}

مكاني الأول.. شهادة عيسى مخلوف

ضفة ثالثة ـ خاص 10 أبريل 2021
أمكنة مكاني الأول.. شهادة عيسى مخلوف
عيسى مخلوف
الفكرة الأساسية لهذه الزاوية هي ربط تجربة الكاتب، أو الشاعر، بمكانه الأول، أو أمكنته الأولى، والسؤال عن أثر المكان على تجربته.
في كل حلقة، نستضيف كاتبًا يستعيد مكانه الأول، في شهادة مسترسلة، أو على شكل إجابات عن الأسئلة، والمفاتيح التالية، من دون التقيّد بها حرفيًا:
كيف تتذكر مكانك الأول؟
هل لعب المكان دورًا في كونك أصبحت كاتبًا؟
هل هنالك أمكنة أخرى تركت أثرًا في تجربتك؟
هنا، شهادة الشاعر والكاتب اللبناني، عيسى مخلوف.

                                                                       (حسين بن حمزة)


عيسى مخلوف: جماليّات المكان الأول
لا أدري ماذا يمكن للكاتب أن يكتب عن مكانه الأوّل، وعن صورة العالم الأولى التي رأتها عيناه، وما الذي بقي منها؟ باكرًا، وجدتُ نفسي في طائرة تقلّني إلى باريس، ومنها، بعد ساعات قليلة، إلى كراكاس، في الجهة الأخرى من العالم. تلك الرحلة الطويلة الأشبه بالاقتلاع لم تكن في الحسبان. جاءت بغتةً والحرب الأهليّة هي التي قرّرتها. قال لي والدي وهو يودّعني: "أسابيع قليلة وتنتهي الحرب، وتعود إلينا". كان صوته يقول شيئًا، أما البريق الذي في عينيه فكان يقول شيئًا آخر مختلفًا. حتّى الآن، لا أفهم كيف قبلتُ أن أسافر وأترك من أحببتهم وأحبّوني في قلب حرب استمرّت خمس عشرة سنة، وحين انتهت لم تنتهِ. هنالك حروب لا تنتهي، كحروب العالم العربي، ومنها الحرب اللبنانيّة. ثمّة عند مُهَندسيها إصرارٌ على ألّا تندمل الجروح لتبقى دائمًا مفتوحة. لتصبح زاد الأعمار الضئيلة، وجزءًا من أيّامنا، تلاحقنا أخبارها مهما ابتعدنا.
مُوجعة هي الأماكن المفتوحة على النزاعات والاغتيالات، المحكومة بذهنيّات مشوَّهة مريضة، وبالفكر الواحد المُطلَق الذي لا ينتصر إلاّ للقتل. من وراء هذا الغشاء الأسود السميك، ومن حيث أنا الآن، كيف أرى المكان الأوّل وأتحسّسه؟ كيف أميّز بين الماضي والحاضر، بين الجمال والوجع، في بلاد تنزف بلا توقّف منذ قُرابة نصف قرن؟ كيف أتبيّن المشهد الذي أدهشني في طفولتي، وكيف أفصله عن الواقع السياسي، وما فعله هذا الواقع بالبشر والحجر على مرّ السنين؟

أغمض عينيّ وأرى ذلك المكان بتفاصيله الصغيرة ومكوّناته. أشعر أحيانًا بأنه مكان يشبه تلك المدن التي وصفها الكاتب الإيطالي، إيتالو كالفينو، في كتابه "مدن لا مرئيّة"، من خلال حوار مُتخيَّل بين ماركو بولو، والإمبراطور قُبلاي خان. أرى تدرُّجات الضوء واللون على صفحات الهواء. أرى الكَرمة وشجرة الحَور والصخرة وشلّال الماء وأزرق السّماء اللّامتناهي، هذا الأزرق الذي يبلغ، في بعض لحظات النهار والليل، أقصى درجات الصّفاء والعُمق. في البقعة المُعَلَّقة بين الأرض والسّماء، أسمع حفيف الأشجار الذي يُضاعف كثافة السُّكون وتَلاطُمه المَكتوم.
في تلك الأعالي، يومَ كنتُ طفلًا، أبصرتُ الأنجُم تحطّ كصحون طائرة مُحَمَّلة بإشارات الحبّ الأوّل للعالَم الحيّ. هنا اكتشفتُ أنّ الحبّ ليس قصّة رجل وامرأة فحسب، فهو يوجد في قلب العناصر نفسها، وفي المصير المشترك بين البشر وجميع الكائنات، المتحرِّك منها، والذي لم تستيقظ روحه بعد.
أَتُراني أحلم؟ لكن، ما نراه في الحلم يفوق وضوحًا ما يطالعنا في الواقع. الحلم يفتح الواقع على جهاته غير المرئيّة. في ذلك الفضاء الأول، كان الجبل الذي أمامي هو العمل الفنّي الأوّل، بل المنحوتة الأولى التي رأيتُها في حياتي. وهي منحوتة هائلة عظيمة التكوين. كانت كُتلة مَهيبة في الظلمة، وكذلك حين يلفحها الضباب ويتضاعف سرّها في نفسي. وحين تسطع الشمس ويتناثر الضوء في الاتجاهات كلّها، ينتشر الدفء في الأوصال.
كنت أَمْحَض الجبل ثقتي وأرتاح لوجوده بقربي. الجبل الأزليّ والقمر الممتلئ فوق أعاليه كأنّه يخرج من ذاته ليرافق أقدارنا ومصائرنا الصغيرة. الحقيقة الوحيدة التي كنتُ على يقين منها، حينذاك، أنّ هذا الكائن الذي نتحرّك ونعيش عند سفحه لن يموت بالسهولة العجيبة التي يموت بها البشر، ويمَّحون، فجأةً، عن وجه الأرض.
علاقتي بالمكان الأول لا ترتبط بالحنين، ولا تنحصر فقط في الطفولة والأهل والصداقات والذكريات، فهي تأخذ معنًى آخر، أيضًا، لأنّ هذا المكان يجيب على بعض أسئلتي الجماليّة المتعلّقة بالمشهد الطبيعي الذي أتيت على ذكره. من هنا بدأَت أسفاري البعيدة. من جبل "سيّدة الحصن" المشرف على البحر، والقريب ليلًا من سماوات مرصّعة بالمجرّات والكواكب. ثمّة أمكنة تكون قريبة من أسرار الكون، بفعل موقعها الطبيعيّ، وإهدن ـ ومعها دورة قاديشا ـ أحد هذه الأماكن.

من مؤلفات عيسى مخلوف 


كلّ مكان له جاذبيّته وأسراره. ونظرتنا إليه يمتزج فيها الذاتي والموضوعي، الواقعي والمتخيَّل. كلّ منّا يرى المكان بعينيه وبصدى تردُّداته في نفسه. هكذا تكون الأمكنة كثيرة في المكان الواحد، لا سيّما المكان الأوّل الذي نلتقيه دائمًا في منتصف الهواء، وهو ابن المصادفة كوجودنا بالذات.
نعم، إنّه يحضر في كتاباتي. أختم النصّ الثاني من كتاب "عين السراب" على النحو الآتي: "في طريق العودة، سنجلس حيث اعتدنا الجلوس. عاليًا سنجلس وأمامنا أشعّة الشمس الغاربة المنهمكة في نقل أشجار الشربين إلى أمكنة أخرى. ولا نفقه ما يجري حولنا أو نتظاهر بأنّنا لا نفقه. يا عصفوري الصغير المختبئ في ظلّ الأوراق والأغصان، لا أعرف إن كنتَ تموت، أو تختبئ". والكلمات الأخيرة من هذا النصّ: "يحمل إليّ هواءُ هذا المساء صوتَ الشاعرة اليونانيّة سافو، ناصعًا وقويًّا كشمس الجبال بعد المطر. الجبال الوفيّة التي تلقي مرساتها في الأرض، هنا، قريبًا من خبز الصباح".

في الفراديس الإهدنيّة، كان احتكاكي الأول بالطبيعة قبل أن تطالعني في أماكن كثيرة من العالم وأنظر إليها بعين جديدة: من أميركا الجنوبيّة، وغابة الأمازون، و"السابانا العظيمة"، ومنطقة "كانايما" عند الحدود الفنزويلية البرازيلية، إلى أميركا الشمالية، فأوروبا، وخصوصًا فرنسا. وفي المدن التي عشتُ فيها، من بيروت التي كانت تتوهّج، عشيّة الحرب الأهليّة، كقوس قُزَح بألف لون ـ لكن فوق بركان يتهيّأ للانفجار ـ إلى كراكاس، ونيويورك، وصولًا إلى باريس، مكان إقامتي وولادتي الثانية، أبحث عن الطبيعة في الحدائق، كما أجدها في اللوحات والكتب، وفي نصوص أدبيّة تحضرني منها الآن الكلمات التي كتبها الشاعر الفرنسي بيار دو رونسار، ابن القرن السادس عشر، عندما قُطعَت أشجار غابة "غاستين"، وكان يملكها هنري دو نافار، الذي أصبح ملك فرنسا هنري الرابع: "راقِب ذراعك قليلًا، أيّها الحطّاب/ ما ترميه أرضًا ليس حَطَبًا:/ ألا ترى الدماء التي تسيل منها؟". وكم تتآخى هذه الكلمات رؤيةَ الهنود الحمر ونظرتهم إلى الطبيعة بصفتها جزءًا من كيانهم ووجودهم.
أخلص إلى القول إنّ المدن والأمكنة التي أقمتُ فيها هي، أيضًا، منازلي، وبعضها حفرَ بصماته في النفس، أو، كما يقول المتنبّي: "لكِ يا منازل في القلوب منازل". هذه العلاقة بالأرض، وبالطبيعة، كانت تتوطّد وتزداد قوّة في مقدار وعيي هشاشة ما ظننتُه يومًا من طينة الأبد، وفي مقدار ما يهيمن المال المنتصر وسياسة اقتصادية لا تعنيها إلّا المردوديّة المادّيّة والربح. ولن يكون هنالك خلاص إن لم يحدث تغيُّر جذري في التعاطي مع البيئة وعناصرها المتنوّعة، وفي طريقة استغلال الموارد الطبيعية، والتوقّف عن استباحتها كأنّها غنيمة حرب، وعن تدمير الغابات، والحدّ من التلوّث، ومواجهة الاحتباس الحراري، وكلّها عوامل ساهمت في وصول وباء كورونا وفق تحليل العلماء الذين ما فتئوا يحذّرون حكومات العالم، منذ أكثر من ثلاثة عقود، من المخاطر التي تتهدّد الأرض والكائنات الحيّة كلّها، بما فيها هذا الإنسان المسكين المُتَجبِّر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.