}

منازل الموتى

رشا عمران رشا عمران 28 أبريل 2022




إن كانت رحلتك نهارية وخطر لك أن تنظر إلى الأسفل في الهبوط، فإن أول ما يطالعك حين تصل طائرتك إلى القاهرة، هو مشهد منازل بلا ارتفاع ولا ضخامة وتكاد تكون موحدة في لونها الأبيض المائل للرمادي بفعل سنوات طويلة من التلوث والغبار، أبنية متجاورة ومتلاصقة بأسقف شبه مكشوفة على أحواش كبيرة وغرف مغلقة ويفصل بينها ممرات إسفلتية أو ترابية ضيقة، لن تسعفك سرعة الطائرة وحركتها على النظر لمعرفة ماذا تحوي تلك المنازل، لكنك ما أن تحط في القاهرة وتتجه من المطار إلى وسط البلد أو إلى أي مكان آخر سوف تراها على يمينك وعلى شمالك، وسترى صلبانًا مرفوعة في جهة اليمين بينما في جهة اليسار سترى مآذن هنا وهناك (سوف تنعكس الاتجاهات في رحلة العودة كما لو أن في ذلك تأكيد على أن الديانتين تحتملان أن تنحازا لليمين أو لليسار، أو أن تميلا مع اتجاه العابر)، سترى أن تلك البيوت مغلقة بأبواب غالبًا ما تكون حديدية ترتفع أمامها رخامة تحوي اسم عائلة ما ملحقًا بمفردة (مقبرة)، وستشاهد رجالًا ونساء يرتدون البؤس يجلسون عند عتبات الأبواب بينما الأطفال يلعبون في الشوارع الفرعية المخصصة للسيارات، ترى بما يفكر هؤلاء الجالسون وأطفالهم؟ لن تعرف أبدًا إجابة على هذا السؤال ذلك أن المصريين قادرون على تحويل أي سؤال جدي إلى طرفة، تلك باتت طريقتهم في عيش الحياة كي لا يموتون من القهر. 

تلك البيوت المتلاصقة ليست سوى المدافن والمقابر والقرافات (كما يطلقون عليها) التي بناها المصريون على امتداد الصحراء بجوار القاهرة، كما لو كانت هامشًا مهملًا للمدينة، غير أن الهامش تغير مع الزمن وامتزج في المتن مع توسع القاهرة وازدياد عدد سكانها، حتى صارت المقابر أحياء كاملة في قلب القاهرة، وتردي الأوضاع الاقتصادية إثر سياسة الانفتاح التي اعتمدها الرئيس الراحل أنور السادات، ومن قبله بناء السد العالي على يد الزعيم جمال عبد الناصر والذي جفف الكثير من الأراضي الزراعية ما زاد في هجرة أبناء الريف نحو المدن الكبيرة بحثًا عن مصادر جديدة للرزق، ساعد في تحويل منازل الموتى إلى شقق سكنية يقطنها أحياء وافدون من الريف والصعيد وفقراء الطبقة المتوسطة الذين أنتجهم الانفتاح الاقتصادي وما رافقه من فساد ما زالت آثاره ممتدة حتى اللحظة.

ازدياد هجرة أبناء الريف نحو المدن الكبيرة بحثًا عن مصادر جديدة للرزق، ساعد في تحويل منازل الموتى إلى شقق سكنية يقطنها أحياء وافدون من الريف والصعيد


تحمل المقابر أسماء مختلفة ومشهورة ويمكنك معرفة مستوى أصحابها الطبقي والمادي من شكل الرخامة على بابها ومن شكل حديد الباب ومن اتساع الحوش ومدى احتوائه على الزرع المُعتنى به، سيتجاور الأغنياء ومتوسطو الحال في المقابر، إذ أنك ستجد مقبرة لعائلة معروفة تدرك مباشرة أنها عائلة غنية تجاورها مقبرة لعائلة متوسطة الحال، وسيساعدك على معرفة ذلك الفرق أيضًا نوع الحجر الذي بنيت به جدران المقبرة، على كل حال يتجاور الأحياء من الطبقتين إلى حد ما في الأحياء السكنية، بينما يعيش الفقراء، الذين لا يقطنون المقابر، في عشوائيات تم هدم معظمها الآن ونقل سكانها إلى مدن شعبية بنيت على أطراف العاصمة؛ وطبعًا هذا سوف يساعد على فهم أن للفقراء مقابر أخرى، هامشية جدًا، لا جدران لها ولا أبواب ولا أحواش مزينة بكثير الزرع وقليله، وليست مصنفة في جدول الآثار التاريخية كالعديد من مقابر القاهرة، ذلك أن للموت في المتن ثمنًا باهظًا لا يقدر الفقراء على شرائه فيدفنون موتاهم في مقابر داشرة لا شيء يدل عليها: عاشوا هامشيين وماتوا هامشيين ككل فقراء هذا العالم البائس. 

يتحدث أصدقائي المصريون عن مقابرهم كما لو أنهم يتحدثون عن سكن آخر لهم، كما لو أن الموت لهم هو انتقال لبيت آخر، ربما هذا ممتد من المصريين القدماء، فإن أتيح لك أن تزور مقابرهم في مدينة الأقصر، سوف ترى كم اعتنوا بها ورتبوها ولونوها وزينوا جدرانها بالرسوم وسردوا عبر الرسم حكايات كثيرة عن طريقة حياتهم قبل السكنى الجديدة وعما ينتظرهم فيها، ثمة حياة أخرى تنتظرهم في تلك البيوت الجديدة وعليهم أن يتجهزوا لها بكل ما يلزمهم، ويزخر كتاب الموتى الذي كتب على جدران المعابد والمقابر وعلى برديات تم اكتشافها في كل مكان بالحكايات عن الموت والحياة ما بعده.

مقابر المصريين القدماء هي مرحلة مهمة للانتقال نحو الحياة الجديدة لهذا اعتنوا بها جيدًا، ومثلها مثل مقابر العصر الحديث يمكنك من حجمها ومن طريقة الرسم والألوان على جدرانها معرفة أهمية الشخص صاحب المقبرة، عامة الشعب في مصر القديمة ما زالت قبورهم مهمشة ولم تكتشف كلها حتى الآن. 

"الموتى يحتلون مساحات الحياة في القاهرة"- قالت لي ابنتي التي تعيش في أوروبا وتزور مصر لأول مرة في حياتها وهي مدهوشة من مساحة المقابر التي رأتها، وأردفت: "أنا سأوصي بحرق جثتي"، أصابتني قشعريرة مفاجئة وطلبت منها الصمت وعدم الحديث ثانية في هذا الأمر، ثم فكرت بعد ذلك فيما قالته. حرق الموتى واحدة من أكثر تجليات المدنية وضوحًا، ليس فقط لأن حرق الجثث يوسع في مساحة الأرض للأحياء، بل أيضًا هو تخل عن طقس يحيل ارتباطنا بالموتى إلى قيد. بعد أن مات أبي عام 1996 ودفن في أرض مجاورة لبيتنا في القرية كانت أمي تطلب منا زيارة قبره في كل عيد وفي كل مناسبة، نادرًا ما لبيت طلبها، لا لأنني لم أكن أحب أبي كما قد تتوهمون ولا لأنني أخاف زيارة المقابر (لم أعد أخاف منها منذ زمن) بل لأن القبر مجرد أحجار تحتها توجد عظام شخص ما قيل إنه مات، بينما أبي كان حيًا دائمًا في ذاكرتي، يموت الموتى حين ننساهم، حين تنسقهم ذاكرتنا إلى الهوامش، حين لا نعود نراهم في أحلامنا، أنا ما زلت أرى أبي، ما زال حيًا حتى اللحظة وأظنه سوف يبقى حيًا حتى أختفي أنا عن الأرض. 

عقيدة الحرق كانت فكرة عبقرية لتخفيف الهند من ثقل الموتى، ذلك أنه لولا الحرق لاحتل موتى الهند نصف مساحة الأحياء على الأقل، أو لعاش الهنود فوق قبور موتاهم



قبل أقل من شهر كنت في زيارة إلى مدينة هامبورع الألمانية أثناء عيد الفصح الغربي، طلبت مني صديقتي أن أزور معها الكنيسة المجاورة لبيتها كي تشعل شمعة العيد، ذهبت معها وأشعلنا الشموع ثم طلبت مني اللحاق بها، خرجنا من قاعة القداس الرئيسية ثم دخلنا إلى غرفة يسبقها ممر طويل، غرفة تغطي جدرانها مكتبة تحتوي على أدراج صغيرة كتب على الكثير منها أسماء أشخاص وتواريخ ميلادهم وتواريخ وفاتهم، تلك المكتبة هي مقبرة الكنيسة، في كل درج يوجد رماد شخص ما مرفقًا باسمه وتاريخ ميلاده ووفاته، الأدراج المغفلة من الأسماء هي قبور فارغة تنتظر أن يملأها رماد ميت جديد. فكرة مدهشة لتجنيب المدينة مظهر الموت، بيد أن الأجمل لي أن يتم نثر الرماد بعد الحرق في المكان الذي عاش فيه الكائن سعيدًا، هكذا فكرت، في هذه المقبرة المدهشة لا يمكنك تمييز طبقات الموتى ومستوياتهم الاجتماعية كلهم يقبعون في دروج متشابهة إلى حد التطابق، لا فرق بين درج وآخر سوى بالاسم، بينما الحي الذي يقطن به أصدقائي في هامبورغ خال من وجود الموتى خارج غرفة الكنيسة المغلقة. المجد للحياة، هذا ما يقوله الراغبون بحرق جثثهم، أو ربما لا شيء بعد الموت، لا حياة أخرى تنتظرنا بعده، مجرد فراغ لا يليق به سوى الرماد.

يظن الهندوس أن حرق جسد الميت بعد غسله في مياه نهر الغانج يعيد الكائن إلى عناصره الأولى ويطهره من خطاياه وذنوبه، لكنني أظن أن عقيدة الحرق كانت فكرة عبقرية لتخفيف الهند من ثقل الموتى، ذلك أنه لولا الحرق لاحتل موتى الهند نصف مساحة الأحياء على الأقل، أو لعاش الهنود فوق قبور موتاهم، فكرة الحرق زادت في مساحة الهند للعيش وخففت  من عبء الذنب عن كاهلهم، يحرقون موتاهم ويلقون الرماد في النهر العظيم، سوف يذري الهواء الرماد وسيمتزج يوما مًا بطين النهر، هكذا تعود الروح إلى عناصرها الأولى وتتخلص بهدوء من كل الشوائب التي علقت بها حين كانت محبوسة في الجسد.

يرقد أبي تحت شجرة سنديان ضخمة، في قريتي كل المقابر توجد تحت السنديان، والغريب أن سنديان المقابر هو الأكثر خضرة والأكبر في الحجم، كان أبي يقول إنه سوف يعود ذات يوم في نسغ السنديان، أصدق أبي وأراها فكرة تصلح للشعر، لطالما كان شاعرًا جميلًا، عن نفسي أفكر بالفراغ، الموتى ذرات في الفراغ، ذرات لا مرئية، حرة ومنطلقة يريد البشر أن يؤنسنوها فيخترعون لها أفكارًا جميلة كي يصدقوا أنهم خالدون.

 

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
3 أبريل 2024
يوميات
26 فبراير 2024
يوميات
2 فبراير 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.