}

عمارة ما بعد كورونا.. مدن حميمية وانهيار العملقة الزائفة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 13 يونيو 2020
عمارة عمارة ما بعد كورونا.. مدن حميمية وانهيار العملقة الزائفة
تصميم لستيفانو بوري يعبر عن شكل العمارة بعد"كورونا"(AFP)
الحياة بتجلياتها الأهم: الحب (الترفيه والتقارب الأسري والحدب والعواطف الجياشة) والعلم والعمل، هي ما يحفزنا في زمن ما بعد كورونا، أن نحياها في المسكن الذي سيحضن عزلتنا المحتملة المقبلة.
وكورونا، وفق هذه السردية، هو الزائر (الغالي)، بحسب توصيف أستاذ العمارة المصري د. علي عبد الرؤوف، وهي الجائحة التي منحت رئاتنا بعض الهواء النقي غير الملوّث من جهة، ومن جهة ثانية، هزت أركان وجودنا، خصوصًا في نسخته العربية، وجعلتنا نعيد حساباتنا في الكيفية التي نصمم على أساسها منازلنا وحاراتنا ومدننا، وبالتالي، عالمنا المعاصر كله.
في محاضرة نظمها له المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وحملت عنوان: "عمارة وعمران ومدينة ما بعد جائحة كورونا: تحولات حتمية واستشرافات مستقبلية"، يستعرض د. علي عبد الرؤوف، رئيس وحدة العمران المستدام في مجلس قطر للأبنية الخضراء، الحيثيات التي جعلته يطلق لقب (الغالي) على فيروس كورونا: "لأول مرّة هناك ما يجعلنا نقول إننا نواجه تحديًا عالميًا حقيقيًا، وبالتالي فإن التوافق العالمي مهم جدًا. كما أن الجائحة تمنحنا فرصة حقيقية فائقة للتفكير والتأمل العميق حول مسيرتنا المعمارية العمرانية العالمية عمومًا، والعربية على وجه الخصوص. ومن ثم محاولة صياغة منطق جديد يشمل مناحي الحياة جميعها، فالعمارة لم تعد علمًا مستقلًا محصورًا بالتصميم وفنون العمران، بل هي تداخل علوم كثيرة: علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا وعلوم البيئة وقيم الجمال، تنصهر جميعها وغيرها لتحقيق فلسفة معمارية تبدو اليوم بأمس الحاجة لأن تبلور رؤى عمرانية ومدينية جديدة".
ولأن "الأوقات الاستثنائية تتطلب استجابات استثنائية"، فإن عبد الرؤوف، الأستاذ الزائر في جامعة حمد بن خليفة، يطلق صيحة من وحي الجائحة: "لا للمخازن البشرية، نعم للمساكن الإنسانية".
 شرفات التعاضد

 

علاقة الإنسان بالمكان
على كل حال، وبما، ربما، لا يدع مجالًا للشك، فإن جائحة كورونا تضع هندسة العمارة ومختلف مكوّناتها من عمران وتصميم مدن وبحوث فراغ وفضاء ومساحات وخدمات، في مواجهة أسئلة وتحديات كبرى، تندرج جميعها تحت عنوان علاقة الإنسان بالمكان.
عبد الرؤوف صاحب كتاب "شعب وميدان ومدينة/ تأملات معمارية وعمرانية في ثورة ميدان التحرير" (المركز العربي، 2019)، يجمل هذه الأسئلة المحورية على النحو الآتي:
ما هو تأثير الوباء على العمارة والتخطيط والتصميم العمراني؟ كيف ستتحول المدن إلى مشروع إنمائي جديد؟ كيف ستبني المدن البنى التحتية بحيث تكون مرنة ومقاومة وعادلة؟ كيف سيواجه الابتكار التحدي وينتج أحياء ومنازل سكنية جديدة؟ كيف ستقدم العمارة فهمًا جديدًا للفضاءات العامة والخاصة؟ كيف سيتحرك الإنسان في المدينة وكيف سيتواصل في فضاءاتها؟ ما هو تأثير البيئة المبنية على هزيمة الوباء من جهة، وعلى تجربة المرض من جهة ثانية؟ وكيف ستتغير المدينة بسبب الجائحة؟
المهندس الأردني أُسيد العيطان، وفي سياق إجابته عن بعض هذه الأسئلة، يرى أن المعماري ليس مجرد مصمم لمبنى، بل هو في الأساس يبني مجتمعًا وحياة تدخل في صلب وجود الإنسان. العيطان ممثل جائزة التميز المعمارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتبنى فلسفة المرونة المعمارية القادرة، بحسبه، ووفق مختلف الحساسيات، أن تعيد تشكيل الفراغ بحسب المستجدات، والمحصنة بقدراتِ تَنَقُّلٍ بين موجبات التباعد والحاجات الفطرية عند البشر للتقارب، دون أن تخل بمبادئ السلامة العامة من جهة، ولا بنوازعنا الوجدانية الإنسانية على الناصية الأخرى من الأفق.

العيطان يلتقي مع د. علي عبد الرؤوف حول رفض مصطلح التباعد الاجتماعي، رائيًا أن المطلوب هو قدر من "التباعد الجسماني" أو (التباعد المادي) المصطلح الذي اختاره د. علي.
ليس بعيدًا عن طرح سابقيه، وليس قريبًا منهما تمامًا، جاء طرح المهندس المعماري الأردني أحمد صيام، عضو مجلس نقابة المهندسين الأردنيين. فصيام يذهب إلى خيار المفردات "متعددة المهام"، وهو في هذا السياق ليس مع إلغاء غرفة الضيوف، على سبيل المثال، في بيوت ما بعد كورونا، ولا بتقليص دورها أو تصغير مساحاتها، ولكن مع جعلها (مرنة) وهنا يتقاطع مع العيطان، ويتعارض مع د. علي، الذي يستهجن جعل صالات الضيوف في بعض البلدان العربية تحتل ما يصل أحيانًا إلى 50 بالمائة وحتى 60 بالمائة من مساحة المنزل، فقط لغايات التباهي والتفاخر. "ولكن ماذا عندما لا يعود هناك زيارات؟"، يتساءل د. عبد الرؤوف، ونجد أنفسنا أمام غرفة طعام مهجورة، وحتى بعيدًا عن كورونا لم تكن تُستخدم طوال العام  سوى مرّات قليلة، وأمام صالة ضيوف مهجورة، هو ها هنا يقترب من تحد كبير حول الاستغناء عن هكذا غرف: "المسكن ينبغي أن يتحوّل في معظمه لفراغات مفعمة بالحياة من أجل العائلة التي تسكنه"، أو إعادة التفكير الجدي بمساحاتها وتراتبيتها داخل باقي مفردات المنزل وبحث إمكانية تحويلها لصالح فضاءات المسكن الذي أصبح في زمن كورونا ثلاثي الأبعاد: للعلم والعمل ومختلف تجليات العلاقة الأسرية من ترفيه وتقارب وتواد وتعاضد.
المهندس صيام يتحدث عن المساحات "متعددة الاستخدام"، فنحن "اجتماعيون في طبعنا من جهة ولن نتوقف عن استقبال ضيوفنا ولو حتى بالحد الأدنى من الزيارات، ومحافظون من جهة أخرى لن نقوم بأداء هذه الوظيفة في قلب المنزل مثلما تعودت مجتمعات أخرى أن تفعل".
صيام يؤمن، على وجه العموم، أن التغيير سوف يكون بمعظمه "تقنيٌّ، يركز على رفع مستوى التجهيزات والخدمات، أكثر من كونه تغييرًا فراغيًا وظيفيًا".
من جهته يغوص د. علي في قضايا أكثر عمقًا، ويتناول في محاضرته القيمة محاور من مثل المدن المعاصرة ومعضلة الإسكان، طارحًا السؤال الآتي: "هل لدى المعماريين والعمرانيين ومخططي المدن طاقة تأمين أماكن نكون فيها محبوبين، ونقيم علاقة صحية فيها مع أسرنا وجيراننا ولا يكون الواحد منّا فيها مجرد رقم والأسرة مجرد رمز؟".
وبعد أن يتألم لوجود مقابر أكثر رأفة بسكانها الموتى من المخازن البشرية التي تسمى اعتباطًا بيوتًا، يعود د. عبد الرؤوف لشكر (الغالي) كورونا، لأنه "يجعلنا نصرخ سؤالنا بقوة: كيف نقفل حقبة المخازن البشرية، ونندفع بقوة ونحفز طاقتنا كمعماريين وعمرانيين وننتج مساكن تخاطب الإنسان دون أن يعني ذلك أنها ينبغي أن تكون مكلفة، فالمسكن الإنساني الجميل ليس المسكن الغالي أبدًا.. أبدًا.. وهذا درس نعلمه لطلبة العمارة في سنواتهم الأولى، فالقضية هي الإخلاص في التصميم، والاستماع إلى العائلة، والاهتمام بالبعد الإنساني".

مقابر رأسية.. مخازن بشرية 

















الشرفات والأسطح والحيّ
يقول د. علي عبد الرؤوف في المحاضرة التي قدمه فيها د. أحمد حسين: "جائحة كورونا جعلتنا ننتبه لمفردات في المساكن مثل الشرفة لم يكن يخطر على بالنا أنها ستكون أهم مفردة خلال فترة الحجر والحظر والعزل، فالسكان في إيطاليا، على سبيل المثال، لم يجدوا وسيلة إلا الشرفة للتواصل فيما بينهم وإبقاء نبض الحياة بينهم ممكنًا: هذا يسمعهم معزوفة، وآخر يغني لهم أغنية، بعضهم قاد محادثة جماعية استمعوا خلالها لأخبار بعضهم واطمأنوا على جيرانهم".
وهو يرى أن العزلة التي عانينا منها جعلت الشرفة تمثل "منفذًا ومتنفسًا بديعًا للانطلاق نحو الفضاء الخارجي، نحو الهواء الطلق، وأن ترى ما يحدث في الشارع، وأن تعلم أنك لست وحدك".
ولأنه في معظم مفاصل محاضرته لم يكف عن طرح الأسئلة، فها هي دفقة جيدة منها: ماذا لو كانت مساكننا أكثر ألفة مع الطبيعة وخففت عنا، بالتالي، بعض أوجاع العزلة؟ ما هو دور الشرفات؟ ما هو دور الحدائق الصغيرة؟ ما هو دور الأسطح؟ ما هو دور الأفنية الداخلية؟ لماذا نحرم أنفسنا من تهوية طبيعية؟ من إضاءة طبيعية؟ إلى متى سنبقى نتفاخر أن بيوتنا مكيفة ولا نفتح شباكًا لأشهر؟ كيف أتفاخر أنني لا أدخل أشعة الشمس إلى بيتي؟
حول مفردة السطح على وجه الخصوص، يتساءل عبد الرؤوف، صاحب مقال بعنوان "السطح المكوِّن المُهمّش في عمارة العرب"، هل ستجعلنا جائحة كورونا نعيد صياغة علاقتنا بأسطح منازلنا؟ رائيًا أن السطح لأزمان كثيرة ظل يحمل معنى "بديعًا عند العرب من مشارق الأمة وحتى أقاصي مغاربها، معنى له علاقة بالسماء، بالانتقال من الشتاء إلى الصيف، فجأة تحول السطح في مبانينا إلى مكان مهمل لخزانات المياه وأطباق الأقمار الصناعية والكراكيب".
في توسيع لدائرة البحث، وانتقال من المنزل/ المسكن/ البيت، إلى الحارة، ومن ثم المدينة بمجمل تفاصيلها، يقول د. علي عبد الرؤوف صاحب كتاب "مدن العرب في رواياتهم" (2016): "جائحة كورونا أعادتنا لقيمة الحياة المحلية وأهمية الانتماء للحارة والحي، وهي قيم كنا أسقطناها لأن علاقتنا بمنطقة سكننا كانت مجرد عبور بسياراتنا بحيث نظل نقودها حتى عتبات منازلنا".

علي عبد الرؤوف: كورونا تدعونا إلى كبح جماح عمران السلطة والاستهلاك


















وهنا يستحضرني مثل كنت أسمعه من والدتي رحمها الله: (إسأل عن الجار قبل الدار)، وهو ما يرى د. علي بضرورته بحيث يفرض كورونا تحديًا آخر على المعماريين والعمرانيين يتعلق بإعادة الاعتبار للحي بمفهومه النوستالجي القديم، فنحن عندما استخدمنا المشي بدل السيارة وبدل الحافلة، واضطررنا أن نستعيد مفهوم بقالة (دكانة) الحي بدل المول الكبير، اكتشفنا أننا لا نعرف حيّنا جيدًا، وراعنا كم كبر أولاده الصغار، وكم أصبح أبو فلان بحاجة ليد تساعده على عبور الطريق، أو قلب يسمع أنّات وجعه أنّ أحدًا من أولاده لم يزره منذ ثلاثة أسابيع على سبيل المثال. وكم هي أم علان حزينة مشتاقة لضناها، وضناها أبعده كورونا عنها. كل هذا وذاك، يفرض، بحسب د. عبد الرؤوف، التفكير جديًا بأحياء ذات هندسة حدوبة، تضع باعتبارها حديقة صغيرة لأهل الحي، فضاء عام قريب من قلوب الناس، ملعب لأولاد الحارة.
ثم يوسع د. علي أفق حديثه أكثر فأكثر، وبعد أن يورد مثل (الجنة من غير ناس ما تنداس)، وبعد أن يذهب إلى أن الإنسان بطبعه محب للحياة ويحب أن يَرى وأن يُرى، وأنه لا يرضى بالعزلة ويميل إلى التفاعل، يخلص إلى نتيجة أننا عندما نهتم بصياغة موجة جديدة من الفضاءات والفراغات العامة التي تسمح بوجود الناس مع مسافات آمنة، والتفاعل فيما بين سكان المدينة أو سكان الحي، فإننا حتمًا سنحصل على تصاميم مدن لا تشبه تلك التي فرضت أنساقها علينا في الأعوام الأخيرة، خصوصًا في مدن عربية خليجية عديدة (دبي على سبيل المثال)، بالغت حد "التهور بالمراهنة على نجاح فكرة المباني الضخمة الأيقونية الفانتازية: ناطحة سحاب على شكل شجرة نخيل، أخرى على شكل سمكة، ثالثة على شكل صدفة،  واندفعنا في تسليع المدينة (تحويلها إلى سلعة)، ناسين أنها ليست تنمية للمجتمع ولا للمواطنين، بل هي مجرد تنمية عقارية أرباحها تصب في جيوب قلة قليلة، وفيها حجم مخاطرة كبير ومعرضة للركود في أي وقت. إنها فقاعات عقارية سرعان ما انهارت فجأة وأصبحت موضع سخرية حتى ممن مدحوها في السابق".
عبد الرؤوف يوضح أن تحليل النسيج العمراني للمدن القديمة عربيًا وأوروبيًا أتاح لنا أن نرصد بوضوح هذه "السلسلة البديعة من الفضاءات العمرانية المتدرجة التي كانت موجودة فيها ولم تعد من مجالات اهتمامنا في الحقب المعاصرة وخاصة في مدننا، وباعتقادي أن مكوِّنا من المكونات المهمة التي ينبغي أن نعود لها هو كيف نفعِّل الفضاءات العامة، وهو تفعيل مطلوب جدًا في حالة العزلة وعندما يشعر الإنسان بوقع الأزمة".
ويهتف بعدها قائلًا: "كورونا تدعونا إلى كبح جماح عمران السلطة والاستهلاك".
ثم يعود للأسئلة: هل ينبغي أن نبني ما نملك فائضًا منه أم نبني ما لا نملك منه فائضًا؟
ويخلص أخيرًا إلى ضرورة مراجعة منطق الإنفاق المعماري والعمراني، وصياغة دور للمعماري والعمراني تجعله "مقاومًا ومناضلًا وثائرًا وناقدًا وناشطًا، بحيث يملك شجاعة التخلي عن التحالف الدائم مع السلطة لبناء المباني العملاقة التي ترمز لثبات السلطة واستقرارها"؛ دون أن ينسى التأكيد على حتمية الأمل: "لا يمكن ادّعاء الانكشاف الكامل عن الصورة شديدة الضبابية لمستقبلنا وحال مدننا في حقبة ما بعد كورونا، ولكن اليقين أننا بالفعل بدأنا الخطوات الأولى في تشكيل حقبة جديدة، تتطلب طاقة إبداعية فريدة، ومواجهة صادقة، وإنتاج منطق جديد لمعنى الحياة، وعدالة العمران، وقيمة الاقتصاد العادل، ومستقبل المجتمعات الإنسانية ودحض عمران السلطة، والعودة إلى حصافة الاستهلاك، ونصرة الفقير المهمش".


#محاضرة د. علي عبد الرؤوف بعنوان: "عمارة وعمران ومدينة ما بعد جائحة كورونا: تحولات حتمية واستشرافات مستقبلية"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.