}

فِتْنَةُ القِباب تنصهر مع سيمفونية المآذن

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 2 مايو 2020
عمارة فِتْنَةُ القِباب تنصهر مع سيمفونية المآذن
المسجد الأزرق ـ مسجد السلطان أحمد بإسطنبول

يُقِرُّ الفنان التشكيلي الألماني فرانك روديل أن الفن غير قادر وحده على تغيير العالم، لكنه، يؤكد، في المقابل، أن له قدرات استثنائية على إيصال رسائل سامية عن الآخر، وعلى إيصال معاني القبول والاحترام المتبادل.
يقول روديل الذي عانى ظلمة السجن عندما غامر مرّة (في عام 1980) وتسلل من ألمانيا الشرقية (قبل تحطيم جدار برلين) نحو الجنة المتوقعة في ألمانيا الغربية: "لطالما وددت زيارة الشرق والاستمتاع بالعمل على جمالياته". (من الفيلم الوثائقي: "الشرق في فنونهم"، الجزيرة الوثائقية).

 يجوب فرانك روديل بلاد الجمال الشرقي الساحر، يصوّر، يضع ألوانه وخطوطه فوق الصورة


















تظهر أعمال روديل الذي يعترف بتقصير الغرب وفنانيه وإعلامييه في تحقيق معرفة محايدة موضوعية عن الشرق وفنونه، أن قباب المساجد وشهيق المآذن هي أكثر ما حرّك مجسات الافتتان عنده، وجاءت لوحاته، بالتالي، نشيدًا إنسانيًا مفعمًا بتلك القباب وهاتيك المآذن، إضافة للوحاته المستقاة من جماليات الخط العربي وانسيابيته وفرادته.
روديل يأمل أن تنجح لوحاته المشغولة بدوافع "جمالية بحتة لا علاقة لها بالسياسة"، في تحقيق جزء من هذا التقارب المنشود.
قباب نحاسية اللون، قباب زرقاء، قباب فوقها حروف عربية مثل عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"، أقواس حجرية، لوحة ثالثة تحتوي على مئذنتين وحروفية عربية مرسومة على شكل أسد يلتفت إلى الوراء وقربها قبة أخرى، وثمة درب طويل يفضي في النهاية إلى مسجد. كثير من القباب والمآذن والخطوط العربية هي تقريبًا الموضوع الأوحد الذي ينكبُّ عليه الفنان الذي قاده بحثه عن الجمال والانسجام الروحي إلى زيارة حواضر كثيرة في الشرق، منها طشقند وأصفهان وسمرقند وبخارى، مأسورًا، بعد جولات نحو أميركا وأفريقيا وبلاد كثيرة، بجماليات الخط العربي والعمارة الإسلامية.

يجوب روديل بلاد الجمال الشرقي الساحر، يصوّر، يضع ألوانه وخطوطه فوق الصورة، ويقدم تجربته الخاصة ضمن ما يسمى فن الكولاج، ولكن ما هو جوهر الفتنة الذي تحتضنه القباب وتصدح بسماته المآذن؟
يفرّق أستاذ العمارة الإسلامية د. منور المهيد، بين قباب العمارة الإسلامية وباقي قباب الحضارات والأديان الأخرى، فقباب العمارة الإسلامية تتميز، كما يرى، بـ"لغتها وخصوصيتها الهندسية ونسبها الذهبية التي لا تشبه غيرها".
المهيد يتحدث هنا تحديدًا عن نسب المخموس، وتفاصيله الرياضية اللوغارتمية التي قد يصعب عرضها جميعها في عجالة صحافية.
إنها على وجه العموم متتالية هندسية يُقَسَّم خلالها القوس الواحد إلى خمسة أقسام، وهذه الأقسام تُقَسَّمُ بدورها، وهكذا دواليك، بما يتقاطع مع متتالية فيوباتشي Fibonacci numbers أو Fibonacci Series، ولكن مع احتفاظ العمارة الإسلامية بخصوصية تستند، كما يوضح المهيد مدير مشروع كتابة المصحف يدويًا، إلى منظومة الثلاثيات المقدسة.
"منظومة البناء الإسلامي تعتمد على ثلاثية: إسلام.. إيمان وإحسان"، يقول المهيد، وهي ثلاثية تقود إلى ثلاثيات، فثمة ثلاثية أخرى موجودة في الإنسان: "جسم ونفس وروح". وثلاثية ثالثة تتقاطع مع سابقاتها أن: "لله أسماء وصفات وأفعال"، وثلاثية أخرى هي: "ثلاثية العلم والقدرة والرضوان".
الإسلام، بحسب ثلاثيات المهيد، هو محط الأفعال.. فـ"الأركان الخمسة جميعها أركان أفعال". أما الإيمان فهو "محط الصفات، تذوّق شغوف لصفات الله التي تنعكس في النفس البشرية".
ثم يأتي العرفان المرتبط بالحقيقة والتفريق بين الحق والباطل.
العرفان، بحسب رؤى الدكتور منور المهيد، مبني على الحقيقة، يقول إن "الحق موجود ولا يلزمه برهان"، فالبرهان شغل علماء العقيدة في مواجهة علماء الكلام.
والعرفان، إلى ذلك، "منعكس في الإنسان.. والتحقق فيه من خلال منظومة السير إلى الله والسلوك إلى مقامات الحق".


بعد أن يسبح العالِم المهيد بنا في تقاسيم الثلاثيات المقدسة، ويذوب معنا ويذوّبنا في تجليات العرفان كأعلى منازل هذه الثلاثيات، المتعلقة أساسًا بفكرة الخوف من الخالق، وثنائية: إفعل ولا تفعل، يعود بنا إلى ربط هذا كله بهندسة المئذنة، وجوهر فكرة القبة، رائيًا أن الصفات تعتمد على جماليْن: داخلي وخارجي، وهي تلخص فكرة التسليم والرضا والتشوّق إلى لقاء الله. والصفات إما ساكنة أو متحركة passive or active.
إنها ثلاثيات، يقول المهيد، "منعكسة في الوجود.. سنريهم آياتنا.."، وأما الروح، فهي "محط الحقيقة أو الحكمة أو المعرفة".
للمئذنة بحسب د. المهيد، دور، وظيفة، فعل تقوم به، وهي تتجلى بوصفها صورة صفة متحركة فاعلة active، مقابل صورة فِناء المسجد الذي يحقق فعلًا ساكنًا، حيث تنتفي الضوضاء بمجرد أن نصبح داخل أسوار المسجد.

من أعمال الألماني فرانك روديل 
















للفِناء، بحسب المهيد، معان أخرى، تحوله إلى حالة فاعلة active عندما يرتقي معرجًا بوصفه صورة الفردوس، ومكانًا للجلوس والتأمّل والذِّكر. دون أن يهمل صورة الزهد المتحققة في عموم مفردات المسجد، وما يضاف إلى ذلك من حالة انفصال عن العالم الخارجي.
الأعمدة تحمل البناء، هي، إذًا، صورة الجهاد active، هناك حيث يتبدى المحراب وتبدو الأقواس التي تحمل السقف، كما لو أنها لا تحمل شيئًا؛ بل الأعمدة فقط هي التي تحمل. وهو ما يجعل الأقواس والقبوات تبدو كأنها ساكنة passive.. في حالة سلام مكتفية بتوزيع الأحمال على الأعمدة..
بينما القبة التي هي فوق كل شيء.. واتجاهها لله معبّرة عن التشوق إليه.. فهي بالتالي تحقق صورة السلام والتشوّق والرجاء.
أما المئذنة فهي بحسب المهيد، عبارة عن عامود من الناحية الرمزية، تتجلى فيها صورة الواحد أو صورة الدعوة إلى الله (صورة التوحيد رمزيًا).
تتقلب المئذنة بحسب تلك الرؤية بين الجانب الـ passive من العرفان، والجانب الـ active منه؛ بين فعل النداء، وبين التسليم الكامل بالعبودية الخالصة لله. واقفةً مثل الألف، محلقةً بصورة الجانب الـ passive من العرفان.
القباب مفردة معمارية موجودة عند باقي الأديان وهندسات مختلف الحضارات، ولكن المِئذنة هي، بحسب المهيد، مفردة معمارية خاصة بالدين الإسلامي فقط.
المآذن، على اختلاف أنواعها، تقوم بالوظيفة نفسها، يؤكد المهيد، ولا يتحمس، بناء على ما تقدم، لتعداد تلك الأنواع وطرزها انطلاقًا من الطراز الأموي وصولًا إلى الطراز العثماني، طالما أنها تصب في نهاية المطاف نحو الدلالات نفسها.
طمأنينة الفِناء، تتقاطع مع الرضا، محققة هناك هدوء النفس، طمأنينة مفتوحة نحو العلا لا يوجد ما يحجبها عن السماء/ الحقيقة، تقود إلى التأمل، تذوب بالفردوس، وتعلن أن البقاء لله وحده. (د. المهيد).

المهيد يورد أن أول مسجد شيّد بفكرٍ معماريٍّ إسلاميٍّ محض، هو مسجد قرطبة (حوالي 169 هجريًا) الشبيهة أعمدته بشجر النخيل، الذي تحوّل إلى كاتدرائية، وهو ما يؤكده الباحث المصري أ. د كمال عناني إسماعيل في بحثه الموسوم "أصداء جامع قرطبة على عمارة مصر الإسلامية"، موضحًا د. المهيد، أن قبة الصخرة شارك في بنائها في العصر الأموي مهندسون بيزنطيون.
وبسؤاله، عن العناصر المشتركة بين القبة الإسلامية وقباب الحضارات الأخرى، يجيب د. المهيد، أنها تلتقي جميعها حول المعنى، والمطلق، فـ "كل الديانات من عند الله.. المعنى واحد واللغة تختلف".


في مقال له نشرته صفحة "المسجد الكبير بسيدي سالم" على موقع فيسبوك، يذهب الكاتب حسني عبد الحافظ، إلى أن المِئذنة، وعُرِفت أيضا بأسماء عديدة، منها المنارة والصومعة، والميذنة، والمنار، هي "تشكيل هندسي معماري، يتباين ارتفاعه".

عبد الحافظ يذكر أن أقدم دليل لدينا، على بناء مئذنة، ما رواه البلاذري (ت 245ه 859 م)، أن زياد بن أبيه، عامل مُعاوية على العراق، لما أعاد بناء جامع البصرة عام 45ه / 665م، أمر ببناء "منارة من الحجر"، يصعدها المؤذن، ويصدح في شرفتها، بحيث يُسمع صوته في أرجاء المدينة، التي اتسع عُمرانها، وزاد سكانها، ولم يذكر البلاذري، أي تفاصيل بشأن هذه المنارة.. ويذكر كُل من ابن دقماق، والمقريزي، أن تشييد المآذن انتقل إلى مصر، في عهد مسلمة بن مخلد، عامل معاوية بن أبي سفيان على مصر، حيث أنشأ في العام 53ه /672م، "أربع صوامع، في أركان جامع عمرو بن العاص، بالفسطاط، لغرض الآذان"، ولم تذكر المصادر التأريخية، أي تفاصيل حول التصميم الهندسي لهذه الصوامع، وإنْ كان المُرجّح أنها كانت أكثر ضخامة وارتفاعًا من المنارة".



تتكوّن المِئذنة بحسب عبد الحافظ من: قاعدة ودرج (سُلّم) وشرفة وجوسق (الجزء الأعلى في المِئذنة) وهلال (من معدن أصفر لامع أو ذهب برّاق، استعيض عنه في مآذن قديمة براية عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله").

وبين مِئذنة قلم الرصاص، إلى مِئذنة المبخرة، وصولًا إلى المِئذنة المربعة، وأخيرًا الاجتهادات المعاصرة كما في مسجد الملك فيصل في إسلام أباد الذي جاء على شكل خيمة عربية سداسية الأضلاع (محمد محمد إبراهيم/ العربية نت، كانون الأول/ديسمبر 2017)، فإن تلك الوحدات المعمارية رأسية البناء، تنصهر جميعها في بوتقة النداء الأزلي، المعمّد في حالة التجربة التركية بمقامات الغناء العربي، فلكل آذان مقام (الصبا للفجر والعشاق للظهر والراست للعصر (نهاوند للعصر يوم الخميس) والسيكا للمغرب والحجاز للعشاء) (ترك بريس ومواقع عديدة أخرى)، وقرب كل مئذنة قبة، نشيدٌ كونيٌّ صوفيٌّ وجدانيٌّ عارم، وفي مختلف الأحوال الشوق واحد، والعبقرية الهندسية واحدة، نِسَبٌ فاتنة، تفاحة صنوبر تغازل الرقم الذهبيّ المُحير (1.618034)، تويجاتُ زهرةٍ تعانق المدى، فهدٌ مُرَقَّطٌ يسابق الريح، لوالب أرخميدس تكاد تنطق بالسِّر وتتهجى حروف السحر، صوت يصدح من بعيد: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (سورة النور: (36))، وصادحٌ آخر يجاريه من البعيد القريب: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} (سورة البقرة: (127)).
علاقات غامضة، هندسات فاضلة/ مقدسة، سيمفونية تصعد بأنغامها نحو الأعالي، تربط الإنسان والعالم حوله بالرياضيات، تمرر رسالة للعقل مفادها أن كل شيء مخلوق بِقَدَرٍ وميزانٍ خاص به، ولا سبيل للحظ أو العشوائية في كل ذلك، كما تدفع للتساؤل حول من أوجد هذه القوانين وفرضها على الكون؟ {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (سورة الحجر آية 19)، وقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (سورة القمر آية 49).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.