}

مدن ونساء

خيري الذهبي 29 ديسمبر 2021
أمكنة مدن ونساء
"اللاذقية" في الأرشيف العثماني (Ottoman Imperial Archives)

ربما كان من حظ سورية الأم، أو سورية التاريخية، أن اسمها مؤنث، و"كل ما لا يؤنث لا يعول عليه" كما يقول الشيخ الأكبر، وسورية التي توصف لغويًا بصيغة المؤنث، لم تنكر صفات الأنثى طوال تاريخها، فقد كانت رؤومًا وحنونًا وجميلة ومعطاء، ربما كان هذا في زمن العصر الأمومي، الذي ما لبث أن تغير وتحولت سورية في زمن تسلط الرجل إلى جارية تحت أقدام رجال السلطة، غير عابئين بها وبهمومها وأولادها.

بنيت سورية بصيغة الأنثى وكذلك بنيت أغلب حواضرها، فكلما تمكن منها غاز ذو رسالة، بنى فيها مدائن بمسميات نسائية، وكلما غزاها محتل دون رسالة، قوّض تلك المدن وبسط نفوذه وأسماءه الجافة فوق مجتمعات أبنيتها، والمدن ما هي إلا روح الناس، الذين اعتصموا جنبًا إلى جنب، ليزدادوا قوة، وبأسًا وعلمًا وحضارة، فالمدن هي عواصم الأهالي، هي إرادة الناس بأن يصبحوا أقوى بتجمعهم.

حينما انهارت إمبراطورية الإسكندر المقدوني، التي كانت أول تجربة يخوضها العالم، فيما نسميه اليوم بالعولمة، حيث ينفتح العالم المعروف وقتها بكامله من الشرق إلى الغرب، حضاريًا وثقافيًا وتجاريًا ودينيًا، وبعد موت الإسكندر المقدوني، اتفق كبار ضباطه على اقتسام الإمبراطورية فيما بينهم فكان الإقليم السوري من نصيب القائد سلوقس نيكاتور، بينما كان نصيب بطليموس كلًا من مصر وفلسطين، فيما استأثر أنتيغون بالأناضول والأراضي اليونانية القديمة.

في سورية كان الحنين يملأ سلوقس نيكاتور، وكأنّا به يريد أن يرمي برسائله إلى التاريخ والمستقبل، فيما كانت الوفرة تجتاح البلاد، بجانب شيء من حقوق الإنسان والمساواة بين السوريين واليونانيين، فقرر بناء حواضر ليعتصم بها الأهالي وتكون رسالته إلى العالم، فاختار مكانًا جغرافيًا على الساحل السوري اشتهر ببهائه واستراتجيته البحرية، فأطلق أعمال بناء مدينة ساحلية رائعة سيطلق عليها اسمًا قريبًا من قلبه، اسم لاوديسا، والدته الجميلة، كي يذكر التاريخ قوة ارتباط الأرض والشعب في سورية مع ضفة المتوسط المقابلة، فكانت ما نسميه اليوم مدينة اللاذقية، التي أُخذ اسمها من والدة  الإمبراطور سلوقس نيكاتور، لاوديسا.


"تدمر" كما رسمها لويس فرانسوا كاساس (1756-1827)


راقت له النتائج فأمر بتأسيس مدينتين جديدتين، بعد النجاح الاقتصادي الذي كانت عليه البلاد فأمر بإنشاء مدينة أنطاكيا لتأخذ اسم شقيقه الحبيب أنطيوخوس، لتصبح مدينة أنطاكيا لاحقًا عاصمة البلاد السورية للألف سنة القادمة، وعاصمة للكرسي الرسولي لعدد كبير من الكنائس المشرقية، وإلى الجنوب في الداخل السوري، أمر بانشاء مدينة ساحرة من الرخام الأبيض في قلب سهوب سورية الداخلية، وأطلق عليها اسم زوجته الفاتنة أبامي، التي أصبحت مع الأيام أفاميا، ثاني أكبر مدائن سورية بعد أنطاكيا... والتي دمرت تمامًا بفعل الكوارث حتى أزالها زلزال 1170 وما سبقه من زلازل وغزوات، لكن سوء حظها كان أن أهلها انفكوا عنها، كونها ثغرًا يحمي حصون الساحل، ومدخلًا لجميع الغزوات القادمة من الشرق. فباتت أثرًا بعد عين.. لكن اسمها الأنثوي اللطيف لا يزال يتردد مذكرًا بزوجة الإمبراطور وبمدينة شقيقة لـ اللاذقية وأنطاكيا، مدائن التترابوليس السورية التي شكلت ذلك التحالف السلوقي الرباعي لحماية الأرض السورية ولجلب من نسميهم اليوم بالمستثمرين من كافة أنحاء العالم الحديث وقتها.. من يونان ورومان ومصريين وعرب.

كانت سورية الأم في تلك الأيام تخوض صراعها مع ذاتها لتكوين أسس الدولة الأم التي كانوا يعتقدون أنها ستكونها بعد سنين، على الرغم من أنهم لم ينجحوا في تكوين ما أرادوا، بل فقط في إنشاء ممالك مدن، التي سيغطي تأثيرها العالم كله، وستعطي سورية الأم لتلك القارة العجوز اسمها، أوروبا، ابنة ملك صور، التي اختطفها زيوس من شاطئ البحر بعد أن حوّل جسده إلى جسد ثور مجنح...

في زماننا لم يتغير الحال، وها هم أصحاب القوة على الأرض من المنتصرين على الشعوب يسعون لإنشاء مدائن جديدة، تأسيسًا لكيانهم الجديد، ولعلمهم بأن تأنيث المدن في سورية يجلب الحظ ربما، أو القبول المجتمعي، فتراهم يعمدون إلى تأسيس مدينة باسم ابنة خليفة المسلمين الراشدي الرابع، علي بن أبي طالب، زينب، في الضاحية الجنوبية من دمشق، على أنقاض قرية الست زينب، الوادعة على ضفاف الغوطة، وربما سيتحول اسم مدينة داريا لاحقًا ليصبح مدينة السيدة سكينة.. على اسم المرقد هناك.

هذه هي الدنيا، أيام نداولها بين الأقوياء، جيوش وقلاع وحصون، فلا يبقى للتاريخ إلا الاسم والمغزى.

ولأننا شعب لا ينسى، ويستزرع الأمل في قلوب أحفاده قبل أن يتجرأوا ويتناسوا، فقد رمى الآباء على أولادهم أسماء تلك المدن في حركة حنين مستعادة، فها هم سوريو الجنوب (الفلسطينيون) يرمون حنينهم على بناتهم لينثروا في الأرض حنينهم، يافا، حيفا، بيسان، دورا.

وهاهم السوريون يتبعونهم في التغريبة، فينثرون حنينهم إلى مدنهم على أولادهم، شام، إميسا، أفاميا، بالميرا، أرواد...

حينما كان السوريون ولاة أمرهم، شيدت المدائن على أسماء الحبيبات والأمهات.. وها نحن نخسر تلك المدن ونخسر وحدتنا فيها، فلم يبق لنا إلا أن نعيد الكرة، ونسمي أولادنا بأسماء مدننا كي لا ننسى أننا كنا يومًا هناك..


مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.