}

عذراء وهران.. القدّيسة التي ألقت الكوليرا في البحر

فائزة مصطفى 5 أبريل 2020
أمكنة عذراء وهران.. القدّيسة التي ألقت الكوليرا في البحر
كنيسة سانتا كروز أو نوتردام دو سانتا كروز، وهران
لالة مريم، سيدة سانتا كروز، حارسة المدينة، قديسة المُرحلين وغيرها من التسميات أُطلقت على أجمل معلم أثري وديني في الجزائر، إذ تشتهر كاتدرائية "نوتردام دو سانتا كروز" بموقعها الاستراتيجي المطل على خليج مدينة وهران الساحر، كما تسُر الناظرين بجمال معماريتها وصومعتها الحجرية الشاهقة، حيث يعلو تمثال العذراء بشموخ معانقا القلعة التي بناها الإسبان عام 1754. ولا تحظى الكنيسة بقدسية لدى الأقلية المسيحية فحسب، بل يبجلها المسلمون ويعتبرونها وليّة صالحة، ويتناقل الوهرانيون جيلاً بعد جيل معجزتها التي حدثت قبل أكثر من 170 عاماً.

 مراسم تطويب الرهبان عام 2018 
















عرفت وهران مثل باقي المدن الجزائرية وعلى مراحل زمنية متفاوتة أمراضاً خطيرة وأوبئة حصدت أرواح الآلاف، بل كانت هناك عائلات بأكملها تموت، وفي ظل تفشي فيروس كورونا اليوم، يكتشف العالم مجددا وهران عبر رواية "الطاعون" للكاتب الفرنسي الجزائري ألبير كامو التي تدور أحداثها في عام 1947، وهي رواية متخيلة إذ شهدت المدينة هذا الوباء خلال القرن السادس عشر. يقول الروائي واسيني الأعرج لنا: "شكلت المصائب والأوبئة حالة خاصة في تاريخ وهران، فقبل الانتشار الواسع لوباء الكوليرا في القرن التاسع عشر، عرفت المدينة مرض الطاعون في عام 1557 الذي دخل مع حملات الإسبان على المدينة، ثم استقروا في جبل مرجاجو بالمرتفعات، وبقي الوباء مسيطرا مخلفا ضحايا كثراً".

 كنيسة سانت لويس بحي سي الهواري في قلب مدينة وهران.. بنيت خلال الحملة الاسبانية في القرن الثامن عشر
















وقعت وهران ضحية الكوليرا مرات عديدة، أشدها في عام 1849 حيث تسببت موجة الحر الشديدة في أكتوبر/تشرين الأول في انتشار الوباء بشكل رهيب، أدى إلى وفاة 2472 شخصا بينهم 1512 عربيا، كما توفي 882 عسكريا من الجنود الفرنسيين، وأصيب الآلاف بالعدوى وسط عجز الأطباء عن محاصرة المرض حسب ما ورد في عدة كتب من بينها: مؤلف الدكتور إيميل لويس بارثيروند "الكوليرا في الجزائر" الذي صدر عام 1852، وكتاب "الجزائر، نظرة مكتوبة" للمؤلفة بولين دي نوارفونتان الصادر عام 1857، والذي تدوّن فيه شهادتها قائلة: "انسابت الكوليرا فوق مدينتنا الفقيرة وكأن نسرا غطاها بجناحيه السوداوين، كاد أن يكون من المستحيل الخروج من المنزل أو فتح النوافذ بدون أن نسمع الأنين الأخير أو مشاهدة المواكب الجنائزية، الكوليرا تضرب بيد من حديد منذ ستة أسابيع مات خلالها ثُمن السكان، وثلث الحامية العسكرية، وسبعة أطباء، وخمس وثمانين ممرضة، واثنتي عشرة راهبة". وتضيف: "يتقدم الوحش بغضب أعمى، ويضرب بشكل عشوائي الشباب والمسنين، الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء بغض النظر عن أعمارهم أو ثرواتهم".
أمام هول المرض لم يكن باستطاعة الجنرال بيليسييه، قائد القوات الفرنسية، إلا الاستعانة بالكنيسة، فاقترح على النائب العام للجزائر العاصمة الأب سوشي تثبيت تمثال للسيدة مريم في قمة جبل مرجاجو حيث حصن سانتا كروز، قائلا له: "علها ترمي الكوليرا في البحر".

محجة سانتا كروز بمدينة نيم الفرنسية 















آمن الوهرانيون بمعجزة المطر، وأطلقوا على 
تمثال العذراء تسمية "مريم أم الماء"

في 04 نوفمبر/تشرين الثاني 1849، خرج موكب قدّاس مهيب من كنيسة سان لويس الواقعة بحي سيدي الهواري الشعبي، وجاب أزقة المدينة وأحياءها مرورا بباب المرسى إلى أن وصل إلى أعلى قمة في الجبل، وظل الناس طوال الطريق يصلون ويرفعون أصواتهم بالدعاء والتضرع راجين الشفاء. وتوثق العديد من المرويات والمصادر التاريخية هطول أمطار غزيرة في تلك الأمسية، تسببت في تنظيف المجاري من البرك الراكدة والمياه الآسنة، ليختفي الوباء تدريجيا، مما اعتبره الوهرانيون بمختلف دياناتهم معجزة وأطلقوا على التمثال تسمية "مريم أم الماء".

وقد ذكرت عدة كتب هذه الحادثة، من بينها كتاب: "عذراء منطقة وهران، تاريخ الحج إلى نوتردام دو سانتا كروز" الذي ألفه رئيس الكنيسة ماثيو شانوار عام 1900، ثم أعاد نشره جون كلود بوشيار في 2011 تكريما لوالديه الذين ولدا في المنطقة، كما أضاف جزءاً آخر حول تاريخ هذه الكاتدرائية إلى غاية استقلال الجزائر.
وفي أبريل/نيسان 1850 شيدت كنيسة سانتا كروز، لكنها تداعت بسبب هشاشة بنائها في آذار/مارس 1851، فحرص أسقف وهران حينها الأب جون باتيس كالو على استئناف الأشغال لتوسيع الموقع، وتعبيد الطريق الجبلي المؤدي إليه. في عامي 1873 و 1874، شُيّد البرج الحجري الكبير ووضع بداخله جرس وزنه 1178 كلغ، ثبت فوقه تمثال ضخم للعذراء، نسخة طبق الأصل لتمثال كاتدرائية ليون الفرنسية، حيث تبدو السيدة مريم منحنية الرأس وممدودة اليدين نحو أفق المدينة. ونذكر أن وباء الكوليرا أصاب الأهالي مجددا خاصة في عام 1851 ثم 1854، إذ نقل مسافرون وجنود المرض من مرسيليا الفرنسية، فمات مئات القتلى والمصابين في وهران وضواحيها.

 كتاب "عذراء منطقة وهران، تاريخ الحج إلى نوتردام دو سانتا كروز".. ألفه رئيس الكنيسة سنة 1900، وأعيد نشره في 2011
















القصة الغريبة لعذراء سانتا كروز والبحارة الإسبان
خلال الاحتفاء بالذكرى المئوية لما يعرف بمعجزة المطر في عام 1949، رفع موكب التمثال الأصلي الموجود داخل كنيسة سانتا كروز، ليجوب كل أنحاء المدينة بحضور حشود كبيرة من الناس، لتتحول الكاتدرائية إلى محجة للمؤمنين والزوار. وفي العام الموالي، وضع المعماري الكبير رينيه لوسان مشروعا هندسيا لإعادة تشييد الكنيسة على الطراز الروماني ملحقة بدير، ومسقوفة بقبة شاسعة، كما وسعت الساحة والأقواس التي تطل على منظر بانورامي، لتفتح الكاتدرائية أبوابها مجددا في نوفمبر/تشرين الثاني 1959 ضمن مراسم مهيبة تحت إشراف أسقف وهران الأب بيرتروند لاكاست، لكن تمثال العذراء الأصلي "مريم أم الماء"- كما يسميها الوهرانيون - استبدل بنسخة أخرى منذ الثلاثينيات بسبب الأضرار الذي لحقت به من كسر وتصدع، أحدثه لمسُ الزوار المتكرر لا سيما وأنه مصنوع من خشب شجر الزيتون، حينها قررت السلطات إعادته إلى كنيسة سان لويس، وهذا ما تشير إليه الكاتبة الفرنسية من أصل جزائري أميدي مورينو في موسوعتها المتكونة من جزأين: "الحديث عن الأقدام السوداء في وهران والغرب الجزائري" الذي صدر عام 1998، أما التمثال الثاني فاستوحاه نحات من لوحة بعنوان "الطاهرة" التي رسمها الفنان الإسباني بارتولومي ايستبان مورللو لكاتدرائية إشبيلية عام 1678. تورد الكاتبة قصة غريبة متعلقة بالتمثال الأصلي لعذراء سانتا كروز، مفادها أن قاربا لبحارة إسبان تحطم خلال عاصفة قرب السواحل الغربية لوهران في القرن الثامن عشر، وعزا البحارة معجزة نجاتهم إلى بركة السيدة العذراء، فحملوا تمثالها إلى مكان العبادة الوحيد الموجود بالجوار والذي أصبح فيما بعد يعرف بكنيسة سان لويس بالحي البحري أو حي سيدي الهواري.

  كنيسة سانتا كروز بعد نهاية الترميمات 
















نقلت "سيدة الشتات" إلى مدينة نيم
لتصبح ثاني محجة للمسيحيين في فرنسا

إثر رحيل أغلبية الأقدام السوداء، وهم الأوروبيون من أصل جزائري، غداة الاستقلال عام 1962، أسس المنحدرون من وهران جمعية باسم "أصدقاء سانتا كروز" بمدينة نيم الفرنسية عام 1963، وبعد عام واحد التقى أسقفا المدينتين في الفاتيكان، واتفقا على تلبية رغبة 350 عائلة وهرانية في نيم باستعادة تمثال السيدة مريم من الجزائر، وبالفعل جلبته سفينة عسكرية فرنسية في عام 1965 ضمن ما يسمى بالعودة الكبرى، وبدأت الأشغال لبناء كنيسة بنفس الاسم في السبعينيات كما أطلق عليها لقب "سيدة الشتات"، استقطبت نحو مئة ألف زائر، لتصبح ثاني محجة للمسيحيين في فرنسا بعد مدينة لورد.

وفي عام 1989 تم تثبيت سبعة أجراس اقتلعت من كنيستي غليزان ومستغانم بالغرب الجزائري. الملاحظ أن تواريخ خروج هذه المقتنيات الأثرية من الجزائر تزامن مع الانقلاب العسكري الذي قام به الرئيس الراحل هواري بومدين، ثم الاضطرابات السياسية ضمن ما يعرف بأحداث أكتوبر 1988، لكن التمثال الأصلي الذي يرتبط بـ"معجزة" الشفاء من الكوليرا رفضت السلطات مغادرته البلاد، وهو لا يزال محفوظا بسرداب إحدى كنائس مدينة وهران إلى يومنا هذا، بعدما نُقل من كنيسة سان لويس التي أقفلت كالعديد من الكنائس وكذلك المعابد اليهودية، وأضحى هذا المكان التاريخي في حالة يرثى لها لا سيما بعد اقتحامه من قبل عائلات عام 2004، الأمر الذي دفع بالمثقفين وخبراء الآثار الجزائريين والفرنسيين إلى المطالبة بإنقاذه، فوعدت السلطات المحلية آنذاك بترميمه، ويعد معلما حضاريا لكونه بني على أنقاض مسجد في 1509 خلال حملة الإسبان على وهران، وبعد هزيمتهم على يد العثمانيين، سلّم المسلمون الكنيسة إلى اليهود لتحويلها إلى معبد لهم في عام 1709، ثم استعادها الإسبان مرتين في 1732 وبعد زلزال 1792، وظلت على حالها إلى غاية 1965، فيما تعرضت كل كنوزها الأثرية وتحفها الفنية ومخطوطاتها النادرة إلى النهب.

  الحج إلى الكنيسة في 1950

















تحدث سانتا كروز العشرية السوداء
وشهدت أول قداس في التاريخ الإسلامي

أما كنيسة سانتا كروز فظلت فاتحة أبوابها حتى في عز العشرية السوداء، إذ قتل الإرهابيون الأب بيار كالفيري، أسقف وهران، وسائقه، محمد شويخي، في كاتدرائية سانت توجان المجاورة عام 1996، كما قتلوا رهبانا ومسيحيين في عدة مدن جزائرية، وقد راجت في التسعينيات قصة القنبلة اليدوية التي لم تنفجر عند برج الكاتدرائية. يقول الكاتب محمد بن زيان: "تناقل الوهرانيون في تلك الفترة الخبر لكن ليست هناك تأكيدات رسمية من مصالح الأمن، لا أستبعد حدوث ذلك في محيط كان يعرف حراك بعض عناصر الجماعات الإرهابية ولو بكثافة أقل مقارنة بمناطق أخرى، نظرا لوجود المكان بين تحصينات عسكرية في أعالي المدينة".
ومن مفارقات الزمن أن يشهد هذا المعلم الحضاري أول شعائر تطويب الرهبان في بلد عربي وإسلامي يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2018، إذ أقام الفاتيكان بإشراف وزارة الشؤون الدينية الجزائرية قداسا مهيبا لتكريم تسعة عشر مسيحيا كاثوليكيا بينهم: أسقف ورهبان تيبحيرين السبعة الذين قُطعت رؤوسهم جنوب العاصمة عام 1996، وشمل التكريم جزائريين مسلمين أيضا قتلوا خلال سنوات الإرهاب في حوادث منفصلة. وقال البابا فرنسيس على لسان مبعوثه الكاردينال جيوفاني أنجيلو: "قد يكون هذا التطويب حافزاً للجميع لتشييد عالم من الأخوة والتضامن المشترك". ونذكّر أنه عشيّة الاحتفالية الدينية، افتتحت السلطاتُ الجزائرية رفقة الأئمة ووفد الفاتيكان الكنيسة بعد مرور ثلاث سنوات من الأشغال، تمت بفضل أموال التبرعات من جمعيات وشركات، وشارك في الترميم طلبة مدارس للتكوين في الهندسة والبناء والنحت والفنون من الجزائر والدول الأوروبية تحت إشراف أسقف وهران الحالي جون بول فيسكو.

 كنيسة سانتا كروز أثناء ترميمها في 2017 

















وبالرغم مما خلفته محنة التسعينيات من تشدّد فكري وتغييرات ثقافية على النسيج الاجتماعي، إلا أن كنيسة سانتا كروز ظلت مقصدا للمسلمين أيضا، وربط الوهرانيون علاقة استثنائية مع معلم مدينتهم، وما زال بينهم من يعتبره مزارا للتبرك، فيرى الكاتب محمد بن زيان أن السيدة مريم التي ترتبط باسمها الكنيسة لها إجلال خاص في قلوب الناس، خاصة وأنها المرأة التي تحمل سورة قرآنية اسمها، إضافة إلى متاخمة الموقع للمقام الوليّ الصالح عبد القادر الجيلاني. ويضيف الكاتب المختص في ثقافة المدينة: "ارتباط الجبل بشخصية صوفية بمعبد للمسيحيين قدم النموذج الممثل لمدينة وهران كفضاء حوار وانفتاح على المختلف والمتعدد في الثقافة الجزائرية، ومن يرصد سلوكيات المترددين في فترات سابقة يجد أنهم يعتبرون فضاء الكنيسة جزءا منهم، فالمدينة تعرضت لمحن وكوارث في فترات تاريخية مختلفة من الزلزال إلى الجوع إلى الوباء، وفي مثل هذه السياقات يبحث الناس عن بركة لرفع البلاد، وكانت سانتا كروز وجهتهم أيضا".

ويلهم الموقع العديد من الكتاب والفنانين الجزائريين مثل الصحافي والروائي عبد العزيز غرمول اكتشافاً لعالم مذهل لكونها أول كنيسة دخلها في حياته، رغم أنه دخل كنائس كثيرة في كتب جبران خليل جبران وجرجي زيدان وإيليا أبو ماضي وغيرهم.. لكن يصف لقاءه بسانتا كروز بالجليل والجميل والرهيب، ولكنه صادم فلا جلجلة ولا صلوات ولا أدعية تعانق جدرانها، ويضيف: "كأنها قطعة من السماء تطل من تلك الشرفة العالية، توحي للرائي كما لو أنها تحرس وهران، مثل أم تقف في شرفة بيتها تراقب أبناءها في شوارع المدينة، لقد كانت مضاءة بشكل جيد عكس كنائس الكتب، كانت تحفة معمارية أنيقة، تتناثر في مداخلها تماثيل جصية للقديسين، ويبدو المنبر بعيدا ملونا وكأنه يتهيأ لأمسية شعرية".

أشغال ترميم كاتدرائية سانتا كروز عام 2016 
















ويقول الروائي واسيني الأعرج: "لقد كتبت رواية "الغجر يحبون أيضاً" الصادرة عام 2019 من وحي وهران وسانتا كروز، وقد قضيت فترة طويلة في المدينة في رحلة بحث خاصة تحضيرا لكتابة هذه الرواية عن الغجر الوهرانيين، وكشفت عن مدى معاناتهم، ثم ترحيلهم إلى محتشدات أوشفيتز النازية، حيث تعرضوا إلى تصفية عرقية مثل اليهود في عهد حكومة فيشي النازية، وكشفت بذلك عن تاريخ المدينة بأكملها".

كما خلد الكاتب والفنان الفرنسي جون باكس ميفري سانتا كروز في أغنية تحمل اسمها، تضمنها ألبومه الذي صدر عام 1995 بعنوان "حنين الجزائر"، ويقول في ختامها:

حينما يحين موعد المأساة

نتمسك بنفس الحماس

نوقد آلاف الشموع

ننحني أمام العذراء،

لقد وصلت عن طريق البحر

من أجل أن تمحي بؤسنا.

ثم يختتم الأغنية قائلا:

لما غادرنا مدننا

لحقت بنا في المنفى

هناك في القارة الأخرى

بقيت قبور آبائنا

سيدة الشتات

باركيهم إلى الأبد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.