}

الجمهور ما بين التقديس واللعن

باسم سليمان 5 أبريل 2022
اجتماع الجمهور ما بين التقديس واللعن
(غيلان الصفدي)


ما الذي يدفع أمبرتو إيكو، صاحب رواية "اسم الوردة" التي سرد فيها أحداث عدّة جرائم تكشّفت ملابساتها عن أنّ أحد رؤساء الأديرة قد سمّم وريقات كتاب "فن الشعر" لأرسطو، كي يمنع الرهبان من الاطلاع عليه، فلا تهتز عقيدتهم الدينية بسببه، ليقول بأنّ مواقع مثل "تويتر" و"فيسبوك"(1) "تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلّمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أمّا الآن، فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنّه غزو البلهاء"؟

هل لنا أن نستقرئ تحذيرًا، أو تطيّرًا مضمرًا، من قبل إيكو، تجاه الشعوب، الجماهير، الرعاع، الدهماء، السواد، بأن تمتلك حقّ الكلام، حقّ الاختيار، حقّ التفكير، وبأنّ إيكو ليس سوى وريث لثقافة لا ترى في الشعوب إلّا قُصّرًا، لا يجب أن تشبّ عن الطوق ويجب أن تساس دومًا! قد تأتي الإجابة على استقرائنا من ناحية تيري إيغلتون(2) عبر قوله بأنّ الآداب والفنون مؤدلجة دينيّا وسياسيّا واقتصاديًا كي تخدم الفئات الحاكمة، وهو في بحثه عن كيفية نهوض الأدب الإنكليزي، يستحضر التوجيهات النظرية التي كانت ترى في هذا الأدب عاملًا مهمًا في توجيه النساء والعمال، والأهم تحريض الطبقة الوسطى كي تكون إنكليزية حقًّا. وهو إذ يعرض للنظريات الأدبية، من الكلاسيكية مرورًا بالواقعية، وليس انتهاءً بما بعد الحداثة، فلكي يكشف تعاضد الثقافي بالسياسي تارة بشكل مخفي، وتارة أخرى بشكل فجّ، وخاصة في النظم الشمولية. وبالتالي، لم يكن يومًا إنتاج الكلمة منطوقة، أو مكتوبة، أو تلقيها، إلّا لخدمة الطبقات الحاكمة.
ولكن قبل أن نحكم على أمبرتو إيكو، لنرى ماذا قال دُرَيْد بن الصِّمَّة:

أَمَرْتُهُمُ أَمْرِي بمُنعَرَجِ اللِّوَى/ فلم يَسْتبِينُوا الرُّشدَ إِلا ضُحَى الغَد                                   

فلمّا عَصَوْنِي كنْتُ مِنْهُمْ وقد أَرَى/غَوَايتَهُمْ، وأَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِي                                      

وهلْ أَنَا إِلا من غَزيَّةَ إِنْ غَوَتْ/غَوَيْتُ، وإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشد.

تكاد هذا الأبيات تختصر جوهر المبحث الذي يشتغل عليه علم نفس الجماهير، من حيث هو علم يقول بأنّ للجماعة البشرية شخصية كليّة مستقلة، تختلف عن شخصية الفرد الذاتية المنطوي في الجماعة/ الجمهور. لقد ذوت الشخصية الذاتية للشاعر، واستقالت من دورها، أمام سطوة رأي القبيلة. وعلى الرغم من أنّ الشاعر قد أبان لهم الصواب، إلّا أنّه بعد أن عصته القبيلة، نكص وارتد إلى الجمع، مسلّمًا رشده وغوايته له. لقد لحظ علم النفس، وضمنًا مؤسسه فرويد، الحالة الفريدة التي تعتري الكائن البشري ما إن ينضم إلى جمهور ما، حيث يكتسب سمات خاصة لم تكن موجودة فيه سابقًا، أو كانت موجودة، لكنّه غير واع لها. هذا التغيير الحاصل يتأتّى من حلول روح الجماعة، أو الجماهير، أو الشعوب في هذا الفرد، فيفقد فرادة شخصيته، ويصبح مجرد خلية في جسد الجمهور، كما يقول إلياس كانتي(3).


قدّم غوستاف لوبون(4) عرضًا شيّقًا بمعايير أوائل القرن العشرين عن الجماهير التي ظهرت فجأة على مسرح الحياة بكافة جوانبها، وغيّرت مجرى التاريخ. وقد رأى أنّ الجماهير ليست فاضلة أو مجرمة، بل قد تكون مجرمة ومدمرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون كريمة وتضحي من دون مصلحة. وهو بذلك يكون قد رفض المقولات السابقة التي أوجزها الإيطالي سيجهيل/Sighele والذي وصف الجماهير بأنّها مجرمة دومًا. وأمام هذه الرؤية الجديدة للجماهير لدى لوبون، كان لا بدّ من إظهار المميزات الأساسية التي تنطوي عليها تلك الجموع التي أقلقت عقلانية أوروبا في القرن التاسع عشر وما بعده. يقول لوبون: "إنّ الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح عاطفية مشتركة تقضي على الفروق الشخصية، وتخفض الملكات العقلية". وبعد أن انتهى من تحديدها، شرع في شرح كيفية قيادتها عن طريق التحريض، والدعاية، والقائد الملهم. لذلك يميّز بين نوعين من الفكر: الأول، يستخدم المفهوم العقلي، والثاني يستخدم المجاز والصور الموحية. والجماهير هي من تستخدم المجاز والصور الموحية، لذلك يخطئ القائد السياسي عندما يخاطبها بالحقائق العقلية، بل عليه أن يوجّه خطابه إلى أحاسيسها ومشاعرها بالمقولات الحماسية غير العقلانية. لم يتقبّل الوسط الثقافي مقولات لوبون، لكنّ موسوليني وهتلر كانا من قرّائه، وقد طبقا تحليلاته النفسية على الجموع.

رأى لوبون أنّ الجماهير ليست فاضلة أو مجرمة، بل قد تكون مجرمة ومدمرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون كريمة وتضحي من دون مصلحة!



وعندما وقعت الحرب العالمية الثانية، أصبح السؤال عن ظاهرة الجماهير مطروحًا بقوة، لذلك نجد أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت، الألماني ثيودور أدورنو، يعلّق على طروحات لوبون بأنّها قد تحقّقت بطريقة مدهشة حتى ضمن الحضارة التكنولوجية الحديثة التي كنّا نتوقّع أن نجد فيها جماهير أكثر استنارة. وقد كان جواب أدورنو ناتجًا عن الحيرة التي انتابت الكثير من المفكرين عن الكيفية التي استطاع من خلالها هتلر تجييش الشعب الألماني المستنير، بتلك الطريقة المجنونة.

إنّ دهشة أدورنو ممّا حدث، كانت قد تمت الإجابة عليها من قبل خوسه أورتِغا أي غاست(5) وقبل الحرب بسنوات. ذهب خوسه إلى أن ظاهرة الجماهير هي من الشمول بمكان بحيث تنال من أكثر الناس عقلًا وروية، وشرح ذلك في فصل من كتابه بعنوان: بربرية التخصّص. لقد كان خوسه ناقمًا على الجماهير، ويرى فيها السبب الرئيس لأفول أوروبا. وتكاد مقولة إيكو عن مرتادي الحانات طبق الأصل عن مقولة خوسه. لقد عالج خوسه ظاهرة الجماهير بتمعّن ودقّة. وهو يراها تشمل كل الطبقات، فوباء الجمهور لم يسلم منه أحد، حتى العلماء. لقد فرض تطور العلم التخصّص الشديد والدقيق، مما أدّى لغياب الرؤية الموسوعية التي كانت تميز علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر. وعلى الرغم من هذا الغياب، إلّا أنّ التخصّصي الذي أسماه خوسه: "العالم الجاهل" لا يتورّع عن إبداء رأيه في كل شيء سواء في مجال اختصاصه ويتعداها إلى ما لا يفقه فيه شيئًا، منساقًا كأي جاهل في حانة، ومسلمًا قياده لأي زعيم مجنون.

إنّ استقراءً لما أوردناه أعلاه يظهر لنا بوضوح الصراع بين أقلية؛ سواء أكانت دينية، أو سياسية، أو ثقافية ذات رؤية موسوعية، وجمهور رافض لتلك القيادة. وقد أوضح خوسه ذلك متهكمًا من الجمهور، بأن أسماه السيد الصغير الراضي عن نفسه الذي يريد أن يحكم العالم.  



الجمهور والإبداع

لا نستطيع أن نقول بأنّ ظاهرة الجمهور كانت غفلًا في التاريخ ولم تظهر، إلّا خلال الثورة الفرنسية وما بعدها. إنّ تسليط الضوء على الآداب والفنون وعلاقتها بالجمهور، يكشف لنا الإرهاصات الأولية لتمرّد الجماهير، فالتدقيق في هذه العلاقة يكشف لنا بأنّ السلطات عبر التاريخ كانت تعتبر الآداب والفنون من القوى الناعمة لسوس الجماهير. وهذا يعني أنّ مشكلة الجماهير كانت موجودة، لكن لم يخصّص لها علم، إلّا مع غوستاف لوبون ربما.

إنّ سفرًا عبر تاريخ الثقافة يمنحنا استبصارًا عن الآليات التي اعتمدت في سياسة ثقافة الجماهير، وخاصة في فن المسرح بسبب تعاطيه المباشر مع الجمهور. إنّ تقسيم المجتمع بشكل طبقي، في المسرح، عبر المأساة التي تعرض حيوات علية القوم، والملهاة التي تقدم رعاع القوم، أو تطرّف صيغة: "الفن للفن" التي تسقط الجمهور من حسابها، إلى مقولة: المثقف الطليعي الغرامشية، حيث يقود مثقف رؤيوي الجماهير إلى يوتوبيا ثورية، كل هذا يعني نمذجة الإبداع والتلقي، بحيث يظل الجمهور تحت سطوة الأقلية العارفة.   

احتوت محاورات أفلاطون وجمهوريته على الأسس الرقابية الأولى على الفنون والآداب وتلقيهما عبر منهجين؛ يقوم الأول بالحطّ من الآداب والفنون كونهما محاكاة من الدرجة الثالثة للحقيقة، أمّا الثاني، فقد تأسس على ضبط العاطفة والانفعال. وأمام هذه الرؤى الرقابية يأتي تعليل أرسطو النفعي للمأساة، وشرعية وجودها عبر الكاثريس/ التطهير ردّا على أفلاطون الذي اعتبر المأساة ضارة أخلاقيًا، في حين رأى أرسطو فيها طريقة لتفريغ كبت الجمهور؛ وإن صحّ لنا القول، فلقد ذهب أرسطو إلى اعتبار الفعل المأساوي فعلًا ذا طبيعة أخلاقية، لا يتعلّق بمولد أو طبقة، وهذا ما رآه مارفن كارلسون في توجّه أرسطو التقسيمي بين المأساة والملهاة(6) بقوله: "ولهذا يكون نبل الشخصية المأساوية سمة أخلاقية أكثر منها اجتماعية أو سياسية"، وبذلك كاد أرسطو أن يهدم التقسيم الطبقي بين المأساة والملهاة، إلّا أن التفاسير اللاحقة لفن الشعر ركّزت بشكل جوهري على التقسيم الطبقي للمأساة تجاه الملهاة. إنّ منحى أرسطو الجديد في تفسيره للمأساة بعيدًا عن الطبقة الاجتماعية كان مقاربة من زاوية جديدة، تسمح بتعاطٍ أكبر موضوعية وحكمة مع ما تتناوله الكوميديا في موضوعاتها عن طبقة شعبية لا تصلح إلا للتهكّم والضحك عليها. وكأنّ أرسطو يرى في طبقة الجماهير ما يصلح لأن يكون موضوعًا للمأساة. هذا تطور جديد في رؤية الجماهير، لكن لم يكتب له التاريخ الاستمرار.

ذهب أرسطو إلى اعتبار الفعل المأساوي فعلًا ذا طبيعة أخلاقية، لا يتعلّق بمولد أو طبقة 



لم تكن محاورات أفلاطون هي البداية، بل سبقتها آراء جزئية أكثر ما تجلّت مع أريستوفانيس في مسرحيته "الضفادع"، والتي يعرض فيها نزول الإله ديونيسوس كي يعيد المسرحي يوربيديس من الموت، وهناك تنشأ مماتنة فكرية بين إسخيلوس ويوربيديس لمعرفة أيّهما الأفضل. لقد كان أريستوفانيس تقليديّا يميل قلبه إلى إسخليوس الممثل للجيل القديم من التقاليد الإغريقية، في حين كان يوربيديس ثوريّا، يعرض في تراجيدياه أحوال الناس العادية. وعندما هبط يوربيديس إلى العالم السفلي طالب بعرش التراجيديا الذي كان يجلس عليه إسخليوس ودعمه في ذلك اللصوص، وشارطو الجيوب، وقاتلو آبائهم، ولصوص المنازل. وهؤلاء، هم غالبية العالم السفلي الذين تأثروا بمحاوراته المضلّلة، ومناقشاته الملتوية وأباطيله، وهاموا به إعجابًا، ونادوا به ليجلس على عرش التراجيديا، كما ورد في مسرحية "الضفادع". لا تخفى الإشارات الضمنية فيما أورده أريستوفانيس برفضه ليوربيديس بسبب ميوله المناهضة للتقاليد وتوجّهه إلى الجمهور الذي يزدريه أريستوفانيس، لذلك تنتهي المسرحية بأن يختار ديونيسوس إسخليوس للعودة به لأن قلبه يهواه، ولم يكن إسخليوس إلّا ممثلًا للأقلية الحاكمة دينيّا وثقافيّا.

كان لهوراس(7) الشاعر الروماني دور في سياسة ثقافة الجماهير عندما جعل المتعة والتعليم من أهداف المسرح والأدب بشكل عام. وهذا يعني ربط المسرح والأدب بالقيمة الأخلاقية وبالتالي سيتم استبعاد أي محاولة مخالفة، وظل التقسيم معه ثابتًا، فالمأساة لعلية القوم والملهاة لأسافلهم. ورثت المسيحية الإمبراطورية الرومانية، ومن أهم الذين أبدوا آراء مهمة في المسرح كان القديس أوغستين الذي رأى في حبّ المسرح "جنونا بائسا"(8) ورأى بأنّ الإمبراطورية الرومانية بصيغتها الوثنية قد انهارت بسبب الانتهاكات الأخلاقية للآلهة الوثنية ذاتها. ويضيف بأنّ المسرح فاسق بطبعه، لأنّه يتحدّى الآلهة والدولة. وإن جئنا إلى ميغيل دي ثيربانتس، فقد ذهب إلى ضرورة رفع النصوص المسرحية إلى جهات رقابية عليا، كي تتم مراقبتها حتى تتخلّص من سطوة ما يرغبه الجمهور.
إنّ ما عرضناه أعلاه يبيّن لنا تاريخ الصراع بين نخبة ترى بأنّها صاحبة الحق في قيادة الجماهير بحكم معرفتها وحكمتها، وبين الجماهير التي ترى بأنّ من حقها أن تباشر وجودها بنفسها.

                                                                                         

 نهضة الجمهور

لم تحقّق الجماهير ما تصبو إليه عبر ثوراتها، مهما قيمّنا تلك الانتفاضات إيجابًا أو سلبًا، لكن ما نراه حاليًّا من قوة الرأي العام، حتى ولو كان على السوشيال ميديا، يكشف لنا بأنّ الجماهير قد أصبحت لاعبًا أساسيًا في صيرورة الحضارة البشرية. وإنّ مقارنة الفظائع التي ارتكبتها الجماهير مع ما قامت به الفئات الحاكمة وقوتها الناعمة من الفلاسفة، والمفكّرين، ورجال الدين، لا تتناسب أبدًا. إنّ تبصّرًا في الكوارث التي ارتكبتها الجماهير عبر التاريخ يظهر لنا بأنّها لم تكن نابعة من إرادتها الخالصة، فكما حلّل لوبون كان هناك محرّك آخر، سواء أكان رجل دين أو سياسة، هو من دفعها إلى ارتكاب المعاصي. في حين كانت الأقليات الحاكمة والعارفة تذهب دومًا إلى المجزرة بكلّ وعي وإرادة.

إنّ المماحكة النظرية بين الأقليات الحكيمة والجماهير لن تنتهي، فدومًا هناك عناصر ناقصة لرؤية هذا الصراع بشكل موضوعي، إلّا أنّ بعض التجارب، والأمثلة الخارجة عن المآرب الدينية والسياسية تظهر أنّه عندما يسمح للجماهير بأن تعبر عن نفسها من دون صراع، تصبح مبدعة وقادرة على أن تكون خلية نحل غير مصابة بقراد النحل السياسي والديني والثقافي.

ذهب خوسه إلى أن ظاهرة الجماهير هي من الشمول بمكان بحيث تنال من أكثر الناس عقلًا وروية



يأتي عنوان كتاب جيف هاو: "الجماهير بين المشاركة والإبداع، عندما تتحكّم الجماهير في مستقبل الأعمال" صادمًا للوهلة الأولى لأنّنا بشكل شعوري ولا شعوري قد لُقّنا بشكل أقرب إلى التنويم المغناطيسي، بأنّ الثورات دومًا تأكل أبناءها. وهذا صحيح للمراقب لتاريخ الثورات الشعبية في العالم. لكن هذه البداهة التاريخية ينقضها جيف، ويقدم الكثير من الأمثلة التي استطاع بها الرعاع والسوقة أن يقدّموا حلولًا ناجعة لمشاكل مستعصية في الفنون والآداب، وحتى العلوم ذات الطبيعة الاختصاصية البحتة. وهو يرى أنّ طاقة الجماهير قد أسيء استخدامها دومًا. والآن يجب أن يُنظر إليها بمنظور جديد، لا يقوم على خطّ التجميع المنظم الذي أطلقه هنري فورد، والذي يعتبر استنساخًا للمنظومات الدينية والسياسية في رؤية الجمهور كقطيع يحتاج إلى راع، وإلّا أكلته ذئاب الفوضى. يضرب جيف العديد من الأمثلة ومنها شركة بروكتر آند جامبل (9) التي كانت تقوم سياستها على السرّية والتعصّب، بحيث إنْ لم يكن المنتج قد ابتكر داخل الشركة، فهو غير موجود. وقد كانت سياستها تلك ناجحة خلال الـ 130 سنة الماضية لكن مع بداية عام 2000 انهارت الشركة، فلم يكن أمامها، إلّا أن ترفع حصة الابتكارات من مصادر خارجية إلى 50% متنازلة عن سياستها السابقة. تدفقت الابتكارات من شبكة من العملاء تصل إلى مليون ونصف مليون، ليس أولهم العلماء، وليس آخرهم العمال البسطاء. هذا التنوع المذهل يضرب مقولة الأقلية العارفة التي يجب أن تسوس الجماهير، بل ويؤكّد وفق جيف بأنّ تعهيد الأعمال للجماهير عبر النت على سبيل المثال له القدرة على تشكيل نوع مثالي من النظام القائم على الجدارة، وتنتهي معه معايير عرق الإنسان، وجنسه، وعمره، ومؤهلاته، لأنّ تعهيد الأعمال للجمهور يفترض بأنّنا كلّنا مبدعون كفنانين، وعلماء، ومهندسين، ومصمّمين، فيسمح ذلك بتحرير الإمكانات الكامنة في أفراد الجمهور عبر استكشاف طرق جديدة للإبداع.

قد يكون جيف هاو أحد المتفائلين، لكن ما عرضه في كتابه من أمثلة، يؤكّد ضرورة إعادة النظر إلى الشعوب، والجماهير، والرعاع على أنّهم أفراد فاعلون، وبشكل محتّم، مهما انطمست شخصياتهم الفردية نتيجة انتسابهم إلى جمهور ما، كما أوضح غوستاف لوبون. إنّ ثورات الجماهير التي غيّرت وجه التاريخ صعودًا نحو الحضارة، أو هبوطًا نحو الهمجية، ليست إلّا نتيجة الكبت الذي اعتبره فرويد المحرّك الأساسي لتكوّن شخصية الكائن البشري، أكان مبدعًا أم فاشلًا، فلماذا لا نرى في تمرد الجماهير إلّا نتاجًا للكبت الطويل الأمد الذي مورس عليها من قبل الأقليات الحاكمة والعارفة، سياسيًا ودينيًّا وثقافيًّا. كان التاريخ سيرة ذاتية للأقليات الحاكمة، ولربما ستكون الألفية الجديدة تاريخًا للجماهير والشعوب. نعم سننتظر حتى يُكتب التاريخ القادم، لكن ليس لنا إلّا أن نقول مع الشاعر: إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بدّ...

     

المصادر:

1- https://www.lastampa.it/cultura/2015/06/11/news/umberto-eco-con-i-social-parola-a-legioni-di-imbecilli-1.35250428/
2- نظرية الأدب، تيري إيغلتون، ترجمة ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة السورية - دمشق 1995.
3- الجماهير والسلطة، إلياس كانتي، المركز القومي للترجمة – مصر 2018.
4- سيكولوجيا الجماهير، غوستاف لوبون، دار الساقي 1991.
5- تمرد الجماهير، خوسه أورتِغا أي غاست، دار التكوين دمشق 2011.
6- نظريات المسرح، الجزء الأول، مارفن كارلسون، المركز القومي للترجمة – مصر 2010.
7- فن الشعر، هوراس، ترجمة لويس عوض، مكتبة النهضة المصرية- القاهرة 1947.
8- نظريات المسرح، مارفن كارلسون.
9- بروكتر آند جامبل (P&G) هي شركة أميركية عالمية وتعد أكبر شركة لصناعة المواد الاستهلاكية في العالم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.