}

"جنّي الهيدور".. قصة حكاية مفقودة من غرب الجزائر

فائزة مصطفى 10 يونيو 2021

في عام 1911، اكتشف عمال أشغال الحفر مغارة في خليج مدينة وهران غربي الجزائر، بالقرب من الطريق الرابط ببن ميناء المرسى الكبير وجبل مرجاجو أو الهيدور، في البداية سميت المغارة بسان كلوتيلد نسبة إلى قرية قريبة، ثم اعتمدت اسم "الهيدور" نسبة إلى عنوان مخطوط عثر عليه جندي فرنسي بضواحي مدينة تلمسان، ثم قام الموظف والكاتب الفرنسي هنري دوساروتون بترجمته ونشره، وترجح المعلومات التاريخية كتابة تلك الرائعة الأدبية بين عامي 1805 و1810، فيما يبقى المؤلف الأصلي مجهولًا.


حمامات الملكة الإسبانية وسر المياه
الشافية للأمراض المستعصية

لا تختلف قصة اكتشاف المخطوط عن ما ورد فيه من غرائبية، وحسب المعطيات المتوفرة، فإنه خلال حملة عسكرية للجنرال ليوتي في منطقة بني سنوس في تلمسان – 700 كيلومتر غربي الجزائر العاصمة – عثر جندي على صندوق خشبي صغير مزين بالزخارف بين أنقاض كوخ متداع، فتحه بصعوبة معتقدًا أن بداخله كنزًا، لكنه وجد أوراقًا بالية مكتوبة باللغة العربية بينها: وثائق قضائية لا قيمة لها، ومخطوط لقصة أدبية مبتورة. وصلت الوثيقة الثمينة إلى يد هنري دوساروتون، وهو موظف إداري فرنسي أقام في البلاد منذ عام 1865، اهتم بالكتابة عن الحياة الاجتماعية والثقافية للجزائريين، وأصدر كتابًا بعنوان "المسألة الجزائرية" عام 1891. قرر ترجمة المخطوط إلى اللغة الفرنسية بينما تكفل جورج سكوت بتصميم الرسومات، ليصدر العمل الأدبي في عام 1910 بعنوان: "حكاية جني الهيدور أو عفريت الهيدور"، مكوّنًا من 32 صفحة فقط. أعيد طبعه عدة مرات في فرنسا، كما تُرجم إلى اللغة الإنكليزية، بينما هو شبه مفقود في المكتبات الجزائرية. وتروي القصة حكاية أمير كلف فارسًا بالبحث عن جني في مغارة، ليدله على الكنوز التي خبأها الملوك الإسبان منذ قديم الزمان. 

تهيئة المغارة في عام 1912 وتكفّل جورج سكوت بتصميم الرسومات داخل الكتاب


وقد استحضرت الكاتبة جونيفياف دو ترنو في صحيفة " صدى وهران"، في عددها 211، ما ورد في كتاب المهندس أندريه لوفرو، عضو جمعية المعماريين الفرنسيين، والذي صدر في عام 1935 بالجزائر، إذ وثق الكتاب ظروف اكتشاف المغارة خلال أشغال لتوسيع الطريق المؤدية نحو قرية سان كلوتيلد، وقد أطلق رئيس البلدية وهران آنذاك فيكونت غاربي على القرية هذه التسمية تكريمًا لزوجة الأمير الفرنسي جيروم نابليون. وسرعان ما استمدت المغارة نفس الاسم، قبل أن يقرّر المجلس المحلي في العام الموالي تسميتها بالهيدور نسبة لعنوان الحكاية العربية، ونسبة لأحد أسماء جبل مرجاجو المجاور. 

وحسب ما ورد في الصحيفة الكولونيالية، ترتفع المغارة بنحو 30 مترًا على مستوى سطح البحر، وتتكون جدرانها من صواعد ونوازل كلسية عملاقة، وأعمدة مكسورة تشع بياضًا مبهرًا، تتفرع بداخلها قاعتان أكثر روعة وهيبة، تظهر في الغرفة الثالثة فتحات يتسرّب منها البخار المتصاعد من البحيرة الجوفية. وعند النزول نحو الأسفل، تتراءى برك مائية متفرعة نحو ما يعرف بحمامات الملكة البعيدة ببضعة أمتار. تصل درجتها إلى 55 درجة مئوية. جلبت المغارة اهتمام الجيولوجيين والأنثربولوجيين والفنانين نظرًا لعلاقة المغارة بالأساطير المنتشرة في المنطقة وبالمخطوط النادر.

وقد قال المهندس المعماري الفرنسي أندريه لوفرو: "يعتبر كهف الهيدور واحدًا من أجمل الكهوف وأكثرها فضولًا وأفضل تجهيزًا في شمال أفريقيا. إنه أكثر بساطة في أبعاده من المغارات الموجودة في فرنسا، لكنه يجمع في مساحة ضيقة كل الأشياء المثيرة للاهتمام". افترض المهندس أن طبيعة مياه المغارة وعناصرها الكيميائية مماثلة لمياه حمامات الملكة، ولذلك توصف للمرضى المصابين بداء الروماتيزم، وعسر الهضم، وفقر الدم، وعدوى الملاريا. وتقول المرويات إن الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر الميلادي، أطلقوا على البحيرة تلك التسمية تخليدًا لذكرى الملكة جين الملقبة بالمجنونة (1479-1555)، ابنة إيزابيل قشتالة وأم شارل لوكان، والتي اعتادت على زيارة المكان للتداوي من مرض جلدي أصابها.

هنري دوساروتون  ترجم المخطوط إلى اللغة الفرنسية ونشره عام 1910


كنوز الكونت مونت كريستو المدفونة
في وهران وكرامات الولي الصالح

تعدّ البحيرة والمغارة موقعين أثريين مهمين، لكنهما مجهولان لدى سكان المدينة حاليًا، وكان الوصول إليهما في الماضي عبر خط الترامواي المتوجه نحو مدينة عين الترك، حيث تنتشر الشواطئ الساحرة والخلجان والبحيرات الساخنة مثل: خليج مونت كريستو المؤدي نحو الأحياء الفقيرة. وتقول الأسطورة إن الكونت مونت كريستو قد أخفى كنزه هناك. ويبدو أن الإشاعات لديها علاقة بالرواية الشهيرة للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما المستمدة من أحداث حقيقية. تم تصنيف الموقع من قبل الإدارة الاستعمارية ضمن المعالم الطبيعية ذات الطابع الفني، كما أضحى المكان مزارًا روحانيًا للجزائريين، لجأوا إليه طلبا للكرامات ودرءًا للعين الشريرة، كما قصده الأوروبيون للتبرّك بتمثال العذراء تيمنًا بالحكاية العربية. وللأسف، إبان الحرب العالمية الثانية التي وصلت رحاها إلى مدينة وهران، قامت السلطات الاستعمارية ببناء قاعدة عسكرية بحرية، فأدى ذلك إلى إغلاق هذا الموقع الطبيعي الرائع حتى بعد الاستقلال، رغم أن تلك الينابيع المعدنية الغنية تعد أقدم منتجع صحي في الجزائر. 

يتداول الوهرانيون الكثير من المرويات والأساطير وحكايات غريبة عن جبل مرجاجو أو الهيدور، فهو مشحون بكل ما تكتنزه المدينة من هويات متداخلة وثقافات منصهرة، إلى جانب مدّه الروحي المرتبط بكاتدرائية سانتا كروز الشهيرة ومقام سيدي عبد القادر الجيلاني. وهنا نتساءل عن علاقة مغارة الهيدور المجاورة للجبل مع مخطوط عثر عليه في تلمسان، أي على بعد أكثر من 170 كيلومترًا، لكن قد نتدارك ذلك عندما نعرف أن أهل المدينة أطلقوا على حمامات الملكة اسم "حمام سيدي ديدا أيوب" نسبة إلى ولي صالح، إذ يتناقل الناس أنه استخدم المياه الحارة لعلاج أحد أمراء بني زيان من داء الجذام. وكان الملوك وعليّة القوم من هذه المملكة التلمسانية يأتون من عاصمتهم للاستحمام والتبرك، وعليه، ربما استلهم أحد التلمسانيين قصته خلال رحلته، أو دوّن محكيّة متداولة بين الوهرانيين في ذلك الزمان. 

جبل مرجاجو أو الهيدور المطل على كاتدرائية سانتا كروز في مدينة وهران



الفارس عبد الله بن منصور يقتفي

أثر الجني ويلبس الخاتم السحري

جاء في الحكاية ما يلي: "كان الباي محمد الكبير يتجول ذات مساء برفقة دابته "البركة" فوق الشرفات المطلة على حدائق البرج الكبير، حينها لمح عبر زاوية الحصن المطل على وادي رأس العين رجلًا في كهف الوادي.  طلب الباي إحضار الشخص المجهول، وسرعان ما عرف أنه يهودي يحمل فأسًا كسلاح، وأنه كان يفتش عمق المغارة ويقوم بتطهيرها. بعد تهديده، انتهى الأمر بالرجل البائس إلى القول إن والده، الذي عاش هناك خلال فترة الهيمنة الإسبانية، منحه مفتاحًا لسر لا يمتلكه إلا ملوك إسبانيا، وأن حاكم وهران هو من قام بتكليفه بمهمة. أخبر الرجل الباي بأنه يوجد في الممر الأرضي المؤدي إلى وادي رأس العين تمثال مسحور، يجسد النبي عيسى وهو لا يزال طفلًا محمولًا بين ذراعي والدته مريم. فإذا نطق أحدهم بعض الكلمات السحرية المنقوشة على قاعدة التمثال، سيقوم جني وهران بتسليم الكنوز المكدسة داخل الكهوف الهائلة في جبل الهيدور. أثارت هذه الحكاية اهتمام جميع النبلاء، خاصة الفارس الشهير عبد الله بن منصور، إذ أبلغ الباي برغبته في تفقد الممرات السفلية التي تربط حصون وهران الخمسة. وأضاف ساخرًا أنه سيحضر الجني إلى البلاط طوعًا أو قسرًا، ثم يسلّم سمو الباي الكنوز المتراكمة في المغارة الغامضة. في اليوم الموالي، دخل عبد الله بن منصور، حاملًا فانوسًا بيده، الممر عبر بوابة برج الناظور، ترك الحراس عند المدخل حتى لا يتمكن أي أحد من اقتفاء أثره.

توجه عبد الله غربًا عبر رواق طويل، سرعان ما وجد نفسه أمام التمثال الرخامي الأبيض. لكنه لم يعثر على تلك الطلاسم السحرية مكتوبة على قاعدة التمثال. احتفظ بتماسكه، ونطق بسم الله، ثم نزل إلى باطن الأرض. بعدما قطع مسافة طويلة، وجد نفسه داخل كهف ضخم يغمره ضوء أزرق خافت. ثم رأى شبحًا جالسًا مثنيًا ركبتيه على طريقة الجلسة العربية، إنه جنيّ الهيدور العملاق. استولى الخوف والرهبة على قلب عبد الله بن منصور، فانحنى الجنيّ راكعًا له ووضع خاتمًا ذهبيًا في إصبع يده اليسرى. ومن الآن، أضحى الفارس يملك القدرة على وضع نفسه في أي رتبة ومكانة يختارهما.

أبلغه الجنيّ بأن عليه طلب أمنية واحدة فقط، وبمجرد ما يقوم بصياغتها واختيار الحياة التي يرنو إليها، سيسقط الخاتم من يده، حينها لن يعتمد إلا على إرادته وقواه. لم يعرف عبد الله أي حياة سيختارها، استعان بالجنيّ لمساعدته على النوم خمس مرات متتالية، بالكاد كان يغفو ليوقظه السحر مجدّدًا، ليعرض عليه مشاهد من الحياة ليختار واحدة منها: حرية جامحة كتلك التي ينعم بها نجل الصحراء، أو سلطان يملك حكمًا مطلقًا، أو حياة ناعمة ومثيرة لثري يقطن بإسطنبول، بغداد أو في دمشق. أن يختار عيشة بسيطة مليئة بالسعادة برفقة يمينة، ابنة الجيران".

عند هذه الجملة، ينتهي المخطوط، ليمنح النص المبتور القارئ خيارات لإتمام القصة، وتخيل باقي الأحداث. وتشير تقديرات الباحثين إلى أن النص كتب في عام 1805 أو عام 1810، ولحدّ الآن لا يعرف من هو كاتبه.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.