}

عمّان وناسُها.. تبدّلات المدينةِ وقاعُها وإيقاعُ جبالِها

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 31 يوليه 2021
أمكنة عمّان وناسُها.. تبدّلات المدينةِ وقاعُها وإيقاعُ جبالِها
ساحة في وسط عمان العاصمة الأردنية (28/8/2020/فرانس برس)


بحجمٍ مدهشٍ من الرموز والمفردات والتقلّبات والمخاضات، كتب العمّانيون، وغير العمّانيين، عن العاصمة الأردنية عمّان.
ولعلّني لا أدّعي إنْ قلتُ إنّ لا مكان آخر وقع في دوامة الالتباس كما هو شأن مدينة الجبال. ألا يقع في خانة الالتباس المهول، على سبيل المثال، أن لا ترد عمّان، ولا مرّة، في أيٍّ من روايات الراحل عبد الرحمن منيف (1933 ـ 2004)، لنفاجأ جميعنا، بعد ذلك، أنه ترعرع فيها، ودرس في مدارسها، وصعد عشرات أدراجها، ولعب في حواريها، وجلس قبالة سيلها؟ تلك معلومات لم يدّعيها عليه أحد، بل هي مدوّنة في كتابه "سيرة مدينة"، الذي صدر عن المؤسسة العربية، بعد رحيله بعامين؟
يقول منيف في ما يشبه مقدمة الكتاب: "إن المكان، في حالات كثيرة، ليس حيّزًا جغرافيًّا فقط، فهو أيضًا البشر في زمن معيّن".
كما لو أن صاحب "مدن الملح" بأجزاء روايته الكثيرة، يريد أن يحيلنا، هنا، إلى العلاقة الجدلية القائمة، وسوف تظل تقوم، (هي، حتمًا، ليست علاقة مفترضة)، بين "عناصر متعددة، متشابكة ومتفاعلة. فالمكان يعيش من خلال البشر، الذين عاشوا فيه، وهؤلاء بدورهم، هم تلخيص للزمن الذي كان، وفي مكان محدد بالذات. بالتالي يكتسب الناس ملامح وصفات ما كانوا ليكتسبوها لولا هذه الشروط. وحين أصبحت لهم هذه الصفات، أثّروا في المكان والزمان، كما تأثّروا بهما، مما ينعكس، في النتيجة، في إعطاء الأماكن والأزمنة ملامحها، كما أن تلك الأمكنة، وتلك الأزمان، ستؤثر، بدورها، في أن يكون ناسها بهذا الشكل" (سيرة مدينة، صفحة 5).


عمّان وناسُها..

فتيات على درج في أحد شوارع وسط مدينة عمان قبل كأس العالم للسيدات تحت 17 سنة في الأردن (27/ 9/ 2016/Getty)


عمّان وناسُها، إذن، يمثّلان علاقة جدلية بامتياز، فمن هم ناسها؟ لعلّ العبارة المتداولة التي ظل يرددها الملك الراحل الحسين بن طلال (1935 ـ 1999)، حتى باتت ثيمة وشعارًا و(لوغو)، هي الجواب الشافي لهذا السؤال الحائر: ناسُها هم تجمعات سكانية من "شتّى الأصول والمنابت".




لا يجدي، هنا، الحديث عن عمّان عبر العصور، فهذا شتات تاريخي، لا تعود للمدينة فيه أي خصوصية، فالمدن، كل المدن، عاصرت حضارات، ونحن لا نستطيع هنا منح عمّان الجنسية البيزنطية، لا، ولا الرومانية، ولا العثمانية، ولا أي جنسية أخرى. فهؤلاء وأولئك، مرّوا عبرها، ولعلهم استقروا زمنًا فوق جبالها، أو استسهلوا قاعها، كما فعلوا مع مدن كثيرة أخرى.
بدأت أولى ملامح المدينة تتضح وتكبر، مع قدوم الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين (1882 ـ 1951) من الحجاز، مستقرًا أشهرًا في معان (الحجازية حتى عام 1925)، ومنتقلًا بعدها للإقامة في عمّان، حين جعلها، بعد تمكين مفردات مُقامه فيها، عاصمة إمارة شرقي الأردن، ثم عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية. في ذلك الوقت، أقصد زمن وصول المؤسس إليها، كان سكانها يشكّلون موزاييكًا من الشوام (المقصود بالشوام هنا السوريين والفلسطينيين وثلة من اللبنانيين)، والشركس، والشيشان، وقلة قليلة من الأرمن، وأقل منهم من البخاريين (نسبة إلى بخارى)، والداغستانيين (نسبة إلى داغستان)، والأفارقة، من كينيا ونيجيريا والسنغال، وغيرهم ممن كانوا يستقرون في عمّان بعد عودتهم من رحلة الحج.
في عمّان، قرب عين مائها، إلى ذلك، استقر قبل وصول الأمير، بعض أبناء عشيرة بني عبّاد، وبعض أبناء عشيرة بني صخر. إضافة لبعض عشائر النعيمات (غير نعيمات معان)، وعشائر السلط، وعشائر شرق الأردن الأقرب للعراق، ممن وجدوا فيها مقامًا يبعدهم عن طلب ثأر، أو يقربهم من أراض اشتروها من عشائر مسيحية (قعوار، وأبو جابر، وأبو الفيلات (معظم أبنائها مسلمون)، على وجه الخصوص) وجدت في عروض العثمانيين لشراء الأراضي فرصة سانحة، كون أبنائهم لن يخوضوا حروب الامبراطورية ضد القيصرية الروسية، حيث كانت هذه التفصيلة من شروط الأتراك لبيع الأراضي المشاع، إضافة إلى شرط المكوس (الضرائب).
بعد الاستقرار، وبداية نشوء الدولة الأردنية، التي تحتفل هذه الأيام بمئويتها الأولى، أضيف إلى موزاييكها أعلاه الحجازيون، الذين رافقوا الملك في مشواره الطويل من الحجاز إلى عمّان، ثم ذهابًا إلى السلط (الأهم بوصفها واجهة البلقاء حتى حدوث كل هذه التغيرات الجيوسياسية)، ثم العودة إلى المرتكا الأول (سند الظهر واليد والأحلام). كما أضيف بعض أبناء البشرة السوداء (خدم وحشم، (حتى لا نقول عبيد) أمراء الحجاز الهاشميين)، لم يخل الأمر من مرافقة بعض أهل معان له، واستقرار بعض أبناء الشمال والجنوب والوسط، في المدينة الناشئة، التي ظلت تتلوّن بتلوّن الناس فيها، غير مستقرة على ملامح واحدة جامعة، تنتظر السقاية، في وقت ظلت مشغولة خلال موسم الحج الشامي (العثماني) بالرفادة، ومشغولة، شأنها شأن شيوخ القبائل بـ(الصُّرر) المصاحبة للمَحْمَلِ الشاميّ ترضية هنا، أو طلبًا للحماية هناك، أو بهدف كسب حلفاء جدد، أو بوصف تلك (الصُّرر المخشخشة بالليرات الذهبية العصملية) رواتب، أو ثمن ولاء، أو لدرء خطر.

المدرج الروماني في عمان باستخدام عدسة عين السمكة (Getty)


ولا بد من إيراد ملحوظة هنا، كي لا يتهمنا أحد بإدارة الظهر للمراجع، أو بعدم اعتماد المصادر، أن الموضوع الذي يشغلنا هنا هو البعد الوجداني للمدينة، أكثر بكثير من التوثيق السردي التأريخي، فقد أشبعت عمّان خلال مئويتها الأولى في العام 2009، ومن بعد ذلك مئوية الدولة المشيّدة كل مؤسساتها فيها، وهي المئوية القائمة هذا العام 2021، كتابة سردية توثيقية، وهذه لم يعد من مغايرة فيها، ولا ريادة، ولا إبداع.




ليس غريبًا، والحال كذلك (حال الناس فيها أقصد والطيف الواسع الذي يمثلوه)، أن تجد العقال يجاور القلنسوة الشركسية، والقمباز يمشي في الشارع نفسه المكتنز بالبناطيل، والحمار ليس بعيدًا عن مركبة وحيدة متباهية في مدينة لم تزد عدد المركبات فيها مطالع القرن العشرين على أصابع اليد الواحدة. وأن تلقى المحجبة، تمامًا، كما تلقى السافرة. وأن تمور اللهجات فيها تذكيرًا للمؤنّث، وتأنيثًا للمذكّر، وأن تجد في هذا السياق (آل بدل قال) أبناء المدن الفلسطينية والسورية تحاول فرض إيقاعها في مواجهة (جال) اللهجة البدوية، أو (كال) اللهجة الفلاحية (الفلاحون يقلبون، عادة، وفي معظم تجليات لهجتهم، القاف كافًا والكاف تشاف، كيف: تشيف، سكر: ستشر، كلكم: تشلتشم.. وهكذا دواليك).
ناس عمّان الذين لم يكن يبلغ عددهم حتى العام 1948، بحسب رؤوف أبو جابر (1925 ـ 2020) في كتابه "تاريخ شرقي الأردن واقتصاده"، وبحسب جلّ الإحصائيات الموثقة، الثلاثمئة وأربعين ألف نسمة، تضاعفوا ثلاث مرّات دفعة واحدة بعد نكبة فلسطين. فإذا بالمدينة تناهز المليون، وإذا بالأسواق تحضن طلاب مسكن أكثر بكثير من طلاب مؤونة.
تلك المرحلة من سيرورة المدينة شهدت تحولات كبرى، وبسرعة البرق انزرعت فيها مخيمات لاجئين، وتحوّل فرحها إلى أنين. لكن، في المقابل، ضجّت الأسواق بمطالب رزق لا تنتهي، افتتحت مدارس جديدة عليها علم وكالة الغوث، نشأت تجارات جديدة من عوائد بيع مستحقات (كرت المؤن). تصاهرت المدينة مع أهلها غرب النهر. ولدت تحالفات لم تكن محسوبة. صدحت الإذاعات بصوت فلسطين. هوية المدينة عادت تعاني الالتباس، وأي التباس؟! هل هي مدينة فلسطينية، والباقي نوافل؟ هل هي مدينة أنصار ومهاجرين؟ أبناء القوقاز وقد أعيتهم أسرار اللغة العربية هربوا إلى قصر رغدان يمدّون الولاء بأخيه الولاء. بعض العائلات المتداخلة فرع لها هنا، وآخر هناك، جربوا أن يقولوا إنهم أردنيون (أقحاح). الأرمن التزموا الإبداع المتعلّق بالمهن؛ التصوير، والنجارة، والحدادة، والميكانيك، ومهنًا أخرى. البخاريون فتحوا في وسط البلد سوقًا لهم، وباعوا العرب بضاعتهم (بضاعة العرب)، من مسابح، وسجاجيد، وتحفًا خشبية، وبضاعة الأجانب، من مشابك ودبابيس، وعدد حلاقة، ومقصات، وما إلى ذلك. اليمنيون في دورهم، وهؤلاء استقروا في عمّان بعد مشاركتهم بحرب فلسطين التي أدّت إلى نكبتها، فتحوا سوقًا للخياطة وصيانة الملابس والبالة وأشياء أخرى. تبدلات قادت إلى تبدلات، ودفعت أصحاب الأرض إلى تبدّل شكّل وجه عمّان سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته (خصوصًا خلال فورة النفط، وازدياد عوائد الفلسطينيين العاملين في الخليج)، إنه التبدّل المتعلّق ببيع الأراضي، وبناء العقارات، ما أوصل سعر الأراضي أيامها، وحتى يومنا هذا، إلى أرقام جنونية قد لا تكون منطقية حتّى في واشنطن ونيويورك ولندن وباريس!



أدراجُ الشّجن..

درج الشماسي الاستقلال سابقًا (21/ 10/ 2019/Getty)


في التضاريس الصعبة للعاصمة عمّان، حيث الجبال تحيط بصحن المدينة، وتحرس اختلافها، تتجلّى الأدراج بوصفها حبل وصال بين السّفْحِ المزروع بشرًا وأحلامًا، وبين نّبضِ القلبِ المتموّج حركةً وبركةً وحياة.




تنزلُ الأدراجُ من الجبال السبعة.. الجبال جميعها.. ساكبةً سيلًا من الحكايات والأمنيات.. الأدراج هُنا، تصبح روافدَ لهذا النبض.. قبسًا من بوتقةِ الوجودِ.. ممرّات شغفٍ منحدرةٍ نحوَ سوقِ البقاءِ الكبير..
أدراجُ عمّان تحضن أهل المدينة، تحفظ أدقَّ تفاصيلهم.. توثّق عتباتُها "الأحداث، والحكايات، والأنوار، والظلال، والأحلام، والأفكار، والصور، والأصوات، والأمطار، والثلوج، والغبار، والأدخنة، والألوان، والخيالات، والمرايا، والهدايا، والكتب، والساعات، والسكون.. حتى السكون، ينهض في اللجة النازلة الصاعدة لأدراج البلاد، يعلو هديره المخضّب بالصخب والصلوات" (زياد صلاح، "قاع المدينة"، الدستور، 16 حزيران/ يونيو 2017).
وهي، أي أدراج عمّان، جزءٌ من ذاكرة العاصمة وتاريخها، شاهدٌ على تاريخ العائلات التي سكنت جوارها، وسُمّيت بأسمائها: الكلحة، عصفور، منكو، البلبيسي، جويبر، قعوار، الشابسوغ، حتّر، قبرطاي، الزعامطة، نسبة لعشيرة الزعمط التي جاء بعض أبنائها من السّلط، واستقرّ معظمهم في بيوت على امتداد الدرج الواصل بين "شارع الملك طلال"، و"شارع خرفان"، في منطقة جبل عمّان.

درج سرور الواصل بين جبل الأشرفية وقاع المدينة


هُنا.. فوق لجّة هذه العتبات.. حكايات العشق الأولى.. لحظات الشّغب الأولى.. جرس الحصّة الأولى.. فأدراج عمّان، كما تراها عايدة النجار في كتابها "بنات عمّان أيام زمان"، حارسة ذكريات الطفولة، صديقة الطريق إلى المدرسة.
تذكر وفيقة المصري في تقرير لها نشره موقع "حبر" بتاريخ السادس من أيار/ مايو 2021، تحت عنوان "أدراج عمّان شرايين جبالها: حضور أدراج المدينة في الأدب الأردني"، أن أدراج عمّان "تتفاوت في طولها وعرضها، في ضيقها واتّساعها. أمّا أدراج الأزقّة الضيّقة المحاذية للبيوت السكنية، فهي تتميّز بروائح لا تشبه غيرها، إذ تختلط روائح الرطوبة المنبعثة من الجدران، بعطر النباتات المنزلية المزروعة بالعلب المعدنية أو البلاستيكية، وتتداخل كلّها مجتمعةً مع أبخرة الطّبخ والقلي النافذة من الشبابيك، ومن الشرفات الواطئة والأسطح القريبة. كما تتسلّل إلى الدرج رائحة الملابس المغسولة، وتفوح روائح الصابون والمُنظّفات الأرضية، تبثّها مياه العتبات في كل الجهات. يسمع المارّون عبر الأدراج أصوات قاطني البيوت، وهؤلاء بدورهم يسمعون خطوات المارّين وهمسات أحاديثهم، فإذا بأدراج عمّان شرايينُ حياة.. متواليةُ عَبَرات".
أدراجٌ.. وأدراج، حفّزت، لكثرتها، الكاتب عمر العرموطي المطالبة بشمول أدراج عمّان (مدينة المليون عتبة) ضمن التراث العالمي لليونسكو.
بعض أدراج المدينة مهملة.. ولكنّه الإهمالُ الذي يصبح في حالة بعضِ أدراجِ شرقِ عمّان، جزءًا من جماليات المكان.. من الروعة الكامنة في التفاصيل المتروكة على سجيّتها، من سحر البساطة المحافظة على قيافتها وعفويتها في الأحياء القديمة. جماليات تحتاج أن يتوقف الصاعدون بلهاثهم، أو الهابطون بحذر خشية الانزلاق. يتريّثون قليلًا، علّهم يلتقطون بعينهم الثالثة وأذنهم الكوّنية، خشخشة البهاء الطالعة من شجن الخريف.
مثل لوحٍ من البّلور تصبح أدراج عمّان عند نزول المطر، هكذا يصفها عبد الرحمن منيف في كتابه "سيرة مدينة".
يمرّ تقرير المصري، الذي صوّر لها الأدراج فيه المصوّر الفوتوغرافي، محمد المصري، على الروايات والأشعار التي تطرقت لأدراج عمّون: "أمّا في رواية إلياس فركوح "أرض اليمبوس"، فـ"كُلُّ عمّان تَصُبُّ ناسَها إلى صَحنها صباحًا، نازلةً بهم سلالمها الإسمنتيّة، طازجين دافئين، كحلاوة السَّميد الساخنة بالسّمن البلقاوي التي تعدّها أمّي".
البنت الريفية في رواية سميحة خريس "شجرة الفهود/ تقاسيم العشق" تقف أعلى درج جبل اللويبدة، تتأمل كيسًا ورقيًا تمزّق وتناثرت منه حبّات البرتقال، متواثبة، كأنها الأقمار، وصولًا إلى العبدلي، في تلك اللحظة. هتفت البنت الريفية، وقد تخلّصت من شعور الغربة الذي رافقها منذ حطّت رحال أهلها في المدينة: "لقد وقعتُ في حُبِّ عمّان".

عمّان بوصفها قصيدة من بيوت وتلال


في رواية مجدي دعيبس "حكايات الدرج" يتحوّل أحد أدراج جبل الأشرفية، بحسب المصري، من "مجرّد مرفق مشترك للهبوط والصعود، إلى حيّزٍ فاتنٍ للثرثرة واللعب، وإلى إطلاق أنّات المتعبين، وتبادل نظرات الإعجاب الخجولة بين المراهقات والمراهقين".
ها هي علياء في قصة خليل قنديل "عنقود عنب"، تصعد للمرة الأخيرة الدرج الموصل بين جبل الحسين، والعبدلي، تحمل قميص الميكانيكي الذي قرر الهجرة إلى كندا. أخذت القميص المنقوع بزيوت السيارات، كي تظل تتنشق رائحته، غير مدركة أن الدرج سبقها في تعمشق ذاكرة القميص، وتخزينه في لهاث عتباته الـ 352.
نزلة الجقّة.. درج القيادة.. طلعة العموري.. مسمّيات عديدة.. وإحالات كثيرة.. مرجعيتها جميعها أدراج عمّان.. فروح عمّان معلّقةٌ بأدراجِها.. تلك التي وشَمَ الناسُ فوقها أخاديد وجودهم.. تلك التي أنّوا فوقها.. تعثروا ثم نهضوا.. جلسوا فاستراحوا.. ثم أنشدوا لليقين.. ثم دوزنوا الطريق نحو المئة الأولى، بألوان العتبات على مرِّ السنين..
صولاتٌ وجولاتٌ شهدتها أدراجُ عمّان العتيقة.. النّازلة من جبالها إلى قاع المدينة.. أو الصاعدةُ إليها بما يُشبهُ "ربطاتِ العُنقِ الأنيقة على قمصانٍ شديدةِ البياض".
يقول الشاعر حيدر محمود، عاشق عمّان:
"مُنْذُ القَرْنِ الماضي
لم أَصْعَدْ دَرَج الكَلْحة
لكنْ حين رآني
ناداني باسْمي!…
وأَخْبَرني: أنّ لديهِ تَسْجيلاتٍ
بالصَّوتِ، وبالصّورَة، عنّي
حين طَلَعْتُ، وحين نَزَلْتُ،
وحين وَقَعْتُ، وحين بكيتُ،
وحين ضحكتُ.
ما أحلى تلكَ الأيّامَ، وأغلاها
وأقول لعمّانَ الحُلوةِ: نحنُ الأَصْلُ، فَرُدّي غُرْبَتَنا عَنْكِ، وخلّي تلكَ الأَبْراجَ لأَهلِ الأَبْراج".

روح عمّان


الأدراجُ، لا الأبراج، هي بوْحُ عمّان القديم.. وجهُ أمّهاتنا في الصباحات المفعمة بجلسات الشّاي والياسمين.. الأدراجُ، لا الأبراج، شحذُ الهِمم.. عزمُ الطريق إلى الحياة..
وسوف تبقى عمّان تفتح أبوابها، أدراجَها، أسواقَها ونبضَها للناس كل الناس، من مختلف الأصول والمنابت والجهات والوجهات، تنادي بأصوات المحبة السّرمدية، تنسجُ ألوانُها ملامحَ الهويّة..




أدراجٌ كبرت مع الهواشم بُناةِ الوطن وعمّان، فأوّل أدراج الدّولةِ النّاشئة، عَبّدَ في العام 1925، دربَ عطاءٍ بين النّاس وقصر رغدان..
ومنذ جويبر غازي العتيبي، وليس انتهاء بدرج الكلحة، مرورًا بأدراج الاستقلال وتصريف الأحوال، شكّلت الأدراجُ مَعْلَمًا عمَّانيًّا بامتياز.
فوقَ التلال تكاثرت البيوت، كَبُرَت المدينةُ وازدادَ أهلُها، فصارت الأدراجُ دروبًا للعبور، مواعيدَ عشقٍ وتراتيل، ثلاثون، أربعون، خمسون، أدراجٌ وعتباتٌ وقناديل.
وأمّا أنا فقد كتبتُ ذات برنامجٍ تلفزيونيٍّ لي (ملكيته الفكرية وحقوق بثّه لي) اسمه "قاع المدينة"، بثّ التلفزيون الأردني ثلاثة مواسم منه، وهو يتحضّر حاليًّا لبثّ الموسم الرابع: "حكايةٌ أنتَ يا درجي الحبيب.. أغنيةٌ وناي.. هذا الدرج هدهد الصبية الضائعة.. وذاك، غضَّ البصرَ عن الشبّاك.. هُنا كَبُرَ درجٌ صغيرٌ فصارَ أنا.. أدراج.. بُنَيِت بملحِ العَرقِ الأُجاج".
وكتبتُ: "من حجرٍ وطين، نبتت الأدراجُ في عمّان.. كما ينبت العشب.. كما يتدلّى شجر التوت.. فبأيِّ ألوانِ الوجدِ يلوّنها النّاس.. بأيِّ إحساس..".
طوبى لعمّان بأهلها يزيّنون سلالم العشق.. يرفعون في الصباحات النديّة أكفّ الرجاء.. يتبادلون على الأدراج وفي الأسواق وعند أطراف الجبال رسائل النُّور:
ـ صباح الخير.
ـ صباح النُّور.
هكذا تصير أدراجُ المدينة وثائق نهضة.. أغنيةً من جَمالٍ ومن سرور.



تبدّلات المدينة..

أين ذهب مجانين المدينة؟


ثقافيًّا، لعبت دور السينما في وسط العاصمة، والأفلام التي تعرضها، ابتداء من ستينيات القرن الماضي، وربما أواخر خمسينياته، وهذه ليست خصوصية عمّانية، دورًا في بلورة المعارف، وصهر الأذواق، وتنمية المخيال الجمعيّ العام، وتلوين الرؤى.
كما لا يمكن أن نستثني هنا التدبلات الإعلامية والموسيقية، وعموم التغيرات الاجتماعية، التي يتقاطع معظمها مع تبدلات المدينة العربية، على وجه العموم.
من التبدّلات الموجعة خلو شوارع القاع، هذه الأيام، تقريبًا، من مجانين المدينة، وأيقوناتها المختلفين، النابغين، ربما، بما يفوق قدرة العقل على التوازن، وضبط الإيقاع. في هذا السياق، يذكر أهل عمّان أيام زمان: هتلر، ونابليون، والخضر (الذي يعتقد أنه إله). كما يتذكرون مشردات خارجات عن العرف (بعضهن بائعات هوى)، ويذكرون مشردين ومجانين آخرين، شكّلوا في أزمان بعينها بعض ملامح المدينة، ونبضها الباقي، أو النازف لا أدري.
على امتداد قرن مضى وأكثر، شهدت عمّان (ليس قاعها فقط) تبدّلات تكاد تكون جذرية، وهو ما لا تحتمله أي مدينة كبرى، حيث جزء من معنى المكان وقيمته، تتعلق بقدرته على التمسك بإرث، والتعلق بمفردة عمرانية معمارية. ولمن يتابعون، لعلكم تتذكرون الإطاحة بمقاهي المدينة أيام نبضها العابق: الإطاحة بمقهى الجامعة العربية، الإطاحة بمقهى العاصمة، تحويل مقهى السنترال إلى سرداب حزين، وأرجو أن الحبل ليس على الجرّار.




عزاء أهل مدينة فيلادفيا (أحد أسماء عمّان القديمة) أن القلعة والمدرج الروماني وقصر رغدان (رمز الديمومة الهاشمية) نجت جميعها من معول التغيير العنيف غير المدروس!
فهل يأتي يوم يعود فيه عشاق المدينة إلى ساحات الشغف الحميم، فإذا بنا نصدح بقصد إفراح المدينة قائلين: "ها هم أبناء قلعتك يعودون إليك اليوم يا عمّان.. يتوافدون من كل حدب وصوب إلى مركزك النابض بالحياة والأمل.. حيث تتدفق في قاع المدينة الصور والمشاهد وأبواب الرزق والأسواق.. وأسباب الكتابة لألف قصة.. وحيث يروي الرواة مسيرة بنيان وعمران وذكريات صبا"؟
هل نستطيع أن نقسِم: "بالذهب اللامع في سوق الذهب"، مؤكّدين على قصص نجاح، ومطرّزين حكايات؟
قد نفعل إن عاد قاع المدينة بوصلة للعاصمة، وقصيدة البسطات والأسواق والمطاعم والفنادق والمقاهي.
قد نفعل إن عاد إيقاع الجبال الراسيات جسر عبور إلى الزمان الجديد.
قد نفعل إن استطاع اللحن موسقة الآذان والأجراس، في طريقه لعزف مَغْناة الحياة الصاخبة.
قد...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.