}

مكاني الأول.. شهادة عباس بيضون

ضفة ثالثة ـ خاص 29 يوليه 2020
أمكنة مكاني الأول.. شهادة عباس بيضون
بيضون: الشوق إلى الأمكنة واستشرافها جعلني شاعر مكان
الفكرة الأساسية لهذه الزاوية هي ربط تجربة الكاتب أو الشاعر بمكانه الأول أو أمكنته الأولى. ويبحث هذا الربط ليس عن المكان كبديهية أو مصادفة جغرافية، بل عن أثر المكان على تجربة الكاتب وهويته وأسلوبه.

في كل حلقة نستضيف كاتبًا يستعيد مكانه الأول في شهادة مسترسلة أو على شكل إجابات عن الاسئلة والمفاتيح التالية، من دون التقيّد بها حرفيًا:


كيف تتذكر مكانك الأول أو أمكنتك الأولى؟

هل لعب المكان دورًا في كونك أصبحت كاتبًا؟

ما هو أثر المكان على هويتك ككاتب؟

ماذا ظهر في نصوصك من مكانك الأول.. بأية طرق وأساليب؟

هل هناك أمكنة أخرى تركت أثرًا في تجربتك؟

هنا شهادة الشاعر والروائي اللبناني عباس بيضون:

                                                                                                                                                                 (حسين بن حمزة)

 

*****



عباس بيضون: كلُّ كتابة هي مكانٌ أوّل

مقطع من قصيدة الشاعر عباس بيضون (جناز لصافي شعيتاني)  للتشكيلي العراقي صفاء سالم إسكندر






















أظنُّ أن في البحث عن أولٍ في كلّ شيء بعضًا من أسطورتنا عن أنفسنا، أو سعيًا إلى ابتكار أسطورةٍ ما عنا. إننا هكذا نخترع زمننا الخاص، أو نخترع لأنفسنا زمنًا خاصًا. هذا شيءٌ نُؤلّفه ونُعيد تأليفه، وقد نُغيّر فيه عند كلّ مرة، إذْ تتغير مع الوقت مطالبنا منه، أو حاجاتنا إليه. تتغير على الأقل لغتنا ورموزنا ومثالاتنا، كما تتغير أيضا مطالبنا من أنفسنا وصِلاتنا بها ونزاعاتنا معها.
المهم أننا في سعينا لأن نصوغ لأنفسنا وعن أنفسنا قصةً ما لا بدّ أن تبدأ من أشياء ما، لتكون، على نحوٍ ما، قصةً حقيقية، كما تكون القصص عادةً. أي أن تكون ذات بداية لتكون هكذا، ولو في الشكل على الأقل، قريبة من الكمال، لتستحقَّ هكذا أن تُروى أو أن تُستعاد، فكيف أن تكتب، حيث تكون تأليفًا بحتًا.
لسنا أكيدين بالطبع من أيّ بداية، بل لسنا أكيدين بالأحرى أن للأشياء أو المسائل بدايات. نحن نجد في أنفسنا أمورًا نُدمدم بها وتدور فينا، قلّما نعرف متى وقعنا عليها وكيف ظهرت. إنها نحن وليس لها مبتدأ، كما أننا لا نعرف لأنفسنا مبتدًا، فنحن لم نتلقّها على دفعات ولم نُؤرّخ لها، ولم نرها تتسلسل تحت أعيننا. إنها نحن ونظنها كذلك. تكوّنت من حيث لم نحسب ولم نُرتّب، كجزءٍ من تكويننا. بل نحن، قد نكون، تكوَّنا معها وبها. المهم أن ليس للشخص أن يكون مؤرّخ نفسه، رغم أنه قد يقضي حياته وهو يؤلف حياته بقدر ما يعيشها. يرويها كمن يؤلفها، وبالطبع لن يضيره ذلك، فهو قد يظن أنها مؤلفة أصلا، وأنه لا يفعل سوى أن يردّها إلى أصلها أو يُعيد سَبْكها كما ينبغي أن تكون. لنقل إننا مع ذلك لا نَنِي نبحث عن بداياتنا. بل نحن نبقى نتصوّر أننا لسنا شيئًا بدون هذه البدايات. نتصوّر أننا صَدَرْنا عنها. إنها ولاداتنا إذْ لا شيء ننتمي إليه سواها.

 

***

 

مع ذلك أحاول أن أجد في العجيج الذي عشته وعبرت فيه نقاط بداية. لن يكون سهلا أن أنبشها أو أتسقّطها أو حتى أخترعها، لكنه أمرٌ لا مفرّ منه. لا تكون الأشياء بدون بدايات ولا نكونها بدون أن نبدأ من مكانٍ ما. أعود إلى ما يشبه الدمدمة أو العوم. كان ذلك يجرُّني إليه، وكنت أغوص فيه وأَنعم بالسباحة فيه والطيران حوله. كان ذلك أمرًا علمتُ منه، لا أدري كيف، أنني أفكّر. كنت عند نفسي الوحيدَ الذي يُواتيه ذلك. الوحيد الذي يتاح له ذلك الطيران وتلك السباحة. لم أكن، حتى ذلك الحين، انتبهت إلى أنني أفكر بالكلمات ومن داخل الكلمات، وأن لي لغة، وأن الدمدمة التي تحيط بي، أو تتحرك في داخلي هي أيضًا هذه الدوّامات من الكلمات، وإن كنت لا أسمعها. لكنني أشعر أنني، مع ذلك، أتكلم في داخلي. وأن ما يُطلقني في الفضاء، وما ينقلني ضمنه، هو هذه الأفكار التي أسافر فيها عبر الكلمات. كانت هذه بداية مختلطة ولا أعرف كيف وقعتُ على الكلمات وحدها في رأسي أو في كتاب مقابل. كانت الكتب الأولى التي وقعتُ عليها في مكتبة والدي في بيته القديم، حين عدنا معه إلى مدينة "صور"، حيث عاش قبل أن يحمله العمل إلى أن ينتقل إلى القرية التي أسس فيها العائلة التي ولدتُ فيها. كانت هذه كتبًا عريقة ومجلدات ضخمة، لكنها كانت "الكتب" بالنسبة لنا. كانت الكتب أعلى منا وأضخم وأقدم. قرأت أنا وأصدقائي ديوان ابن الرومي و"الشوقيات" مرارًا ورتّلناها وشعرنا أننا نكبر معها، واليوم حين أستعيد ذلك أفكر أننا حتى في ذلك الحين كنا نخترع بداياتنا أو نبدأ من لا مكان.





لا نبدأ بالطبع من الشوقيات أو ابن الرومي ولا من المنفلوطي أو الزير سالم. لا بد أن الأمر أكثر إمكانًا من "نهر الرماد" لخليل حاوي و"طفولة نهد" لنزار قباني وبعدهما "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي و"أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب و"أغاني مهيار الدمشقي" لأدونيس. هل الكتب أمكنتنا الوحيدة؟ وماذا عن المدن والقرى والجزر والموانئ؟ الأرجح أن أمكنتنا كانت في التاريخ، أقصد الأمكنة التي كنا نبوح بها، في التاريخ أو في عواصم ومدن أخرى، في الترجمات التي هي أيضا كتب. مع ذلك كان المكان الذي ننتظره من الغرب ليس أكثر من همهمة غير متميزة بعد. لا أعرف كيف وصلتُ إلى "اللامنتمي" لكولن ولسن، كان نوعًا من إنجيل جديد. صدر الكتاب ونحن في دوامة سجال سياسي، هو أبعد ما يكون عنه. لم تكن آنذاك التجارب الداخلية التي تصل إلى السحر وإلى النبوّة وإلى الهلوسة تعنينا، لكن الكتاب كان أشبه بدعوة وبإيمان آخر. كاد أيضًا أن يكون عالمًا مكتملًا ومعرفة كاملة، لذا اعتنقناه، ولذا وجدنا فيه ذلك العالم الآخر بتجاربه وأعلامه ونهاياته. كان علينا أن نولد ثانية في مكان آخر مسمّى، في الغرب. أن نولد من الكتب ومن الكلمات. لم يكن كتاب "اللامنتمي" جديدًا علينا، لكنه الكتاب الأول الذي حمل دعوةً إلينا، دعوة بعيدة لكنها غريبة، غربة توازي اغترابنا العميق الذي يغطي علينا في الزمان والمكان. بقيت الأمكنة الحقيقية بالنسبة لنا أحلامًا نلاحقها ونغفو عليها. حين بدأتُ كتابة قصيدة "صور"، لم يدُرْ لي أنني أكتب عنها، عن مدينتي الأولى، لكن المكان تولّد تحت القلم محسوسًا متكاملا لدرجة فاجأتني. كان في القصيدة شوقٌ مخبّأ إلى المكان لم أدرِ أنني أُضمره أو أنني أعانيه. كان المكان فوق المكان لأنني اخترعته، ولأن الشوق إلى الأمكنة واستشرافها هو ما جعلني شاعر مكان. هكذا كتبت عن باريس وبرلين وبيروت، وهي القصائد المطوّلات التي حوتها مجموعتي الشعرية "ب.ب.ب" المسماة بحسب الحرف الأول في أسماء المدن الثلاث. هكذا اخترعت الأمكنة من شغفي بها ومن شوقي إليها.

 





***

يمكن القول إن القصيدة قد تكون، أو يجب أن تكون، حيّزًا كلاميًا، أي أنها على ذلك مكان، ولا بد من أن تؤّلف في اتصالها هذا الامتداد المكاني. لتكون لها هيئة وقوام، ولكي تنبني فعلًا.
أظن أن قصائدي الطويلة التي هي معظم تآليفي كُتبت بهذا القصد. إيجاد مساحة شعرية أو مكان شعري. في الرواية، التي كتبتُها متأخرًا، قد يختلف الأمر.  فالمكان هو من مقومات الرواية وله في داخلها حضور قائم بذاته، إذْ لا بد في هذه الحال أن تجري الحوادث والتفاصيل في بيت أو حي أو شارع أو مدينة. في رواياتي قلما سميتُ بلدةً أو حيًا أو شارعًا معروفًا. لست أدافع عن ذلك. ربما كان ذلك لتجنّب الحرج، أو لأن أسلوب الكتابة جعل تسمية المكان أمرًا غير ضروري. مع ذلك كان وراء الأمكنة المخترعة في رواياتي أسماءها الواقعية. أمكنة مُستحضرة من الذاكرة، من أمكنة حقيقية اختلطت وتعدّلت. أظن أننا هكذا نفعل أيضًا بشخصيات الروايات.








في الشعر ليس المكان سوى مقابله الكلامي، ليس سوى ما يُوعز به من أجواء كلامية. من هنا نفهم أن كل مكان في الشعر وحتى في الرواية هو مكانٌ أول، لكن هناك ما نكتبه على أنه مكان أول بما يعنيه ذلك من البكورة والابتداء أو الولادة الأولى أو الثانية، فالمسألة ليست تأريخًا بقدر ما هي بناء أسطورة لها، من هذه الناحية، زمانها ومكانها، ومنهما أوّليتها أو ثانويّتها أو ماضويّتها، أي سيرتها وروايتها.



# مقابلة التلفزيون العربي مع الشاعر عباس بيضون: 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.