}

فنّ العزلة.. أن تكون سعيداً وسط الحشود

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 27 أبريل 2020
اجتماع فنّ العزلة.. أن تكون سعيداً وسط الحشود
"العزلة ليست بالضرورة هي الشعور بالوحدة- حنا أرندت" (josephineelia)
يقال إن الإنسان كائن اجتماعي. لكن، ألا يبدو الاجتماع نتيجة الشعور بالوحدة أكثر من كونه طبيعة متأصلة في الإنسان؟ أليست العزلة هي العمق النهائي للشرط الإنساني طالما كان الإنسان، بحسب أوكتافيو باز، هو الكائن الوحيد الذي يشعر بأنه وحيد والذي يبحث عن الآخر؟
لكن المضي في البحث عن الآخر إلى أقصى حد قد ينتهي إفراطا في الاجتماعية على حساب الذات المحتاجة دوما لمحطات من المواجهة معها؛ مساءلتها واستنطاقها، ولذلك يمتدح فيثاغورث العزلة التي تجعل من الفكرة التائهة الجادة فكرة قابلة للتحقق: «في الصباح، هناك العزلة..  تلك الطبيعة قد تتحدث إلى المخيلة، بطريقةٍ لا تفعلها مُطلقاً في وجود صحبة».
اليوم وفي خضم تدابير الحجر الصحي، وهزيمة الطب في جولة أولى أمام فيروس كورونا المستجد، وفي مواجهة ما استجد واستبد بنا، ذهب معلقون إلى مديح العزلة بوصفها فضيلة، وفي تقديم نصائح للجمهور حول الطرائق المثلى لقضاء الوقت في مواجهة ألم القلق ولحظات الملل. لكن، هل الفضيلة تكمن في قضاء الوقت أم في استخدامه؟ وهل ينجح الجميع في الاختبار؛ اختبار العزلة في مواجهة الذات في لحظة صمت وراء ضجيج العالم، التي فيها يُختَزَل كلٌّ منا في موارده الذاتية ولا شيء غيرها؟ 

في نصه "لو كنتُ غيري" (ديوان "أثر الفراشة") يذهب محمود درويش إلى أن العزلة هي "كفاءة المؤتَمَن على نفسه"، مؤكدا أن قدرتك على أن تكون وحيداً «هو تربية ذاتيَّة. العزلة هي انتقاء نوع الأَلم، والتدرّب على تصريف أفعال القلب بحريّة العصاميّ ... أَو ما يشبه خلوَّك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلَّة نجاة». فليست العزلة مجرد انعكاس الصورة في لعبة المرايا، بل هي المطياف (الموشور) الذي يحلل ضوء الذات ويكشف عن ممكناتها من ألوان، ثم تركيبها باختيار حر يستلزم جرأة ميتافيزيقية للنفاد إلى الجوهر: «تجلس وحدك، كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن. العزلة مصفاة لا مرآة (...) العزلة هي اختيار المُتْرَف بالممكنات... هي اختيار الحرّ. فحين تجفّ بك نفسُك، تقول: لو كنتُ غيري لانصرفتُ عن الورقة البيضاء إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى. لعلّه ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون. لكن تنقصني الخبرة، والقسوة الميتافيزيقية تنقصني».

مع أوكتافيو باز تبدو العزلة امتحاناً لقدرة المرء على التماسك:

" جرعة صغيرة من الصمت تكفي،

وكل شيء ما زال، في مكانه الصحيح، تماماً كما جسدي في مكانه".

لوحة  للفنان كارلو ماراتا (متحف أشموليان) 


















هل جميعنا قادر على التماسك واجتياز
الامتحان جاعلاً من العزلة فضيلة؟
كل منا محكوم عليه في نهاية المطاف بأن يترك وحيدا (يوهان غوته)، وفي نهاية الرحلة سيتركنا الجميع، فنبقى وحدنا، إما لنصنع سعادتنا، أو ننطلق للبحث عنها (غولد سميث). فشرط السعادة هو الاكتفاء بالذات (أرسطو)، ولما كانت الطبيعة سرمدية والأشياء عارضة، فإن شوبنهور، فيلسوف الإرادة، لا يعوّل على المصادر الخارجية والمتع العابرة (الحب، ركوب الخيل، الشغف بالسفر، روح المرح...) لتحقيق السعادة، لأنها مُصطنعة؛ عشوائية ومنفلتة، طالما أننا لا نحصل عليها وقتما وكيفما نشاء، وتتخلى عنا رويدا رويدا مع تقدمنا في السن. الموضوعي إذاً هو ميدان الحظ والصدفة والتغير الدائم، بينما الذاتي نتحكم فيه، فيظل جوهريا. لذا علينا أن نتمسك بكينونتنا أي ما نحن عليه؛ ذواتنا ولا شيء غيرها، المصدر الوحيد الدائم للسعادة، فالأقدار فظة وشرسة، ونحن في مخالبها مثيرون للشفقة، وحتى لو تخلصنا من الألم تربّص بنا الملل.

الأساس في سعادة الفرد هو المدار الجواني، والخارجي مشروط به. وهذا الجواني؛ عالم الفرد الخاص، محكوم بطريقة إدراكه للأشياء التي تختلف تبعا للذكاء، والوعي الذي يتوقف عليه كل ما عداه، بما في ذلك الصور التي نتمثلها من خلاله، فكل ما هو مبهج وممتع قد يبدو فقيرا وأجوف عندما ينعكس في الوعي الموتور للأبله. النعم الذاتية، من طبع نبيل وعقل راجح ومزاج رائق والنفس المرحة والجسم السليم تبدو مع شوبنهور أدوات مواجهة الذات لبلوغ السعادة.
السعادة من نصيب أولئك الذين أوتوا من القدرات العقلية ما يفوق حاجة إرادتهم منها لتنمو حياتهم من كل أثر للألم والملل. بالنسبة للعوام، نقطة جاذبيتهم تقع خارج ذواتهم فلا تستقر نزواتهم وأمانيهم على حال لتبقى عرضة لسوء الحظ وحسنه، أما صاحب العقل فمركز جاذبيته يقع داخله، فيستقبل العزلة بالأحضان، ويعتبر وقت الفراغ خيرا أسمى.

لوحة القارئة للرسام البلجيكي ألفريد إميل ليوبولد ستيفنز (1823-1906) 

















بين حدين: الفراغ الخارجي والثراء الداخلي
يذهب شوبنهور إلى أن العدوين اللدودين للسعادة البشرية هما الألم والملل، وبقدر ما يبتعد الإنسان عن الأول يقترب من الثاني، ولا تعدو الحياة البشرية أن تكون تأرجحا متواصلا بين الحدين بدرجات متفاوتة في الحدة والشدة. الحاجة تولّد الألم ويتمخض الملل عن إحساس الإنسان بالأمان وعيشه في رفاه. لا غرابة في أن المعوزين من الطبقات الدنيا يكافحون ضد الألم، والميسورين يكافحون ضد الملل.

العقل البليد والحساسية المتبلّدة يسيران جنبا إلى جنب صاحبهما، يتركانه عاجزا عن التأثير بالمحيط، إلا أنه يئن تحت وطأة فراغ داخلي يقضيه في حشر نفسه في كل حدث خارجي على تفاهته وسخفه. هذا الفراغ مصدر للملل الذي يدفع صاحبه إلى الاهتمام الشره بشؤون الآخرين ويتفاعل بسرعة مع الهيجانات الخارجية كي يشغل قلبه وعقله بأي شيء. ها هي أفواج المتسكعين يجوبون العالم طولا وعرضا، يدفعهم الخواء الداخلي إلى البحث عن كل أنواع التجمعات البشرية والتسلية لتمضية الوقت، ركضا وراء المتع ومظاهر البذخ، ما يقودهم في النهاية إلى تبذير ممتلكاتهم والسقوط في هاوية البؤس والإفلاس. لا علاج لهذا البؤس إلا الثراء الداخلي؛ ثراء العقل والروح، الذي بقدر ما يرفع صاحبه ويسمو به بقدر ما يبعده عن الملل وأسبابه. النشاط الذهني ورجاحة العقل يجعلان صاحبهما بمنأى عن الملل وخارج قبضته، إلا في حالات التعب العابرة؛ فهذا الألمعي تلازمه حساسية متقدة ومفرطة متأتية من إرادته المندفعة التي يتولد عنها الشغف الشديد، مما يولّد لديه كثافة انفعالية، وحساسية زائدة للآلام الأخلاقية والبدنية، وعدم التحلّي بالصبر الكافي في مواجهة العراقيل والمثبطات، حتى الإزعاجات البسيطة.

الألمعي اللبيب يسعى لتجنب مصادر الألم، ومسببات الإزعاج، ويتلمس سبل الراحة، ويستغل أوقات الفراغ والتفرغ، فيبحث بلا كلل أو ملل عن حياة هادئة بسيطة، وبعيدة أشد البعد عن كل مصادر الإزعاج، ويجد في العزلة عزاءه الأخير بعد معاشرته الطويلة للناس، عامة الناس. يؤكد شوبنهور، أنه بقدر ما يمتلك الإنسان أشياء كثيرة بدواخله بقدر ما يشتد استغناؤه عن الناس والعالم الخارجي، أما صغير العقل، فما أن يفرغ من إشباع حاجته الأساسية، وينعم بقليل من الراحة، حتى يندفع بحثا عن تمضية الوقت كيفما اتفق، ويخالط الناس دون تمييز، فهو ينسجم مع الجميع ولا يفرّ إلا من نفسه.
العامي مشغول بقضاء الوقت، أما الألمعي فمشغول باستعماله الحسن، وتدبيره الأمثل، فذوو العقول الصغيرة فريسة للسأم، لأن طاقتهم العقلية أداة طيّعة بين يدي البواعث المحركة للإرادة، فإن اختفت البواعث خلدت الإرادة للراحة، وتعطلت الطاقة العقلية، اذ يستحيل على الإرادة أن تتحرك. كل الحماقة يراها شوبنهور في أن تخسر داخلك لتربح الخارج، فشرط السعادة هو الاستعمال الحر للملكات المتّقدة، والخارجة عن المألوف، أما تلك القدرات البدائية فلا تصلح إلا للكفاح ضد الحاجة، وما أن يحصل عليها ويخلد كفاحه هذا إلى فترة من الهدنة، حتى تنقلب هذه القدرات عالة على صاحبها، يستعملها استعمالا عشوائيا، فإن لم يفعل، وجد نفسه فريسة الملل؛ المصدر الآخر للألم.

 شوبنهور 

















العزلة بين الأنا والآخر
لكن ماذا لو أصبحنا وحيدين في عزلتنا؟ كيف نوفق بين العيش مع النفس في مجالنا الخاص، والعيش مع الناس في الفضاء العام؟ ألا يقال إن العزلة أمرٌ جيد، ولكنك تحتاج شخصاً ما لتخبره بأن العزلة جيدة؟

من تغطيتها لمحاكمة أدولف آيخمان، ضابط وحدات النخبة النازية "إس إس" وأحد منسقي "الهولوكوست"، لم تجد حنا أرندت في أيخمان رجلا شريرا، بل شخصا عاديا، يفتقر إلى الخيال، وتقليديا بشكل تام، وأرجعت رغبته القوية في ارتكاب الجريمة إلى عدم الاكتراث الناتج عن عدم امتلاكه القدرة على التوقف والتفكير من خلال ذلك التواصل الصامت الذي يتيح لنا تفحّص ما نقول ونفعل، ولذلك لم يبال آيخمان بالتناقض مع نفسه، ولم يحاسبها ويمنعها من ارتكاب الجريمة حين افتقر إلى العزلة كعملية ضرورية لطرح التساؤلات والإجابة عنها، وبالتالي تفحّص معنى الأشياء، والتمييز بين الحقيقة والوهم، وبين الخير والشر. فلكي يكون لدينا عالم يخلو من الشر، تشترط أرندت، أن يكون لدينا أشخاص منخرطون في التفكير بوصفه نشاطا يتطلب العزلة، فالعيش مع الآخرين، برأيها، يبدأ من العيش سويا مع أنفسنا.
في عزلتها، لم تكن أرندت وحيدة حقا، كما تقول، اذ كانت ذاتها الداخلية صديقتها التي يمكن أن تجري معها محادثة، فذاتك هي الشخص الوحيد الذي لا يمكنك الابتعاد عنه إلا حين تتوقف عن التفكير. يمكن للعزلة أن تكون الحالة الطبيعية لأي عمل أركّز فيه لدرجة أن حضور الآخرين، بمن فيهم ذاتي، لا يمكنه أن يربكني، العزلة هنا فعل إنتاجي لصنع شيء. حتى مجرد قراءة كتاب يحتاج إلى درجة ما من العزلة أي الحماية من حضور الآخرين. وقد تحصل العزلة كحالة سلبية أيضا، فقد يهجرني آخرون أشاركهم قلقا يخصّ العالم، يتكرر ذلك في الحياة السياسية، هنا العزلة فراغ مفروض على المواطن نفسه الذي فقد صلته بشركائه في المواطنة.

وبرأيها العزلة ليست بالضرورة هي الشعور بالوحدة، إلا أنَّ الوحدة قد تمهد للعزلة التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية، ونتيجتها الخطيرة في آن واحد. وبينما تتعلق العزلة بالجانب السياسي فقط من الحياة، فإنَّ الوحدة تتعلق بالحياة الإنسانية ككل. الحكومات الشمولية، لا يمكنها البقاء دون تدمير المجال العام من الحياة، أي دون تدمير القدرات السياسية للناس عن طريق عزلهم. لكنَّ الجديد في الهيمنة الشمولية باعتبارها نمطاً للحكم، أنها لا تكتفي بهذا العزل، وإنما تدمر الحياة الخاصة أيضاً. تبني هذه الشمولية نفسها على الشعور بالوحدة، وعلى تجربة عدم الانتماء إلى العالم مطلقاً، وتلك واحدة من أكثر التجارب الإنسانية راديكالية وقنوطاً. وحين يفقد المرء القدرة على الإضافة لمحيطه المألوف تصبح العزلة وحدة.

الاختلاء: العزلة الفاضلة
يمكن للعزلة بهذا المعنى السلبي أن تُحتَمَل إذا تحولت إلى "اختلاء" (Solitude). في حالة الاختلاء، وبالرغم من انفرادي، لا أكون لوحدي بل برفقة آخر (الذات)، أي نصبح اثنين في واحد.

أما الوحدة (loneliness) والعزلة (Isolation) فلا تحتويان على هذه الثنائية التي يمكنني خلالها طرح الأسئلة على ذاتي وتلقي الإجابات، وإذا ما توقّف التفكير لسبب ما فإنك تصير واحدا مجددا، تملك إدراكا أو وعيا ذاتيا، لكنك لم تعد تملك ذاتك بشكل تعبيري كامل، هنا أنت بلا صحبة، لذا تطلب صحبة الآخرين: أشخاص، كتب، موسيقى... وإذا خذلوك أو لم تستطع التواصل معهم، ستشعر بالضجر وبالوحدة. ليس عليك أن تكون بمفردك، فيمكنك أن تكون وحيدا وضجرا في وسط الزحام، لكنك لست كذلك في اختلاء فعلي، أي بصحبة الذات أو مع صديق بمعنى النفس الأخرى، فتحمّل الوحدة وسط الزحام أصعب بكثير من تحمّل الانفراد في الاختلاء.

البقاء وحيدا: فن العودة إلى الذات
قد تكون الروابط الاجتماعية هي المحور الذي تدور حوله حياة الإنسان، في جميع مراحله العمرية، منها يستمد قوته ومتعته يشبع شغفه بالحياة، في علاقة تبادلية مع الآخرين، لكنه أيضا يشعر بحريته ويسعى إلى التميز والاختلاف والاستقلالية، فحالة الانصياع التام والعيش وفق توقعات الآخرين يحول دون توافق الفرد مع ذاته ففي سعيه لإرضاء الآخرين سيبقى منفصلا عن مشاعره ورغباته الحقيقية وسيصل الى تلك اللحظة القاسية فيعلن: "ليس لحياتي من معنى". الاجتماع يوفر فرصة لاكتشاف ذواتنا، لكن حقيقة ذواتنا نصنعها وفق بوصلتنا الداخلية بالقدر الذي تحررنا فيه من قيود الانصياع.

لا يتيح العصر الحديث عزلة الكهان أو الأنبياء أو القديسين، فمهما كنت وحيدا حتى بجسدك ستخترق عزلتك التكنولوجيا ووسائلها، الفضاء الافتراضي بيئة خصبة لـ"رجل الحشود" (أستعير التعبير من إدجار آلان بو) لا تزال تتسع تاركة هامشا أضيق للتفرد. من جهة أخرى، العزلة ليست طارئا تفرضه تدابير الحجر الصحي، بل هي أسلوب حياة يتقنه قلّة من البشر المحظوظين بطاقاتهم العقلية، حيث العزلة فضيلة تليق بعنفوانهم الداخلي، والذين يرفضون نمط الحياة السطحية التي تنمو طوليا فيغيب عنها العمق، والتي ما أن تتوقف الأهواء التي تحركها حتى يتسرب إليها الضجر، فتغدو بلا طعم.
وعلى خلاف "رجل الحشود" الذي يعيش تلك الحياة ببعدها الواحد يحيا الألمعي المتفرد حياتين: حياته الخاصة التي يشترك فيها مع عامة الناس، والحياة العقلية التي تنمو على نحو تصاعدي إلى أن تغدو، وفق تعبير شوبنهور: «غاية غاياته كلها، وما عداها يغدو وسيلة». إنها العزلة السعيدة التي تتمثل في "الاختلاء".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.