الحالي التي يقضّ مضجعها العبث والجنون والحروب والأوبئة.

لم تنْس مدينة مونتيري، شبه الجزيرة الصغيرة الوادعة، الواقعة على المحيط الهادي في كاليفورنيا أن تحتفي بهذا الجنون المثمر لسلفادور دالي (1904- 1989) الذي جاء إليها لاجئاً هو وزوجته غالا في صيف 1941 هرباً من النازية ومن الحرب العالمية الثانية وعاشا لسنوات أنتج فيها دالي الكثير من اللوحات والمنحوتات والمطبوعات والرسوم. تكريماً لهذه الذكرى، وانطلاقاً من بواعث شخصية تتعلق بتأثر بدالي أسس رجل أعمال أميركي من أصل أوكراني متحف دالي الذي افتُتح في مدينة مونتيري في ولاية كاليفورنيا، في ساحة كستم هاوس في فشرمان وارف في تموز/يوليو 2016 وصار من المعالم الأساسية في المدينة التي تجذب الزوار من كافة أنحاء أميركا والعالم. يضم المتحف حوالي 580 عملاً للفنان بينها لوحات الساعات التي تقطر وأختام ومطبوعات حجرية وأنسجة مرسوم عليها ومنحوتات وتماثيل وكثير منها أعمال أنتجها دالي خلال فترة إقامته في مونتيري، وبينها لوحات استخدم أثناء رسمها فُرَشاً فيها ريشة واحدة فقط.

تكمن خلف تأسيس هذا المتحف قصة ولع رجل الأعمال ديميتري بيترمان بدالي، والذي صرح للصحافة أنه حاول أن يطبق رؤى وفلسفات الفنان السريالي على حياته. وما جعله مقتنياً لأعماله هو تفكير سلفادور دالي الإبداعي خارج الصندوق والطريقة الراديكالية التي نظر فيها إلى الحياة بعدسة سريالية. غيّر هذا التأثر نمط حياة رجل الأعمال ودفعه إلى اقتناء ثاني أكبر مجموعة من أعمال الفنان في أميركا دُعيت باسم "دالي 17" وهو رقم يرتبط بشارع "17 درايف" في مدينة مونتيري الأميركية حيث كان يقع فندق ديل مونتي، الذي سكن فيه دالي وغالا أثناء إقامتهما في مونتيري. وقرر رجل الأعمال عرض هذه الأعمال في متحف حمل اسم الفنان عُرف سابقاً باسم "متحف مدينة مونتيري" في مكان قريب جداً من ميناء الصيادين، الخلفية التي تدور فيها أحداث رواية جون شتاينبك "شارع السردين المعلب". وتضم هذه المجموعة أيضاً عدداً من الصور التي عثرت على طريقها للعرض الدائم في المتحف، وهي صور فوتوغرافية التُقطت في 1941 لحفلة أقامها دالي في مونتيري كي يجمع التبرعات من أجل الفنانين اللاجئين في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وأطلق على الحفلة اسم "ليلة سريالية في غابة مسحورة".



رؤى مختلفة
يحتوي المتحف المؤلف من عدة صالات تتوزع على طابقين مجموعات متنوعة تجسد رؤى مختلفة، ثمة مجموعة من المطبوعات الحجرية والتي تحتوي على كتابات مثيرة للمركيز دو ساد، تعكس أخيلته الجنسية والفانتازية. وهناك سلسلة "الكتاب المقدس" وهي مجموعة طُلب من الفنان تنفيذها في محاولة لإعادته إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. ورُويَ أن دالي أثناء رسمها استخدم كبسولات حبر أُطلقتْ من بندقية على الأوراق، وتحتوي هذه الأعمال على مزيج من سطور الكتاب المقدس والأساطير الكلاسيكية. واقتنى المتحف مؤخراً منحوتة دُعيت "صورة جانبية للزمن" وعُرضت في الطابق العلوي إلى جانب لوحة لدالي تدعى "إدراك الزمن". وهذه المنحوتة عبارة عن ساعة ذائبة مثبتة إلى غصن، لكن الساعة تحمل ملامح وجه دالي، وترى شارب دالي إلى جانب رقم تسعة على الساعة، والمنحوتة تسبر العلاقة بين الزمن والبشر في العالم الذي نعيش فيه.

في الطابق الثاني لوحات مستوحاة من رواية دون كيخوته كان الهدف منها تزيين إحدى طبعات الرواية، كما تتضمن الصالة الأعمال التي استوحاها دالي من كتاب "أناشيد مالدورور" في 1934 والتي يظهر فيها موضوع الزمن الذائب. و"أناشيد مالدورور" عنوان كتاب للشاعر الفرنسي لوتريامون. وتضمن عمل دالي الغرافيكي الأول 30 صفحة كاملة واثني عشر نقشاً صغيراً لتزيين كتاب الكونت لوتريامون. طُلب هذا العمل في البداية من بيكاسو لكنه أوصى الناشرين بالتعاقد مع دالي من أجل الرسوم التزيينية للكتاب الذي عده السورياليون من روائع تاريخ الأدب وألهم أعمال فنانين مثل أندريه بروتون ومارسيل دوشامب ومان ري. استخدم دالي رؤاه الشخصية في عملية الرسم، موظفاً أسلوبه النقدي القائم على جنون العظمة. طور دالي هذه التقنية في الرسم في الثلاثينيات. ويستخدم هذا الأسلوب الذي وُصف بأنه يثير حالة جنون عظمة، مفهوم البديل أو صورة المرآة لهدم مفهوم الواقع وخلق أوهام العقلانية. ومن خلال إثارة جنون العظمة والفكر اللاعقلاني يستطيع الفنان أن ينسى الأفكار السائدة ويرى العالم بطرق جديدة مختلفة.
يضم المتحف أيضاً لوحات مستوحاة من رائعة الشاعر الإيطالي دانتي "الكوميديا الإلهية" تتتبع دانتي عبر الجحيم والمطهر والفردوس، وسبب رسم هذه اللوحات هو أن الحكومة الإيطالية طلبت من سلفادور دالي أن يرسم رسوماً توضيحية لطبعة خاصة من الكوميديا الإلهية لإحياء الذكرى الـ700 لولادة الشاعر دانتي. لكن المعارضة السياسية ضد قيام إسباني برسم الرسوم التزيينية لعمل كلاسيكي إيطالي أدت إلى سحب الحكومة لطلبها، غير أن دالي واصل عمله وأنهى الرسوم التوضيحية ونُشرت في فرنسا وألمانيا وإيطاليا. وأشرف دالي شخصياً على إنتاج الكتاب. وعبرت لوحات دالي من خلال تصوير غرائبي عن رحلة البحث عن المعنى من خلال استقصاء الأحلام والعوالم الصوفية.

 اقتنى المتحف مؤخراً منحوتة دُعيت "صورة جانبية للزمن" وعُرضت في الطابق العلوي إلى جانب لوحة لدالي تدعى "إدراك الزمن" 


















يحتوي المتحف أيضاً على لوحات هي مجرد إعادة رسم لبعض أعمال غويا (1746-1828) الذي كان أحد أهم الفنانين الإسبان في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد عدت لوحاته ثورية على المستوى الفني، وأثرت حياة وأعمال غويا بشكل عميق في سلفادور دالي في بداياته، وتعتبر أعماله أساس الفن الحديث الذي يختصر الطريق بين الكلاسيكية والرومنطيقية. ويُرْوى أن غويا بعد مرضه طغت على أعماله الألوان الرمادية والبنية والسوداء المؤكدة باللون الأحمر.

وحاكى دالي هذا الطغيان اللوني في تأويلاته لغويا.
يضم المتحف أيضاً سلسلة من اللوحات تُدْعى "الأدغال البشرية"، وهي عبارة عن مطبوعات حجرية مكبرة عن رسوم صغيرة بالحبر مع إضافة لون. وقد تم تأويل هذه السلسلة كرمز لعبث الوجود البشري في العالم الحديث. ذلك أن البشر، على عكس الحيوانات الذين توحدهم غرائزهم مع الطبيعة، يستخدمون العقل كي يُمْلوا حياتهم. لكن في الجانب الآخر من العقل، يدفع اللاوعي الطبيعة البشرية أكثر ويؤثر في أفعالها. إن الطبيعة الحيوانية، على عكس البشرية، متوحدة مع مملكة العالم الطبيعي، والعناصر والمعادن غير قابلة للتدمير لأنها جزء من بعضها بعضاً وتواصل وجودها حتى بعد أن يتم تدميرها. لكن الإنسان يفتقر لهذه الاستمرارية، وخاضع للزمن والشيخوخة. وتوضح مطبوعات دالي الحجرية أنه رغم أن المملكة الحيوانية متوحدة مع الطبيعة إلا أنها ما تزال تحت رحمة البشرية.
تقدم كل الأعمال المعروضة صورة شاملة عن سيرورة عمل دالي خلال حياته، وتُظْهرُ أنه كان راديكالياً ومتمرداً في الثلاثينيات والأربعينيات ثم صار متديناً في النهاية، كما تظهر أيضاً تحسّن صنعته وكيف أصبح أكثر انتباهاً للتفاصيل.



ليلة سريالية في غابة مسحورة
تتميز مونتيري بشواطئها الخلابة وتتاخم كارمل، بلدة الصالات الفنية المترفة والرسامين الأميركيين، وتشتهر برساميها الذين تراهم منتشرين على الشاطئ وفي المناطق الجبلية في وهج الشمس الكاليفورنية وهم يرسمون على كانفسات مثبتة على مناصب في قلب محيط طبيعي ساحر لا يتوقف عن إلهامهم. وغير بعيد عن كارمل، في مرتفعات بيك سور عاش الروائي الأميركي الشهير هنري ميلر ثمانية عشر عاماً بعد أن انتقل إلى كاليفورنيا في حزيران 1941، وفي بيك سور افتُتح مركز ثقافي يحمل اسم هنري ميلر ويخلد ذكراه ويعرض كل كتبه وما كُتب عنه بالإضافة إلى رعاية أنشطة أدبية، والمنطقة قريبة أيضاً من سهول مدينة ساليناس حيث يوجد مركز خاص لتخليد ذكرى الروائي جون شتاينبك الذي عاش في المنطقة وكتب عنها في رواياته الشهيرة والتي تُرجمت معظمها إلى اللغة العربية. ولهذا لا غرابة في أن يختار سلفادور دالي منطقة مشهورة بكونها مهد الأدب والفن في أميركا.


عاش دالي وغالا في عقار في فرجينيا في بداية رحلتهما إلى أميركا لكن دالي وبعد خلاف مع شريكه في السكن هنري ميلر (يُرْوى أن هنري ميلر لم يمل أبداً إلى شخصية دالي) سافر إلى مونتيري وسكن في فندق ديل مونتي، الذي اتخذه مقراً لنشاطه الفني.
لم تقتصر الحركة السوريالية التي أسّسها أندريه بروتون على كونها مغامرة فنية وشعرية بل كانت تهدف أيضاً إلى تثوير الحياة اليومية وإنقاذها من الروتين والبلادة مما استدعى ابتكار أنماط سلوك سريالية وإقحامها في تفاصيل الحياة اليومية، وهذا ما قام به الفنان دالي حين عاش في مدينة مونتيري، فقد حرك الوسط الفني، وصمم خلفيات المسرحيات، ومسح الطبيعة الساحرة المحيطة، وأعاد إنتاج جذوع الأشجار المكتهلة والتي تبدو غرائبية في لوحات سريالية بديعة، وخطط لمناسبات وحفلات خارقة للمألوف. وفي فندق "ديل مونتي"، الذي دعاه دالي "وطنه"، وضع الفنان تصوراً لحفلة سريالية كي يجمع النقود للفنانين الذين شردتهم الحرب في أوروبا، وبمساعدة من بعض الأصدقاء تحولت الفكرة السريالية الغرائبية إلى واقع عاشته شخصيات أميركية مهمة وغطته وسائل الإعلام في ذلك الوقت.

ومن أجل الحفلة السريالية التي جرت في فندق ديل مونتي، تم إحضار أشجار من غابة ديل مونتي بعد أن شُذِّبتْ أغصانها وصُفَّتْ على جدران الصالة. كما تمت صناعة دزينتين من تماثيل عرض الأزياء النسائية ورُكبتْ عليها رؤوس حيوانات مزيفة جُلبت من استوديو هوليوود، ونُصبت بين الأشجار. وطلب دالي إحضار أكبر سرير في هوليوود والذي يمكن أن ينام فيه عشرة أشخاص، ووضعه عند رأس طاولة العشاء. كما تم استئجار عشرين نوعاً من أنواع الحيوانات من حديقة حيوانات سان فرنسيسكو بما فيه شبل أسد وقردة ونيص واحد. واشتملت الحفلة على سيارة محطمة وطُلب من عارضة أزياء عارية أن تتمدد في داخلها وتم تخديرها كي تبدو ميتة. وجيء براقصيْن صُبغا بلون الدم، قفزا من الحطام وأديا "رقصة الموت"، التي صمّمها دالي. دُعيت إلى الحفلة شخصيات مهمة وطُلب من المدعوين أن يلبسوا ثياباً خاصة، أي أن يصمموا الزي الذي يحلمون به، أو زي حيوان بدائي، أو أزياء بشر الغابة. وكان رسم الدخول إلى الحفلة أربعة دولارات مع عشاء ودولارين ونصف دولار بدونه. وكان بين المدعوين إلى الحفلة شخصيات مشهورة مثل بوب هوب وألفرد هتشكوك والشاعر الأميركي المشهور روبنسون جيفرز والذي اشتهر بكراهيته للحفلات. غير أن الحفلة فشلت من الناحية المادية ولم تغط تكاليفها مما دفع دالي إلى أن يغادر المنطقة في اليوم التالي مع زوجته غالا كي يعودا إليها بعد فترة. ويعرض المتحف عدداً من الصور التي التقطت في هذه الحفلة وتظهر الشخصيات التي شاركت فيها في أزيائها الخارقة للمألوف.

 كُتب على جدار صالة أخرى كلام للفنان يلخص حياته الفنية كأسطورة من أساطير الفن الحديث: "أنا لا أتعاطى المخدرات، لأنني أنا مخدرات"


















أعمال من "المرحلة الذرية"
من الأعمال المميزة في المتحف المنحوتة المعدنية التي تحمل اسم "العشاء الأخير". وتعود هذه المنحوتة إلى اهتمامات دالي بعد الحرب العالمية الثانية بالموضوعات الفنية التقليدية المسيحية وبالأفكار اللاهوتية. وكجزء من أسلوب دالي الصوفي الذري التجريبي رسم لوحات كثيرة مستندة إلى لوحة ليوناردو دافينشي "العشاء الأخير" كان أكثرها شهرة هي لوحة "السر المقدس لآخر عشاء"، التي استُخدمت كأساس لمنحوتة "العشاء الأخير". كان دالي يعيش في مونتيري حين رُميت القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي في صيف 1945. صدم هذا الحدث دالي وهز قناعاته، فانتقل عمله الفني من التركيز على اللاوعي إلى تركيز أعمق على الوعي، ولم يغير موضوعاته فحسب بل استنبط أفكاراً جديدة وطرقاً جديدة. وفي مقالته "بيان صوفي" التي نشرت في 1951 طرح دالي مفهوم "الصوفية الذرية". وهذه النظرية الفنية الجديدة مزجت بين الدين والرياضيات والعلم والثقافة الكاتالونية في محاولة لإحياء القيم والتقنيات الكلاسيكية.

على جدار إحدى صالات المتحف كُتب بخط عريض ورشيق: "هناك فرقٌ واحد بيني وبين المجنون هو أن المجنون يعتقد أنه عاقل بينما أعرف أنني مجنون" 


















فنان الصدمة والإثارة
لعبت الأحلام دوراً كبيراً في حياة دالي، ودوراً أكبر في لوحاته. وآمن أنه إذا استطعتَ كفنان التواصل مع اللاوعي فإن الفن الذي ستبدعه سيكون أنقى وفالتاً من الرقابة.

وتتجلى هذه الأفكار في كثير من اللوحات المعروضة في متحف دالي في مونتيري، والتي تبين أيضاً أن الفنان كان دارساً متعمقا ومتقناً للفن الكلاسيكي فقد تعلم أسلوب رافايل وفيلاسكويز، وجعل هذه الدراسة أساساً صلباً حلق منه إلى عوالم تجريبية كي يستقصي عبث الحياة في القرن العشرين الجنوني، كما دعاه هو نفسه.
غادر سلفادور دالي وغالا مونتيري في 1948 بعد أن انتهت الحرب ولم يعد، تاركاً خلفه إرثاً ما يزال حديث سكان المدينة والذي تتوج في هذا المتحف الذي كُتب على جدار صالة أخرى فيه كلام للفنان يلخص حياته الفنية كأسطورة من أساطير الفن الحديث: "أنا لا أتعاطى المخدرات، لأنني أنا مخدرات".       

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.