}

الدقيق الذي وحَّد العالم في زمن الكورونا

سارة عابدين 23 يونيو 2020
إناسة الدقيق الذي وحَّد العالم في زمن الكورونا
تقديم الطعام في وعاء مخبوز في ترانسيلفانيا برومانيا (Getty)

مع انتشار فيروس كورونا، تقيدت أنشطتنا الإنسانية والاجتماعية. أُغلقت النوادي والمقاهي وأماكن الترفيه، وحدثت حالة ذعر بين الناس خوفًا من عدم القدرة على إيجاد الاحتياجات الأساسية للبقاء، وغالبًا ما يكون الخُبز من أولى المنتجات التي تختفي في حالات الطوارئ.
بدأت مثل الجميع في تخزين الطعام، والدقيق والخميرة الجافة، لأن الخَبز هو مهارة البقاء على قيد الحياة، وهو ليس مجرد مهارة منزلية مفيدة تجعل الإنسان يشعر بالتحسن في الأوقات العصيبة، لكن الخَبز بالفعل واحد من أنواع العلاجات التي تستخدم مع الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية، مثل الاكتئاب، أو القلق المرضي. تشبه عملية الخبز إنتاج لوحة، أو تمثال من الطين، بكل ما تمر به تلك العملية من مراحل.

 

تاريخ عملية الخبز
يعود تاريخ معالجة الطعام إلى عصر ما قبل التاريخ، عندما بدأت معالجة المواد الغذائية الخام وتحويلها إلى منتجات غذائية جديدة، عن طريق الطهي والتحميص والتخمير والخبز. بدأت

عملية تخمير الخبز عن طريق الصدفة، من قبل واحد من خبازي الملك في وادي النيل، في مصر القديمة. اكتشف المصريون القدماء عملية التخمير بين 3500 و3000 قبل الميلاد، وأصبح الخُبز عملة مقايضة لباقي الأطعمة، وكان المصريون يخبزون مخبوزات على شكل حيوانات تستخدم كقرابين، إلى جانب خبز المخبوزات للطعام. صنعت الأفران في مصر القديمة من طمي النيل المعجون بالماء. كانت الأفران ذات شكل اسطواني مدبب، ومقسم من الداخل إلى قسمين: القسم الأسفل، وهو مكان تسخين النار، والجزء العلوي هو غرفة الخبز. ظل شكل الفرن المصري القديم موجودًا بشكله الأولي في القرى المصرية حتى وقت قريب، وكان لكل بيت فرنه الخاص، لأجل إتمام عملية الخبز كل صباح.

وصف مصور لصناعة الخبز وصناعة أثاث المنزل في مصر القديمة (Getty)

اكتسبت شعوب البحر المتوسط تدريجيًا معرفة الخبز المخمر من المصريين القدماء، وساهمت كل ثقافة في تجديد عملية الخبز، ومنهم من صبَّ خليط الدقيق والماء على الأحجار الساخنة لخبزه.
في بداية عام 200 قبل الميلاد، أنشأ اليونانيون المخابز العامة، وبعد الغزو الروماني لبلاد اليونان، قام الرومان بتحسين جودة الخبز. ومع ازدياد عدد العائلات الثرية في روما، بدأت النساء في التذمر من تكرار صناعة الخبز، وظهر الخبازون المحترفون، وأصبحت وظيفة الخباز وظيفة تشبه وظيفة الموظفين المدنيين.
بعد هجرة المستعمرين الإنكليز إلى أميركا، أحضروا معهم فن الخبز، وازدهرت في ذلك الوقت صناعة الخبز في أميركا. وبوصول الأوروبيين إلى أميركا، أدركوا وجود السكر بكثرة في جزر الكاريبي. سمح توفر السكر والكاكاو بتطوير أنواع جديدة من المخبوزات. وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت زراعة بنجر السكر في التوسع، وانخفض سعر السكر، وأصبح سلعة شعبية

توجد في كل المنازل، وظهرت الحلويات المعقدة الصنع بشكل متزايد.
بحلول القرن التاسع عشر، بدأ تطوير الوصفات ومشاركتها، وأنشأ الطهاة مخابز صغيرة، وامتلك الناس العاديون الأفران والمواقد في المنازل، وأصبحت عملية الخبز أكثر سهولة وتداولًا. غيَّر القرن العشرين كل شيء، خاصة مع ظهور عملية التبريد، والقدرة على تخزين المكونات الموسمية. ومع السفر، وتبادل الثقافات، أراد الناس تجريب أنواع جديدة من المخبوزات، وأصبح في إمكان كل شخص أن يكون خبازًا محترفًا بامتلاك الأدوات والوصفات، وهذا ما حدث تقريبًا من خلال منصات التواصل الاجتماعي منذ بداية العزل المنزلي.
بدأ الجميع في خبز أنواع مختلفة من المخبوزات، ومشاركة وصفاتها وصورها على منصات التواصل الاجتماعي، وكأن الناس اكتشفوا سحر الخبز من جديد، واكتشفوا الحميمية التي تبعثها رائحة نضج المخبوزات في الأفران، وربما توصلوا من دون وعي مباشر إلى فن العلاج بالخَبز.

 

الخبز واليقظة
يتطلب الخبز مستوى معينًا من اليقظة العقلية، والقدرة على التواجد في اللحظة الحالية، لأن اتباع وصفة دقيقة معينة يجعل الشخص قادرًا على وضع كل أفكاره السلبية جانبًا، والتركيز فقط هنا والآن، مما يسبب الاسترخاء، وتخفيف الضغط العصبي، وزيادة مستوى الرضا

النفسي، بالإضافة إلى إنتاج شيء ملموس يمكن للشخص تناوله، ومشاركته مع الأشخاص المقربين له.
يرتبط الخَبز أيضًا في العقل الباطن للإنسان بذكريات وقصص الأسرة والطفولة، ويعدُّ من ضمن مسببات تخفيف التوتر، مثله مثل اليوغا، والتأمل، والعلاج بالفن والموسيقى، كما أنه يعزز احترام الذات، والنتائج النهائية لعملية الخبز تساعد الإنسان على الشعور بالتحقق، خاصة في اللحظة التي يأكل فيها مما صنعه هو وأحباؤه.
تطورت طريقة العلاج بالخبز ضمن أنواع العلاجات بالفن والعلاجات البديلة، التي تتجاوز الثقافات والطبقات لتصبح لغة عالمية، وهو يشبه كل العلاجات القائمة على استخدام اليدين، وتعزيز حاسة اللمس، مثل العلاج بالطين الصلصالي، أو الصوف، لأن لمسة العجين تعتبر هي اللمسة الأكثر متعة في العالم، خاصة مع محاولات كل شخص لتشكيل وتزيين الخبز تبعًا لثقافته.



ليست النتائج فقط هي المهمة
ربما يعتقد بعضنا أن أهم ما في الخَبز هو النتيجة النهائية، لكن التجربة أثبتت أن العملية نفسها عملية فنية بناءة، تحول الطاقة السلبية إلى هدوء وتركيز، من خلال تحويل مكونات بسيطة متفرقة إلى منتج نهائي. تعزز عملية الخبز التركيز، وتحسن الذاكرة قصيرة المدى، بالإضافة

إلى ترسيخ الشعور بالسيطرة، والرغبة في الحياة، كما تساعد عملية الخبز على العثور على الرغبات والمخاوف الموجودة في العقل الباطن، ليصبح الشخص أكثر وعيًا بها، ما يساعد على عملية الشفاء.
تعمل الحركات المتكررة في عملية الخلط والعجن، كمهدئ نفسي، كما أن تخصيص الطاقة الجسدية والعقلية لعملية الخبز تساعد الشخص على الوصول إلى حالة التدفق، التي تحدث مع الفنانين والموسيقيين، وتساعد الشخص إلى الوصول لمعادلة نفسية مهمة من الاتصال الذاتي ومعرفة ما يرغب فيه الشخص بالفعل، كما تتداخل أثناء عملية الخبز حواس متعددة: الشم واللمس والبصر والتذوق، فيصبح له أثرٌ علاجيٌ عند كثير من الناس، خاصة هؤلاء الذين يملكون ذكريات إيجابية مرتبطة بالخبز. ولذلك غالبًا ما يعزز الخبز المزاج الإيجابي المرتبط بلحظات الحنين إلى الماضي، ويساعد على تجاوز الإحباطات الآنية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.