}

المقاهي الثقافية.. انتصارٌ للهامش وأوجاعه

أشرف الحساني 30 يونيو 2020
إناسة المقاهي الثقافية.. انتصارٌ للهامش وأوجاعه
رقص وموسيقى تقليدية في مقهى الساعة في مراكش (24/3/2019/Getty)

أعتقد أن طرح سؤال المقاهي الثقافية، اليوم، هو سؤال أكثر الصيغ حداثة، وله أساسًا علاقة خصبة بما سبق أن سماه هبرماس بـ"الفضاء العمومي"، فهو يُضمر في طياته سؤالًا جوهريًا عن ما نريد اليوم على صعيد الثقافة وسياستها، فنجاح الدولة في استدراج بعض قيم الترفيه، كخاصية ملازمة للفرد، وحرصها الشديد في جعل الثقافة مجرد إكسسوار داخل سياساتها وبرامجها اللاثقافية الهجينة، سيجعل المثقف نفسه داخل فسحة ضيقة للكتابة والاشتغال والتفاعل مع جمهور لا يعنيه لا الشعر، ولا القصة، ولا الرواية، وما تحدثه هذه الأشكال الفنية من تجميل خلاّق لحياتنا الرتيبة. وهذا ما يؤدي إلى أن تصبح الجماهير هلامية، ومجرد آلات لا تُفكر ولا تحلم ولا تُغني ولا ترقص نشدانًا للحياة، بعد أن أصبحت الثقافة بالنسبة إليهم مجرد لغو، وكلام لا طائل منه، مُتناسين أن الثقافة مشروع مجتمعي خلاّق يهدف إلى إخراح المجتمع من براثن الجهل والاستبداد النفسي الذي يعيشه الفرد داخل وطنه، أمام الغياب السحيق للدور الذي يمكن أن يلعبه الجامعيون داخل الجامعة في توجيه الطلبة، والباحثون في طرح الأسئلة الحارقة، وإلى أمور تُساعدهم في فهم الفعل الثقافي في المغرب، وقراءة متونه المعاصرة، والتعريف بأعلامه ورموزه، ممن صنعوا مجد الثقافة المغربية، منذ خمسينيات القرن المنصرم إلى الآن.
في هذا الأفق الثقافي الغائم الذي تعيشه الجامعة المغربية، برزت مؤخرًا داخل عدد من المدن المغربية مقاهٍ ثقافية لعبت دورًا كبيرًا في إرساء دعائم الفعل الثقافي، وتنشيط الحركة الأدبية داخل المغرب في علاقتها بمدن الجوار، كبديل عن "الجامعة"، حتى صارت هذه المقاهي

الملاذ الآمن والمشتهى لعدد كبير من الجامعيين أنفسهم، وأيضًا لمثقفين يؤمنون بقيمة الحوار كأفق لصناعة الفكر، ونقد الأزعومات والأغاليط، وتفكيك البديهيات السطحية المميتة، التي تنمو داخل الخطاب اليومي، بحيث يغدو الحوار داخل المقهى حقًا مشروعًا لوضع الذات الثقافية على حافة الجرح، والإنصات إلى هسيسها، وإلى صوت المهمشين ممن تم تهميشهم بوعي، أو من دون وعي، من لدن مؤسسات معيّنة، التي تُراهن على أسماء مدن المركز، عوض أسماء أخرى ظلت تشتغل بالهامش في صمت. هذا المفهوم الذي بزغت نواته الأولى داخل بعض الأدبيات الاقتصادية، كمقابل لمفهوم المركز الذي تمثله الدولة الرأسمالية الممتلكة لوسائل الإنتاج، على حد تعبير كارل ماركس، بهدف تفسير التراجع، أو التخلف الذي تشهده بعض الدول، ما أسفر عن عملية استغلال وتبعية رهيبة للمركز، بالرغم من أن العولمة والثورة التكنولوجية التي شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي قد أسقطت ورقة التوت العالقة كما يقال، من خلال تكسير العزلة على مدن الهامش ورموزه، بحيث أن العالم أصبح أشبه بقرية صغيرة تختفي فيها الحواجز بين الدول. مع ذلك، فقد استطاع هذا الهامش أن يصنع كتابه ومثقفيه، بحيث نرى أن عددًا من المشاريع الكتابية انطلقت منه، واستطاعت أن تحفر مجراها عميقًا في مدونة الأدب المغربي. نحيل، على سبيل المثال لا الحصر، إلى تجربتي كل من محمد شكري، ومحمد زفزاف، اللذين استطاعا أن يؤسسا لكتابة روائية خاصة، تنطلق من قاع المجتمع المغربي، وتكشف عن عيوبه وتناقضاته، ما جعل كتاباتهم تتنزل منزلة رفيعة داخل الأدب المغاربي والعربي، مجترحة لنفسها مشروعًا أدبيًا لا تحده المحلية، ليجد موطنه الفعلي داخل الأدب العالمي، الذي لا يزال حتى اليوم شاهدًا على أسماء الهامش، ليس في المغرب فقط، بل حتى في فرنسا وأميركا، كما هو الأمر عند جان جونيه، وتينسي ويليامز، وبول باولز، وغيرهم.
لذلك، نرى أن "سياسة" المقاهي الثقافية تبدو حلًا ناجعًا لتحرير الهامش من هامشيته التي فرضت عليه بحكم الجغرافيا والتصحر الثقافي، الذي يسم مدن المركز، بغية احتضان هذه

الهوامش والتعريف بأعلامها ورموزها داخل المقاهي الثقافية، بوصفها الفضاء الوحيد، الذي يُحقّق التواصل بين الناس، ويصنع خطاباتهم، ويربي فيهم ملكة النقد، ثم بهدف إقحام بعض أطياف الجمهور الهلامي من المجتمع المغربي، الذي باتت الرياضة شغله الأساس لمحاولة وضعه في صلب الثقافة، في محاولة استقطابه، وتخليص ذهنه من كل الشوائب التي تحول دون تنمية فكره ثقافيًا وفنيًا وجماليًا، بطريقة تجعله فردًا يمتلك وعيًا ثقافيًا، وصاحب رؤية وتصوّر وموقف تجاه جملة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعاينها يوميًا على التلفزيون، وهو الأمر الذي نجحت فيه حقيقة جملة من المقاهي الثقافية داخل عدد من المدن المغربية، في الصويرة، وآسفي والرباط، والدارالبيضاء، بحيث أصبحت تشكل منارة ساطعة لاحتضان عدد من الأسماء المغربية لمناقشة القضايا والإشكالات، التي تعترض سير وتقدم الثقافة المغربية في مواضيع متعددة تخص الأدب وعوالمه التخييلية، حتى أصبحت هنالك شبكة لهذه المقاهي الثقافية في المغرب، ما ساهم في خلق حيوية ودينامية فعالة داخل الثقافة المغربية، لتوقيع أعمال شعرية، وروائية، وقصصية، وقراءتها وتداولها بين شرائح أكبر من المجتمع، وتسويغ أفقها الثقافي، وما تطرحه من أسئلة جوهرية وقلقة حول راهن الثقافة المغربية ومصيرها أمام التوحش التكنولوجي الذي اجتاح فضاءاتها، التي تم فيها استبدال الكتاب بالهواتف "الذكية"، والتحاور الثقافي باللغو اليومي.
غير أنّ الشيء الوحيد الذي نُسجله على هذه المقاهي الثقافية هو سطوة الأدب فيها على باقي التخصصات الأخرى، خاصة من العلوم الإنسانية والاجتماعية، بسبب الإنتاج الغزير الذي يشهده حقل الأدب داخل المغرب اليوم، في مقابل تراجع كتب الفكر ودراسات التاريخ والأنثروبولوجيا والفن، وما ساهم في تعزيز هذه السطوة (المشروعة علميًا) هو ارتباط هذه المقاهي لأول مرة في تاريخها بالمشرق، باسم "المقاهي الأدبية"، وليس "المقاهي الثقافية"، وهي موجة كانت قد عمت مصر وسورية والعراق، وغيرها من البلدان التي كانت سباقة لاحتضان فكرة المقاهي الثقافية الدخيلة على الثقافة العربية من الغرب منذ القرن التاسع عشر، فانتشرت فيه المقاهي والصالونات الثقافية، خاصة في مجال الفنون التشكيلية والأدب.

 

*ناقد مغربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.