}

في وداع رفعت الجادرجي.. المعماري رؤيوياً

عمارة في وداع رفعت الجادرجي.. المعماري رؤيوياً
رفعت الجادرجي (1926- 2020)

العمارة فنُّ الاحتفال بالحريَّة والإنسان

أنور محمد

هل نستطيعُ أن نكتشفَ أو نتحسَّسَ الجمال في نظرية رياضية أو فلسفية؟ هل نظريات فيثاغورس فيها جمال؟ طبعاً في النظرية جمال، والجمال هنا يتلمَّسه العقل؛ يُدركه بالتفكير أثناء حل النظرية. إنَّ الاسترسال في حلِّ النظرية نحو النتيجة هو الجمال، والقبض على النتيجة هو القبض على الجمال. وهنا مشهد الجمال ليس للبصر علاقة بإدراكه، الفكر هو الذي أدركه؛ يُدركه. إنَّها نظريةٌ، ولكنَّها هنا نظريةٌ معمارية؛ عمرانية، تولَّدتْ عند المعماري العراقي رفعت الجادرجي (1926- 2020) ولَّفَ فيها ما بين عمارة الحداثة الأوروبية والعمارة العربية الإسلامية مثل الجوامع والمساجد والخانات والدور القديمة والأسواق، والتي جعلت منه مُفكِّراً قرأَ المضمون الخفي للعمارة؛ وهو مضمون فلسفي، ونقله في أعماله- مخطَّطاته ودراساته، إلى النظرية الاجتماعية، والعمل الاجتماعي، بقصد تعميم الجمال. فـ"العمارة" كما المسرح والرواية والشعر والموسيقى والرسم، هي فعل مُعارضة للواقع اللاعقلي الذي يعيشه الإنسان مع حاكمٍ يبقى في السلطة حتى ما بعد موته، فلا يُعمِّر؛ وإنْ عمَّرَ؛ فتماثيلَ وأضرحة وأبنية "كومونات" تسهر على أمنه الشخصي، الأمر الذي خرَّبَ، ومن ثمَّ دمَّرَ قيم العمارة العربية، فانتشرت الأحياء/ الحارات العشوائية، وانتشرت معها الأمراض الجسدية والنفسية. حتى إنَّ الناس/ البشر حين عزَّ عليهم السكنُ في هذه الحارات سكنوا في المقابر مع الأموات.



رفعت الجادرجي، ومن قبل حسن فتحي (1900 – 1989) أبو عمارة الفقراء-  في فلسفتهما المعمارية- يُشيعان ويُشيدان ثقافة الإنسانيات التي تحلُّ محلَّ اللاهوت المعماري الديني والسياسي، فلا تصير عمارة المدينة والقرية زينةً وترياقاً وقناعاً يفصلُ- يفصلان بين العلمي والخيالي. رفعت الجادرجي في بحوثه ودراساته التي جاءت في كتبه: شارع طه وهامرسميث، الأخيضر والقصر البلوري، جدار بين ضفتين، العمارة في رؤى- بالاشتراك مع عاصم سلام، في سببية وجدلية العمارة، صفة الجمال في وعي الإنسان: سوسيولوجية الاستطيقا. 

كمعماري يبني فلسفته على حقِّ انتفاع الإنسان من صخور القشرة الأرضية، التي تُشكِّل النواة الصلبة لكل أشكال الحياة. وهذا يتطلَّب من الإنسان أن يتغلَّبَ على عبوديته، وذلك بـ(الجدل)، فيذهب من المنطق التقليدي إلى المنطق المادي- والعمارة مادية، العمارة كما يرى الجادرجي هي هنا والآن باعتبارهما (كُلِيَّين)، ودفاعنا عنهما هو ما يُبقيهما في حال الوجود، والجدل يتتبَّع التحوُّل في عمليات بناء المجتمع المدني. لقد تمَّ قمعُ رفعت الجادرجي فلا يُجادل- تعرَّض للسجن والتعذيب لمدَّةِ عشرين شهراً، قضاها بين أحد أقبية المخابرات العراقية وسجن أبو غريب، بسبب تقارير كيدية حاقدة، وعندما أُفرج عنه في ثمانينيات القرن الماضي هاجر من العراق. ثُمَّ بعد هجرته، هُدِّمَ وأُزيلَ نصبُ الجندي المجهول عام 1981 الذي شُيِّدَ في أوائل ستينيات القرن الماضي، وكان يتوسَّط ساحة الفردوس ببغداد وهو نصب تذكاري يرمز للجنود العراقيين المجهولين الذين سقطوا في الحروب، وأُقيم مكانه تمثال للرئيس صدام حسين، أُزيل هو الآخر مع دخول قوات الاحتلال الأميركي إلى بغداد. السلطة قهرته، حاولت اغتيال مشروعه المعماري لأنَّها حلَّت محلَّ العقل. سلطة/ مُقاولو سلطة يجتثون الأشجار، وكلَّ اخضرار، ليُقيموا عليه مشاريعهم الربحية، فيُصحرونَ الطبيعة، يُصحرون الحياة حيث: الثعابين والسحالي والزواحف والقوارض والقراديات والكثير من الحشرات تملأ شوارع وأسواق وبيوت الناس.

 طبعاً رفعت الجادرجي لا يُخطِّط لمدينة فاضلة، فالدولة العربية لم تُحرز تطوراً، بل ما تزالُ مثل وحشٍ كاسر، فهي ليست كـ(أثينا) التي كانت دولة/ مدينة تُمثِّلُ ظاهرةً طبيعية لعبت أدواراً ووظائف إنسانية حافظت على قوَّتها واستقلالها بسبب انتصارها للعقل الإنساني. الدولة العربية دولة طفيلية لا علاقة لها بالجمال، ولا علاقة لها بالتطور، فهي دولةُ/ مدينة اللا ذات واللا ذاكرة. رفعت الجادرجي في فلسفته المعمارية يدعونا إلى الوعي بالجمال باعتباره حاجة إنسانية، فَنُزيلُ وليس نخفي البُنية المأساوية لعمارة الحاكم وذئابه البشرية. فالعمارة فنٌّ إنساني مهما تداخلت فيها الحداثة مع (القدامى)، واليابسة مع الماء، فهي ذات قيمة رمزية تكشف عن هويتنا، وجمالية تحقِّق الراحة والفرح، ونفعية تحمينا من البرد والحر.

بل لنذهب بعيداً إلى عمارة/ حجارة مصر الفرعونية والعمارة الهندوسية. كَمْ تبعثُ الدهشةَ وهي (قبور)، زالت المساكن؛ مساكنُ الأحياء، وبقيت القبور التي أسكنوا فيها موتاهم. لقد كان مهندسوهم يحتفون بسكن (الآخرة)، كانوا يعملون على توصيل الميِّت إلى الأبدية. فكيف لا يحتفي مهندسونا مثل رفعت الجادرجي بسكن وسكَّان (الأولى)؟ وإنَّ العمارة هي فنُّ الاحتفال بالحريَّة والإنسان، وليس طمساً لصورته. الجادرجي في دراساته ينطلق أو يؤسِّس فلسفته المعمارية من بناء عقل نقدي عربي تنويري، فالسلطات السابقة كما اللاحقة لم تهتم بالعمارة، بل كانت تقوم بهتك سترها بالعدوان والاعتداء عليها حدَّ تدميرها كما حصل في بلدان "السخَّام العربي"، فصار الحجرُ كما البشرُ ضحية سلطة جلَّ همها أن تدمِّر الوعي المدني وتضعنا في فراغ ميتافيزيقي سديمي.


 رفعت الجادرجي ينظر بألمٍ إلى أوروبا التي أقدمت على ثورة فكرية ومعرفية صنعها فلاسفتها وتجارها ومثقفوها، وتحوَّلت إلى قوَّة حضارية حكمت الأرض، فيما نحن العرب نتعرَّض على أيدي سلطاتنا للقتل والتجويع والتجهيل، وما زلنا نفاخر ونعتز بأنَّنا طوائف ومذاهب وعشائر وقبائل. وثرواتنا أو أموالنا بيد أغنيائنا في قمة هرم السلطة أو في قاعدتها هي لاستخداماتهم الشخصية، يصرفونها على ملذاتهم، والأنكى- وهو ما يحرق القلب- يتبرَّعون ببعضٍ منها إلى جامعات أوروبا ومكتباتها.

هل سنبقى بلا سكن، بلا بيت. الله الله بنى له بيتاً على هذه الأرض. ما هذه العقلية التي ما تزال تبكي على الأطلال؛ على بقايا الديار. نُشيدُ عمارةً ثمَّ نُخرِّبها. لم نخترع مُدناً؛ اخترعنا شعراً. لم نخترع استقراراً؛ اخترعنا التنقل والفراق. مع أنَّ في حياتنا الفكرية فلاسفة ومثقفين صاغوا وعينا الاجتماعي لنتمدَّن، ونبني مُدننا وَنَكون، فنكون.



المعماري برأي رفعت الجادرجي، يقوم بدورٍ الرؤيوي، يقوم بتطوير الوعي الإنساني. فالعمارة مثلها مثل الفكرة النبيلة والشُجاعة؛ لا تموت، فهي عمارة عقلانية سوسيولوجية سياسية، متفاعلة متجانسة ومتناغمة في تنوعها. لننظر إلى عمارتنا، لقد تحوَّلت إلى (صناديق- علب) ليس لها أي جذرٍ أو أصلٍ في ثقافتنا العربية، لا روح فيها، عمارة استبدادية؛ عمارة الاستهلاك والغرائز المنفلتة الجارية وراء المتع الحسيَّة، والتي في شكلها ولونها لا تُعبِّر عن ثقافتنا الوطنية؛ كانت تدَّعي التراثية أو الحداثة الغربية، لأنَّها عمارة تستخدم قيم جمال التراث كما الحداثة وما بعد الحداثة، والعولمة وما بعد العولمة، إلى الكورونا لتوطيد سلطتها؛ استبدادها.

رفعت الجادرجي في خطابه المعماري يوحِّد ما بين العقل النظري والعقل العملي، فهو ضد إخضاع الفكر والثقافة للسلطة؛ كانت سياسية أو دينية. ثُمَّ مَنْ قالَ إنَّ (التراث) في جوهره هو ضد العلم والمعرفة والجمال؟ الفن إحساسٌ فطري عند الإنسان، فالمسرح اليوناني يفرجينا فجيعة الإنسان حين يواجه الحقيقة، والرومان الذين اشتهروا بالحروب أشادوا أبنية تدلُّ على جمال فكرهم المعماري، ومساجد دمشق والقدس والقاهرة وبغداد ومُستغانم بأقواسها وأسقفها وزخارفها ذات الأشكال الخماسية والثمانية تكشفُ عن الفاعلية السحرية السيميائية للعقل الذي صمَّمها.
الفن عموماً، والعمارة كما عند رفعت الجادرجي وحسن فتحي ومحمد مكية وزها حديد وقحطان عوني وراسم بدران وشهيرة فهمي وبرنارد خوري وباسل البياتي ورئيف المهنا وسارة صادق وآخرين، هي قراءة حدسية تأملية، تؤسِّس لميتافيزياء كونية، تستكشف وتكشف عن فيض الحب والجمال والسلام عند الإنسان. فكيف يتجاسر الطاغية الذي بنى قصوراً وقصوراً يمارس فيها عهره أن يستلب هذه القيم ويسمي عمارة الفقراء، عمارة الناس، عمارة حسن فتحي ورفعت الجادرجي وأمثالهما، عمارة عصيانية.

*ناقد سوري.



مفكّر العمارة الحديثة

أشرف الحساني

على مدار سنوات طويلة، ظل اسم المعماري العراقي رفعت الجادرجي (1926-2020 )، علامة بارزة في تاريخ الفن المعماري العربي الحديث، مكانة يُجاريه فيها مواطنوه زها حديد ومحمد مكية ومدحت علي مظلوم وغيرهم ممن أبانوا عن نضج فني مجدد للعمارة العربية خاصة في العراق وما استطاعوا أن يستحدثوه من قيم فنية وجمالية وخصوصية ذات طابع معماري عربي ومحاولة توليفها مع الخصوصيات المحلية الموائمة للبيئة العراقية وبيوتاتها التقليدية والأخرى القادمة من الغرب المتأثرة بالحداثة والمعاصرة، وهو أمر عاينه الجادرجي إبان دراسته، بحكم حصوله على الدكتوراه الفخرية من إحدى الجامعات البريطانية، وهو ما حاول بلورته في العديد من أعماله الفنية والمعمارية داخل العراق، إذ أن سمة التجديد وهاجس التفكير والمغاير والاختلاق يتبديان بشكل كبير في العديد من أعماله التي حاول أن يحافظ فيها على الطابع التراثي العربي ولكن بطريقة حداثية، سواء من حيث أسس البناء أو المواد المُستعملة في "نصب الحرية" ببغداد،

الذي صاغ هندسته التشكيلية من البرونز الفنان العراقي الكبير جواد سليم، وهو النصب عينه الذي انطلقت منه شرارة سلسلة المظاهرات التي شهدها البلد مؤخراً، لما له من قيمة سياسية وثقافية وفنية في مُخيّلة المواطن العراقي، الذي وجد في ساحة التحرير الموجود فيها النصب التذكاري المكان الأنسب للتعبير عن جرحه وألمه ومطالبه الحياتية البسيطة. إن قيمة وأهمية "نصب الحرية" لا تقتصر فقط على البعد السياسي الذي يزخر به، ولا أيضا على المواد المستعملة في طوبوغرافيته التشكيلية والجمالية التي سجل بها جواد سليم سلسلة من الرموز والأحداث القديمة، بل في قدرة تمثل المعماري الجادرجي على التفكير في جوهر المعمار بوصفه مختبراً للحداثة والتحديث داخل بيئة عربية تتسم بالتقليد وتُحارب الصُورة وتكن لها العداء التاريخي، الذي لم يتحرر منه العقل العربي إلى حدود الآن.



وبالتالي فإن إنجاز "نصب الحرية" بتلك الجمالية والجرأة السياسية والفنية، التي ميزت الجادرجي، لم يكن ليتوفر لديه لولا دراسته وربما سفره المبكر صوب الغرب،

ما أتاح له إمكانية الوقوف عند الميراث الفني للبشرية وفهم الخصوصيات الحضارية والفنية لكل بلد، بل وأيضا سياقاته التاريخية والاجتماعية المُترسبة في مخياله الفني عبر سنوات مديدة، هو القادر بموجبه أن يتحصل المرء على فكر نقدي ومغاير لطبيعة العمارة، كما نُعاينها داخل عدد من البلدان العربية، بل الأكثر من ذلك هو حجم التفكير الذي قد يخصصه المرء للتفكير في قضايا العمارة، لأن هذه الأخيرة تتجاوز البعد الفني والبنائي لتلتقي مع أسئلة تخص الفكر والحداثة والأصالة والمعاصرة وغيرها من الثنائيات المفهومية، التي تحرك بوعي شديد مفهوم العمارة، وهو الأمر الذي قاد هذا المعماري العراقي إلى دراسة الفلسفة وكتابة جملة من المؤلفات في هذا المضمار نذكر منها : "دور المعمار في حضارة الإنسان"، "في سببية وجدلية العمارة"، "شارع طه وهامرسميث.. بحث في جدلية العمارة"، "الأخيضر والقصر البلوري: نشوء النظرية الجدلية في العمارة".

قادت تجربة السجن لمدة 20 شهراً في سجن أبو غريب المعماري رفعت الجادرجي إلى الانزواء والعزلة والانكباب على تأليف الكتب والأبحاث العلمية المُتخصصة في جماليّات العمارة العربية والعراقية على الخصوص، بحكم الأمية والفراغ المهول الذي يعاني منه هذا المبحث الجمالي داخل كتب تاريخ الفن العربي (إنْ وُجدت طبعاً) ولذلك حاول إثراء المكتبة العربية بهذه الكتب، التي تشكل قيمة أكبر للباحث العربي وأحد أهم المراجع العربية الموثوق بعِلميتها داخل البحث العلمي، بسبب أن صاحبها ليس أكاديمياً يقتصر فقط على الهاجس التحليلي والتنظيري، وإنما مُبدع مخضرم في جماليّات المعمار العراقي. وهذا الشح الذي تعاني منه المكتبة العربية تلمسه الجادرجي بوعي مُبكراً، منذ تخرجه عام 1951، فحاول من خلال ذلك التأليف والتفكير في خصوصيات هذه العمارة، لأن الفكر العربي ظل في نظره لا يُعامل المعماري باحترام، ثم إن كتاباته في هذا الشأن لم تأخذ طابع العلمية من حيث المصطلحات والمفاهيم المُتداولة داخل الكتابات التي حاولت تناول ومقاربة المعمار العربي.



والحقيقة أن هذه الإشكالية، لم تظل مقتصرة حول المعمار فقط، بل إننا نجد في حالات غريبة تمركز الفكر العربي حول قضايا وإشكالات مرتبطة بالاجتماع والسياسة،

مُتناسياً قيمة الفن التشكيلي والسينمائي والمعماري، وما تستطيع هذه المجالات أن تفتحه من آفاق للتفكير والمساءلة، باستثناء المعمار الإسلامي، الذي أولى له العرب من الباحثين مجموعة من الدراسات، وإن كان هذا الأمر راجع بالأساس إلى الدور الكبير الذي لعبه المستشرقون في تناول هذا الفن بالدرس والتحليل. ثم إن اهتمام العرب بالعمارة الإسلامية والعربية، لم يأت إلاَّ في اللحظة التي أحسوا أن هويتهم باتت مهددة أمام المد الكاسح للعولمة، وهو اهتمام جاء متأخراً نوعاً ما بسبب العداء الذي سبق ذكره للصُورة والتصور، باستثناء دول قليلة استطاعت إلى حد ما التغلب على هذه النظرة الفقهية للنحت والصورة التعبيرية والتجسيدية بشكل عام، خاصة في بلد مثل العراق وتونس، بسبب توفرهما على كليات للفنون ساعدتهما على الاستثمار في تراثهم الفني والجمالي بطرق شتى.



إن مفهوم العمل الفني عند المعماري رفعت الجادرجي هو مفهوم مركب، لا ينطلق فقط من البعد التزويقي الذي قد تنضح به البناية، بقدر ما هو عمل فكري لولبي،

ينطلق أساساً من مفهوم نظري ومن خزان فني وجمالي مُتشعب التأثيراث الحضارية، يُراعي الخصوصيات المحلية للبيت العراقي مع محاولة خلق نوع من التحديث والعصرنة عليها بطريقة، يُصبح فيها مفهوم الهوية شعاراً للاختلاف. صحيح أن الرعيل الأول ظلت أعماله تتسم بنوع من التقليد الحرفي للمباني البريطانية بسبب التأثر والسحر الذي عاشوه، ثم بسبب الاستعمار الذي خلق نوعاً من المثاقفة لم تكن تلقائية بل مفروضة، فجاءت معظم أعمال هذا الجيل ذات تأثر بالحضارة البريطانية المتمثلة في أغلب البنايات الحكومية.


لكن مع الجيل الثاني من المعماريين العراقيين الذين بدأت أعمالهم تتبلور وتنضج ابتداء من سنوات الستينيات، وجد الفنان رفعت الجادرجي نفسه مطالباً بالثورة على الرؤية القبلية، التي احتكم اليها الجيل الأول في ممارساته الفنية، وهذا الأمر، لم يكن سهلاً على شاب تخرج حديثاً من بريطانياً ومطالب بالبحث النظري قبل أيّ شيء آخر، فحاول منذ ذلك الإبان المزج في سيرته بين الممارسة المعمارية والتأليف النظري، وإن كان هذا الأخير له قيمة أكبر في نظري، لأنه استطاع بالفعل أن يُحرر الدرس المعماري من لغة أدبية أو فنية عاشقة ليفتح له آفاقاً رحبة عن طريق لغة علمية ذات خصوصية أكاديمية، لا تخرج عن سياقاتها العلمية ولا حتى أن تستعير اللسان الإنكليزي للتعبير عن قضاياها العربية ومفاهيمها وآثارها وبناياتها ومنحوتاتها وكافة الأساليب الفنية والتعبيرية، التي تنطلق من جوهر البلاد العربية، خاصة بعد تجربة السجن واعتزامه التوقف عن العمل والتفرغ للتأليف والدراسة، التي  قادته إلى دراسة الفلسفة في جامعة هارفارد وحصوله على عدد من الجوائز الرفيعة اعترافاً بقيمته وأهميته المتفردة داحل الساحة المعمارية العربية معمارياً لا تقل أهميته عن آخرين كبار في البلاد العربية في مصر والمغرب وسورية، بل وفي العالم ككل.
*ناقد فني مغربي



مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.