}

فيتوريو غريغوتي.. سيرة موجزة للعقلانية الإيطالية في العمارة

أحمد محسن 3 أبريل 2020
عمارة فيتوريو غريغوتي.. سيرة موجزة للعقلانية الإيطالية في العمارة
فيتوريو غريغوتي في مكتبه في ميلانو/ إيطاليا (18/2/2002/Getty)
ليس سهلاً إيجاز سبعين عاماً من العمل المتواصل. تقريباً هذا مستحيل في مقال واحد. وليس سهلاً الاستسلام لمديح الأعمال أو الافراط في النقد للتباهي. في حالة المعماري الإيطالي، فيتوريو غريغوتي، يكفي الوقوف على شرفة اسمها إيطاليا والتأمل. تأمل جانب وافر من التاريخ المعاصر للعمارة الإيطالية، في سيرة رجلٍ واحد. توفي غريغوتي بعدما أصيب بفيروس كورونا، عن 92 عاماً، ولكنها لم تكن أعواماً تمرّ لمجرد المرور. كانت تاريخاً طويلاً.
التياترو، ذلك الصرح العملاق، مسرح أرشيمبولدي، في ميلانو، هو من تصميم غريغوتي. الستائر أسدلت. هناك أيضاً، في بيكوكا، تقع دار الأوبرا. عمارة أثارت الجدل. الآن تراقب تفشي الجائحة حولها. تتابع انحناءة لومبارديا البطيئة. لكن ما المثير في الجدل بالضبط؟ ربما التحول الرأسمالي. لقد كان التياترو مصنعاً لإطارات بيريللي الشهيرة. رغم ذلك، منح التصميم الجديد القاعة أبعاداً أكثر رحابة، من دون أن يفتت الذاكرة، بوصفه مكاناً بذل فيه العمال جهداً، وصرفوا أياماً فيه. هذه التغيرات في التصميم، سمحت بتغيرات في المحتوى الذي يقدّمه المكان، خاصةً بعد الإضافة المعمارية، إذ صار استضافة عروض موسيقية جديدة، وليس فقط الكلاسيكية، وأتاح التجريب في المسرح أيضاً. هذا المبنى يصلح لأن يكون مدخلاً لفهم حياة المعماري الكبير. قامت فكرته في بيكوكا على مسألتين، رافقتاه طوال حياته كهاجسين: التحديث وحماية الذاكرة بتدرجاتها المتفاوتة.

تفاصيل الصالة الرئيسية بالاتسينا دي كاكشيا في ستوبينيجي تجسد فن العمارة الإيطالية
















لهذه الأسباب، من بين أسباب أخرى كثيرة، كان غريغوتي في البداية، من أنصار العقلانية في العمارة. كان ذلك خياراً ضدّ النزعة الانقلابية الفاشية، في زمن كان الخوف من هذه النزعة موجوداً في وعي الفن الإيطالي عموماً. وعلى أي حال، العقلانية في العمارة ليست مثل العقلانية في الفلسفة، بل يختلف تعريفها باختلاف أدواتها، وباختلاف تطوراتها التاريخية. العقلانيون الايطاليون، مثلاً، كانوا أكثر ميلاً لعمارة غير قومية، يمكن أن تعبر البحر، وتلتقي مع اليابسة بعد الشواطئ. بعض النقاد يتحدثون عن علاقة "المتوسط"، وتأثيره على هذه الأفكار، وبعضهم يضعها في سياق الحرب على الإرث الفاشي، لكن الجزء الأكبر يجمع على صوابية العاملَيْن، إضافة إلى عوامل أخرى، أدت إلى الخروج من سطوة التقاليد إلى أعمال أكثر قدرة على الحسم والتعبير. بمعنى من المعاني، كان واحداً من العقلانيين. معماري شيوعي، ولد لعائلة ميسورة في الجنوب. كان شائعاً أن يكون المنتمون إلى الأنتلجنسيا

الإيطالية، منذ أوائل القرن الفائت، وحتى آخر سبعينياته ماركسيين، لكن، لم ليس شائعاً أن تكون عائلات الجنوب ميسورة مقارنة بمثيلاتها في الشمال. وكانت لديه ميزة المعماريين المثقفين عموماً، بمعزل عن الطريقة التي استخدم فيها ثقافته. كان من الطبيعي جداً لمعماري أتى من الجنوب إلى الشمال في إيطاليا أن يفهم جيداً العلاقة بين ثلاثة اتجاهات: العمارة كتشييد هندسي، التخطيط المديني، إضافة إلى فهم معاني وأبعاد التصميم الصناعي انطلاقاً من فهم نظري أساسي عن العلاقة بين رأس المال وجميع هذه العناصر. وحسب دارسيه، ستجد جميع هذه العناصر حاضرة في كتابه "الاتجاهات الحديثة في العمارة الإيطالية"، كما لو أنها شكلت وعيه بهذه العمارة. هذا الوعي تراكم فوق وعي علمي، بنقده وتفسيره لعمارة ما بعد فاشية، وعمارة ما بعد الحرب في إيطاليا.
صمم غريغوتي كل شيء. استاد برشلونة الأولمبي، ومثله في جنوى. الكنائس، وبعضها أثار جدلاً كبيراً، لشدة انقطاعها عن التقاليد الكاثوليكية في العمارة. المفارقة أن الكنيسيتين الأشهر من تصميمه تقعان حيث تفشى الوباء الذي قضى عليه، "كولبي" في برغامو، والقدّيس ماسيميليانو في ميلانو. التياترو الذي كان معملاً للإطارات، ومساكن العمال في باليرمو، الذي شهد موجة نقد عنيفة، ودافع عنه بالقول إن التنفيذ لم يعكس التصميم الأساسي. لكن ثمة ما يجمع هذه الإنشاءات الرهيبة: الحضور القوي. قدرتها الدائمة على الاستيلاء على المساحة البصرية الأشمل من المكان، انطلاقاً من قدرة فريدة على الاندماج مع المكان نفسه.

 بياتزا ديل كامبو في سيينا. مثال ممتاز على فن العمارة الإيطالية في القرون الوسطى.

















سيمر في سيرته، أيضاً، التي ضاعت في زحمة الأخبار عن تفشي الوباء، أنه كان مديراً لقسم الفنون البصرية في تظاهرة "بينالي" الثقافية الشهيرة بالبندقية، تحديداً في منتصف السبعينيات. لم يكن حضوره عابراً، بل حضور المقيم. من بعده، صارت العمارة جزءاً رئيسياً من التظاهرة، إلى جانب الفنون التشكيلية، حيث تناول على مر السنوات مواضيع إشكالية ودسمة، من دون أن يخلو الأمر من التخريب الذي قامت به إدارات لاحقة للمعرض، ولا سيما بفسح المجال في السنوات الأخيرة أمام معماريين من دولة الاحتلال الإسرائيلي، لعرض إنشاءات بطابع يرمي إلى مديح الطابع الاستعماري لـ"العمارة الإسرائيلية"، إلى درجة عدها كثير من النقاد الإيطاليين فاضحة.
في دراساته الكثيرة، ولا سيما "أقاليم العمارة"، لم يحاول تحريك المياه الراكدة. كان معمارياً حتى في أبحاثه، يعرف أن وظيفة النهر في اللوحة ليست أن يتحرك، ووظيفة المبنى في

التاريخ ليست أن يتحول إلى طوطم. دراساته ليست نهائية في العلاقة بين العمارة والمدينة، تحديداً في بلد مثل إيطاليا يشهد تحولات تتفاوت سرعة حدوثها، لكنها بلا شك كانت دراسات رائدة في زمانها. هكذا، ترك غريغوتي آثاراً كبيرة، ولكنه لم يترك أثراً واضحاً. يمكن القول إنه كان تجديدياً، ولكنه كان يحتاج إلى نسق خاص. هذا ما رفضه من دون أن يعلن ذلك. ربما عاش طويلاً، لأن هذا الشغف كان موجوداً دائماً خلف حياته. الشغف بالهروب من صورة واحدة، من التحول إلى واحد من الإنشاءات الهائلة التي صممها. كان يجب أن ترتبط هذه الإنشاءات به، لكن أن يحافظ على مسافة منها، لكي يراها كما يراها الآخرين، وألا يشعر أنه جزء منها.
عامل آخر لم يكن في مصلحة شهرة المعماري الإيطالي: لم يترك ورثة. كان أستاذاً، ولكن من دون تلامذة. في حياته الطويلة، وغالباً لنزعة منه إلى العطاء أكثر من رغبة ذاتية بالعيش في أعمال الآخرين، أسس مؤسسة تعنى بالتعليم والبحث عن المواهب في العمارة. وهذا يفتح سجالاً جدياً في إيطاليا، أي اغلاق هذه المؤسسة، لعجزها عن الاستمرار. نقاش فضفاض عن تعريف الموهبة، وعن سلطة التراث، وعن علاقة الباحثين عن الموهبة بالباحثين عن المعرفة. إحدى الانتقادات لغريغوتي تتمحور في عدم تعاونه مع معماريين لامعين آخرين لإنجاح أكثر مشاريعه طموحاً. كان إغلاق هذا المحترف حدثاً سيئاً، ولكن كانت هنالك أسباب، قد يصل البحث فيها إلى إشكاليات كبيرة عن علاقة المثقف الإيطالي بالثقافة الوطنية، وحدود سلطته انطلاقاً من المعارف الناتجة عنها.

نافورة تريفي بروما، مثال على الباروك الإيطالي 


















بكل تأكيد، صداقته مع أمبرتو إيكو كانت مثمرة. وإذا بحثنا جيداً قد نجد آثار السيميائي في جزء من أعمال غريغوتي. لكن البحث سيكون شاقاً. لم يكن غريغوتي معمارياً وحسب، كان كاتباً وباحثاً ومحرراً، وكان يتنقل من باليرمو في صقلية، إلى ميلانو في لومبارديا، عابراً كل حسابات الإقامة في الديموغرافيا والعلاقات المجتمعية التي رست عليها إيطاليا في النصف

الأخير من القرن العشرين. عاش 92 عاماً، مدفوعاً بهاجس التحديث في العمارة، ولكنه لم يكن معجباً بالتكنولوجيا الرقمية، واتخذ قراراً شجاعاً دافع عنه حتى النهاية بالحفاظ على مسافة بعيدة عنها. ربما كان مصيباً، وتقديس الحداثة تقديساً مجرداً ليس خياراً صائباً. في حالة العمارة الإيطالية، كان هذا "التقديس" هاجساً فاشياً. لقد تطور البناء الفاشي من هيكل ضخم يحاول إبراز "عظمة"، و"تفوق" بصريين، وتالياً قدرته على احتواء أعمال كثيرة، ما يبرز صورة ناجعة لهيمنة الأيديولوجيا الفاشية، إلى صورة عن "حداثة" الفاشية نفسها، كما تحب أن تعبّر عن نفسها، في مقابل "تراث" الهزائم الإيطالية، كما تتخيّل الفاشية الانتصارات والهزائم. هذه الأوهام التي سقطت في الحروب الكبرى لم تذهب تحت التراب تماماً. جزء من المباني التي شيّدها غريغوتي تقف صامته، وتؤدي وظيفة العمارة النبيلة: حراسة المدينة من أشباح الماضي الكثيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.