}

بيروت ومونتريال.. شاهدتان على زمن يملأ فراغاتنا بالأصوات الحميمة

دارين حوماني دارين حوماني 19 يناير 2022
أمكنة بيروت ومونتريال.. شاهدتان على زمن يملأ فراغاتنا بالأصوات الحميمة
مونتريال وبيروت

مونتريال (كندا) كما بيروت، مدينة ذات تاريخ معماري فرنسي، الأولى منذ القرن السادس عشر، أما الثانية، فإضافة إلى تراثها المتراكم من العهود الاستعمارية المتتابعة حتى وصول الفرنسيين إثر الحرب العالمية الأولى، تم بناء وسطها على الطراز الفرنسي. الآن أيضًا ثمة تشابه في الأبراج الحديثة الشاهقة متلاصقة مع المباني التراثية. لكن في مونتريال، تعمل الدولة على الحفاظ على هذه المباني التي تشكّل الهوية التراثية للمدينة والتي تؤكد عمر المدينة، أما في بيروت فتشعر تمامًا أن البرج الشاهق يدفع بالمبنى التراثي الصغير من قدميه في محاولة تحطيم مؤجلة وكأنها كائنات برسم الانقراض. تحولت مونتريال إلى مركز صناعي ومالي ومعلوماتي على صعيد القارة الأميركية كلها، ورغم ذلك فإننا لا نزال نشهد على مجموعة متنوعة من المباني القديمة التي لا تُقدّر، وتعترف بتاريخية المدينة منذ القرن السادس عشر.

في عام 1760 هاجم الإنكليز مدينة مونتريال "الفرنسية" وحاصروها من كل الجهات، فاستسلمت، وانضمت بذلك إلى كندا "الإنكليزية"، لكن الثقافة المعمارية الإنكليزية لم تكن بعيدة عن ثقافة المنافسين الفرنسيين على المدينة. قد لا نعلم الآن إذا كان المبنى فرنسيًا أم إنكليزيًا، ندرك فقط أنه كان ثمة زمن آخر هنا، وهو ليس في طريقه إلى الموت، كما في بيروت. منح الاستعماران المتعاقبان في مونتريال، الفرنسي والبريطاني، المدينة طرازًا معماريًا فريدًا بقي مكانه بمحاذاة الطراز الحديث والعصري جنبًا إلى جنب رغم الحرائق الكثيرة التي شهدتها مونتريال في القرن الثامن عشر حيث أدى تركيز الفرنسيين على بناء البيوت الخشبية مع المواقد إلى حدوث حرائق بين الحين والآخر، حيث احترق 110 منزلًا في أيار/ مايو 1765 و88 منزلًا في نيسان/ أبريل 1768 بما في ذلك مجمع نوتردام والكنيسة والسجن، فتم التركيز بعدها على البناء الحجري والمشغول بالنحت في أكثر من مكان. وفي منتصف القرن العشرين تم وضع خطط هندسية حديثة للمدينة استوجبت تدمير عدد من المباني التراثية لكن المهندس المعماري الهولندي دانيال فان جينكل أنقذ المدينة القديمة من الدمار خلال أوائل الستينيات، ووضع خططًا بديلة للمدينة، ويوجد الآن أكثر من عشرين فندقًا تراثيًا يعود بناؤهم إلى القرن التاسع عشر. تتمتع مونتريال الآن بجاذبية سياحية بعد قرون من التطوير المعماري متأثرًا بالاستعمار ما يشهد لنا على التغيير في النمط المعماري على مر القرون. ومن أقدم الأبنية "حصن الجبل" Fort De La Montagne ويتكوّن من أبراج حجرية مثل التحصينات الفرنسية كأحد أقدم الهياكل في مونتريال، تم تشييده عام 1694 وتم تسميته بالموقع الوطني التاريخي لكندا.

العمارة الحديثة بمحاذاة العمارة التراثية في مونتريال. في الصورة من اليسار مبنى تراثي تم بناء مبنى عصري فوقه


كما تم بناء كاتدرائية "ماري، ملكة العالم" Mary, Queen Of The World Cathedral بين عامي 1870 وعام 1878. وتقع وسط المدينة وهي ثالث أكبر كنيسة في مقاطعة كيبيك، ويظهر خلفها تمامًا مركز تجاري حديث، ومن الجانب الآخر تظهر بمحاذاتها ناطحة سحاب "دي لا غوشيتيير 1000" de la Gauchetiere، وهي أطول مبنى في مونتريال ارتفاعها 205 أمتار (51 طابقًا)، والسمة المميزة للمبنى هي حلبة التزلج الداخلية الكبيرة في الردهة، وهي مثال على عمارة ما بعد الحداثة.



الأمر نفسه مع مبنى "ضوء الشمس" Sun Light الذي تم بناؤه عام 1931، وكان أكبر مبنى في الإمبراطورية البريطانية وقد تميز بأهميته التاريخية باستخدامه كمركز احتياطي الذهب لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وملاصقًا له تم بناء مركز مالي بروح عصرية. أيضًا "كنيسة سانت جيمس المتحدة" تم بناؤها عام 1889، وكان قد تم إخفاء الواجهة القوطية للكنيسة المبنية على الطراز الرومانسي، لعقود من الزمن خلف مبنى تجاري في شارع سانت كاترين، ثم عادت إلى الصدارة في عام 2005 عندما تم هدم المبنى التجاري الأمامي جزئيًا. كان المعماريون الفكتوريون يستمتعون بتخطيطات ساحرة وفيها الكثير من الحنان الذي تم إخفاؤه وإحاطته بمراكز تجارية زجاجية عديدة كي لا يتم تشويه وسط المدينة الما بعد حداثي، لكن الكنيسة كما مبانٍ قديمة غيرها في مونتريال حصلت على منقذ لتراث المدينة.

العمارة الحديثة بمحاذاة العمارة التراثية في مونتريال 



ثمة العديد من المباني التراثية الأخرى التي جرى الحفاظ عليها. وفي مدينة تحافظ على تراثها، سنكون قادرين على زيارة مرفأ مونتريال القديم الذي بناه الفرنسيون عام 1611 على نهر سان لوران، وعندما تم إنشاء مرفأ حديث بمواصفات عالمية في تسعينيات القرن الماضي تحول المرفأ القديم إلى مكان تراثي سياحي يمكن الإحساس فيه بمرور كائنات من ظل الماضي جنبك تمامًا، بكل من وصلوا إلى هذه المدينة عبر هذا المكان، سيكون ممكنًا الشعور بمرور جان مانس (ممرضة من مؤسسي مدينة مونتريال، ومؤسسة أول مستشفى فيها)، وجاك كارتييه (الرحالة والمستكشف الأول لكندا)، ودي ميزونيف (مؤسس فورت ماري، مونتريال حاليًا) على الشوارع المرصوفة بالحصى، مع الأحياء العصرية والأكثر ديناميكية وتطورًا باستمرار في المدينة.

العمارة الحديثة بمحاذاة العمارة التراثية في مونتريال   



في مونتريال، ثمة دائمًا منقذ للمدينة، أما بيروت فتحتاج دائمًا إلى منقذ خيالي، من عالم آخر يصعب إيجاده، لكن بكل الأحوال ثمة بيوت نجت، من حرب عالمية أولى وثانية وحرب أهلية كانت الأقسى على هذه المدينة، ووسطها خصوصًا، هناك اقتتل الأطراف بين شرقها وغربها، ومع الأجساد البريئة التي تم إبادتها دون قلب أبادوا أيضًا وسط المدينة التاريخي وأسواقها القديمة التي كانت مبنية منذ القرن التاسع عشر ومنذ ما قبل ذلك. بيروت قبل الفرنسيين غير بيروت مع الفرنسيين وغير بيروت بعدهم. في منتصف القرن التاسع عشر بدأ "الدار" يظهر في بيروت، منزل بسقف قرميدي وفناء داخلي واسع، وواجهات مع قناطر مزخرفة وملونة، كما شهدت المدينة بناء القصور المبنية على الطراز الباروكي. تماهت بيروت مع باريس مع وصول الفرنسيين، تم إحداث قطع حادّ مع البيوت المبنية على الطراز المشرقي والعثماني. امتلأت شوارع بيروت بالعمارة الكولونيالية؛ عدد من الطبقات والشرفة الفسيحة المنحوتة أعمدتها، والنوافذ الطويلة العالية والأباجورات. في عام 1954 تم إقرار قانون البناء لتشجيع الاستثمار في البناء في المدينة، وقد أهمل هذا القرار الحفاظ على التراث، وتم تحديد المباني الأثرية بتلك التي تم بناؤها قبل عام 1700 فقط. وبوصول المال السوليديري في بداية التسعينيات تم زرع أبراج شاهقة في ساحة البرج وسط بيروت حيث كان الفقراء يتجمعون قبل الحرب الأهلية كل أحد لشراء الأرخص من الخضار والثياب والحاجيات وسط المدينة، وتم هدم سينما ريفولي، المبنى التراثي الرائع، لفتح ساحة الشهداء على البحر.

ولحق تهديد التطوير العمراني الفارغ من الإنسان معظم مباني وسط بيروت، فَتَحْتَ شعار "إعادة الإعمار" دمّرت شركة سوليدير معظم تلك المباني، حسنًا، فالمال أهم من ذاكرة بيروت وتاريخها! الأمر الأخطر أن شركة سوليدير بعد أن أزالت تراث المدينة أتت بـ"فيروز" لتقدّم أولى حفلاتها في وسط المدينة بعد الحرب، "إحتفالية إعادة الإعمار"!. بيوت كثيرة تم هدمها واستبدالها بمبانٍ زجاجية على طريقة العولمة الزجاجية ثم هَجَم وحش الباطون المسلّح بالكامل سنة بعد أخرى على بيروت. ثمة امتداد عمراني تسحرك أضواءه لأول وهلة ثم تشعر فورًا بخواء المعنى لتمضي وتبحث عن كائنات قديمة على شكل أبنية صغيرة حيث تبقّى منها في الحمرا، وبين الجميزة ومار مخايل والأشرفية، قلب المدينة التراثية. ثم جاء العدوان الإسرائيلي عام 2006، وسيارات مفخخة وعمليات انتحارية، وآخرها انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس عام 2020 الذي دمّر الكثير منها. انفجار مرفأ بيروت الذي تسبّب بدمار مبانٍ تراثية عديدة فتح شهية المستثمرين، الخليجيين خصوصًا؛ ثمة مسعى جديد لتفكيك آخر ما تبقى من ذاكرة المدينة وقد حاولت مؤسسات المجتمع المدني تنظيم اعتصامات من أجمل حماية المباني من الهدم الكامل.



العمارة الحديثة بمحاذاة العمارة التراثية في بيروت، ويظهر من اليسار من الأعلى مبنى بركات الذي بقي كما هو كشاهد على زمن الحرب الأهلية



بيروت مدينة لا تهدأ، بكل أشكال اللاهدوء، حزنها لا يهدأ، النسخة الأخيرة عن بيروت موجوعة ووجعها لا يهدأ، وجوه متعدّدة مخيفة تتناوب على جلدها، كل وجه يشوّه جزءًا من المدينة. عام 1996 كلّفت وزارة الثقافة اللبنانية جمعية حماية المواقع الطبيعية والمباني القديمة بإجراء مسح بهدف حصر المباني ذات القيمة التاريخية في بيروت، أعلنت يومها عن وجود 1051 مبنى مهددًا وبحاجة للحماية. بعد عام لم يعد في القائمة سوى 209 مبانٍ. وفي عام 2002 تم استحداث المديرية العامة للآثار ضمن عمل وزارة الثقافة، لكن كان ثمة تدخل سياسي ومالي في كثير من الأحيان يستثني الكثير من الأبنية من تصنيفها ضمن قائمة الأبنية التراثية.

في العقدين الأخيرين كان هناك عدد من المبادرات لإنقاذ المباني المهدّدة، مبادرات لم تصمد كثيرًا أمام جشع الرأسمالية وأباطرة السوق، وتم تأسيس عدد من الجمعيات إضافة إلى أفراد من المجتمع المدني هدفهم لفت الانتباه إلى الخراب الذي يمتد إلى تراث بيروت المعماري. ثمة بيوت كانت قد نجت، منها "مبنى بركات" الذي يقع على خط التماس في منطقة "السوديكو" تمامًا بين البيروتين، وكان هدف الذين طالبوا بعدم تدميره هو بقاء هذا المبنى كما هو، بثقوبه التي أحدثتها الرصاصات من الجهتين الشرقية والغربية في وجه الجميع، بمتاريسه الرملية التي استعملها القناصون - المتاريس لا تزال موجودة فيه- يمكن أن ترى المدينة من الثقوب التي تُركت بين الأكياس الرملية لإطلاق النار على بيروت، كشاهد على زمن مظلم كي لا يتكرر من جديد، الآن يتم تنظيم معارض فنية وندوات أدبية في المبنى بين الحين والآخر. تم الحفاظ على "البيت الزهري" أيضًا و"قصر حنيني" و"قصر سرسق"، وغيرها العديد من المباني والقصور بين الجميزة ومار مخايل والأشرفية وعين المريسة التي لحقها جشع عمالقة المال، لكنهم لم ينجحوا في إخفاء روح المدينة التاريخي بالكامل.

العمارة الحديثة بمحاذاة العمارة التراثية في بيروت



صدفة..

النسيج المعماري للمدينة ليس إسمنتًا وزجاجًا وفولاذًا، هو هوية المدينة وروحها وذاكرتها. ما يلفتنا الآن تلاصق الماضي بالحاضر في مكان واحد، مفارقة غريبة في مدينة كبيروت هي بحدّ ذاتها إشكالية، وفي مونتريال سنشهد مثلًا على مبنى قديم تم تشييد مبنى زجاجي فوقه تمامًا، هذا ما يميّز هذه المدن. مونتريال، وبإرادة ذاتية، تمت المحافظة على هوية المدينة وذاكرتها، أما بيروت التراثية فهي لا تزال موجودة بالصدفة، صدفة أن المبنى التراثي لم تسقط عليه قذيفة في إحدى حروبها، وصدفة أنه لم يسقط بالكامل في انفجار المرفأ، وصدفة أن أحدهم رفض بيع بيته الذي ورثه عن جدوده مقابل ثروة أو عدد من الشقق في ناطحة السحاب البديلة أو المبنى الزجاجي البديل. ثمة صدفة ستلعب دورًا حتمًا في بيروت للبقاء على قيد الحياة، الأمر لا ينطبق فقط على مبانيها التراثية، إنه ينطبق على كل شيء فيها، على كائناتها أيضًا، ثمة صدف لبقائهم على قيد الحياة، الناس أصلًا باتت تخاف فيها من الحياة. يقول المصور الفرنسي روبرتو دويسنو (1912-1994)، سيد التصوير الفوتوغرافي "الإنساني": "باريس ليست في خطر أن بقي منها ما يشبه مدينة متحفية، نشكر أصحاب المال وجشعهم، جنونهم لهدم كل شيء، تصميمهم الأخرق على إقامة مشاريع سكنية لا يمكن أن تعمل بدون الوجود المستمر لقوة شرطة مسلحة.. كل هذه البنوك، كل هذه المباني الزجاجية، كل هذه الواجهات ذات المرايا هي علامة على الصورة المنعكسة. لم يعد بإمكانك رؤية ما يحدث في الداخل، فأنت تخاف من الظلال. تصبح المدينة مجردة، تعكس نفسها فقط. يبدو الناس في غير مكانهم تقريبًا في هذا المشهد. قبل الحرب، كانت هناك زوايا وأركان في كل مكان. الآن يحاول الناس القضاء على الظلال. الأرض باهظة الثمن بحيث لا يمكن إلا لشركات ضخمة البناء عليها، ويجب عليهم بناء عمارات ضخمة لكي تكون مربحة. المكعبات والمربعات والمستطيلات، كل شيء مستقيم، كل شيء. تم حظر الفوضى. لكن القليل من الفوضى شيء جيد. هذا هو المكان الذي يتربّص فيه الشعر. لم نكن بحاجة أبدًا إلى أصحاب المال لتزويدنا في كرمهم، "بمساحات ترفيهية". اخترعنا مساحاتنا الخاصة لكتابة الشعر. اليوم ليس هناك شك في وضع مساحتك الخاصة معًا، فستقوم لجنة التخطيط بإغلاقها. تم حظر العفوية. الناس يخافون من الحياة".

في سيرنا بين شوارع مونتريال وشوارع بيروت، ثمة مساحات ضئيلة لكتابة الشعر، سنفقد قدرتنا على الكتابة أمام عمارات الباطون المسلّح، المتصحرة والباردة، والتي جعلتنا نخسر حميمية الأمكنة، سنكتب الشعر حتمًا أمام مبانٍ تراثية يزيد عمرها عن مئة عام، هناك تكمن أصوات الذين رحلوا إلى البعيد لكنهم بقوا، يملأون فراغاتنا بالكلمات الحميمة، بموسيقى لا يمكن لأيّ كان سماعها، إنها شاهد على أن ثمة عالما جميلا كان موجودًا هنا، على سطح هذه البلاد الإسمنتية الجافة. 

 

من الشوارع التراثية في مونتريال (من اليمين) وبيروت


(هدم مبنى "أورينت" - سينما ريفولي- عند إعادة إعمار وسط بيروت عام 1995 من قِبل شركة سوليدير)



 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.