}

نسويات منتصف الليل في تولوز

مها حسن 21 يونيو 2022
اجتماع نسويات منتصف الليل في تولوز
(رباب نمر)

لتوقيع روايتي الفرنسية "نساء حلب"، والتي يبدو أن وجود كلمة نساء في عنوانها، كان سببًا جذابًا، لإقبال النساء عليها، ذهبتُ بدعوة من تجمع نسوي ضمّ مجموعة منظمات نسوية إلى مدينة تولوز في جنوب فرنسا.

رغم أنني أعيش في فرنسا منذ أكثر من ثمانية عشر عامًا، فإنني لم أذهب من قبل إلى الجنوب الدافئ، الأكثر شبهًا ببلادنا المشرقية، من حيث الطقس وطباع الناس.

أتاح لي كتابي الذهاب قبل شهرين تقريبًا إلى مارسيليا، وها أنا اليوم، في تولوز.

وصلت قبل افتتاح المهرجان بيوم، ولمزيد من الخبرات، حضرت نشاطًا جديدًا عليّ، برفقة مجموعة نسويات فرنسيات، جئن من عدة مدن فرنسية، ومن تولوز ذاتها.

التقاط صور للنساء في الليل، في الشوارع الضيقة المعزولة المُعتمة، ذلك هو غرض بولين، المصورة الفوتوغرافية، التي جمعت حولها تلك النساء.

تحدثت بولين في بداية التجمع وسط ساحة، وقفن فيها نحن النساء فقط، نجذب الانتباه، وهذا أحد أهداف التجمع: أن ينتبه المارة إلى وجود مجموعة من النساء، ليتوقف البعض ويطرح الأسئلة: ماذا يحدث هنا؟

شرحت بولين طريقة عملها، وروت لنا كيف توصلت إلى هذه الفكرة، حين كانت ذات يوم، مع صديقات لها، في الليل، بعد أن التقطت لهن عدة صور، ولاحظت في اليوم التالي، مشاعر غامضة في وجوه الناس، مشاعر بين الحذر والحزن والقلق..

لهذا قررتْ أن تقوم بسلسلة لقاءات وجلسات تصوير في الشوارع ليلًا، لتقديم مشاعر النساء من جهة، ولكسر العزلة عنهن، عن النساء، حين يشعرن بالقلق وهن عائدات ليلًا إلى بيوتهن، أو متجهات إلى أعمالهن، بالنسبة للسيدات العاملات ليلًا.

أعطتنا بولين مجموعة تعليمات، حول وقفتنا أثناء التقاط الصور، إذ يجب أن نقف على ساقين مفتوحتين قليلًا لإحداث التوازن، لأن الساقين حين تكونان ملتصقتين، يمكن لأي شخص يدفع إحدانا، فيتسبب في إحداث الخلل في توازنها. علينا أيضًا ألا نبتسم للصور، فنحن لسنا في مناسبة فرحة، نحن نعبر عن امتعاضنا وعن تعرضنا للمضايقة ليلًا، حين نكون وحيدات خاصة..

قرية الساحرات

عالم كامل من النساء يملأ القرية. قرية المنظمات النسوية، حيث منحت الجهات الحكومية تلك الأرض الكبيرة، في تلك المناسبة، لتقوم تلك المؤسسات النسوية بتقديم فعاليتاهن.

كأننا في بلاد الأمازونيات، نساء يشبهن الأميرات في الأحلام، بملابس جميلة ملونة، وبعضهن وضعن على رؤوسهن أكاليل من الورد الملون، في تضامن أيضًا مع نساء " فيمن" الشهيرات.

معارض رسم، حفلات توقيع كتب، ورشات رقص، أقسام بيع إكسسوارات، مكتبة لبيع الكتب، ورشة كتابة للشعر، شهادات نساء، عروض أفلام قصيرة، عرض مسرحي، وعرض موسيقي اختتم به النهار المحتشد بالفعاليات.

أطلقت المؤسسات للمهرجان اسم "ساحرات" عبر لعبة لغوية تقسم كلمة ساحرات " سورسييه" الفرنسية، إلى كلمتين، الأولى منهما" سور" أي أخوات.. بهدف كسر الدلالة الشريرة التي تحملها كلمة ساحرات..

كما لو أنني في حلم.. طبيعة وبيوت خشبية مسبقة الصنع داخل الغابة، ألوان وموسيقى وكتب ومشاريب وحوارات وصخب... شيء يشبه العيد، بخصوصية شديدة: أن اللاعبات الأساسيات لهذه الفعاليات، كلهن نساء، مع وجود خفيف لبعض الرجال الذين قدموا خدماتهم اللطيفة..

"نساء حلب" بالفرنسية



"تجرؤ النسوية" Osez le féminisme

"تجرؤ النسوية"- هكذا يمكن ترجمة اسم المنظمة التي استضافتني.

حين سمعت إينورا بصدور كتابي، تواصلت معي على الفور، واتفقنا على أن أتواجد بينهن، في ذلك اللقاء الواسع، حيث النسخة الخامسة من المهرجان النسوي السنوي..

استفدت طبعًا من القيام بجولة سياحية في المدينة، للتعرف على أهم معالمها، والسير خاصة على الأرصفة المحاذية لنهر غارون..

تولوز، المدينة الوردية، مدينة " البريك الأحمر"، إذ تعرف تولوز بمبانيها المشيّدة من حجارة البريك، وتحوي الكثير من المعالم، أهمها ساحة الكابيتول، التي تتحول إلى مهرجان من الحيوية والصخب والمطاعم والألوان، خاصة في الصيف، الفصل الذي تواجدت فيه هنا في تولوز.

تذكرت على الفور مشهد من فيلم "عطر امرأة"، حين لعب آل باتشينو دور عميد متقاعد أعمى، راقص امرأة في المقهى على أنغام أغنية عطر امرأة لكارلوس غارديل الذي عاش في تولوز.

أنا والنسويات، أو النسويات وأنا

منذ صدور روايتي " نساء حلب" وأنا أحظى باهتمام النسويات، وأتلقى الدعوات من جمعيات نسوية في فرنسا، بدءًا من ماري فرانس في مرسيليا، حتى الجمهور الذي يحضر ندواتي حول الكتاب، ويقتنيه، إلى صديقاتي الفرنسيات، كجوليا وآن وكارولين، وأخيرًا، حتى اللحظة، إينورا وصديقاتها في جمعية "تجرؤ النسوية"، سيزا، صوفي، فريدريك، إيفان، التي اقترحت عليّ تنظيم ندوة حول الكتاب بدعوة من مؤسستها النسوية في مدينة نانت..

أن أكون محاطة بالنساء، هو أمر مهم دون شك.. فهذا يعني أن شخصيات كتابي النساء يحصلن على الإقبال، وهذا يعني أيضًا، قراءة كتابي على مستوى واسع، إذ تمتلك النسويات الغربيات مكانة مهمة في مجتمعاتهن، ويسعى الكثير من الرجال المؤمنين بالنسوية، بالانضمام ودعم النشاط النسوي..

لكنني ككاتبة، أخاف كثيرًا على كتابتي، وأحمل بعض بذور النرجسية الإبداعية، التي تخشى من حصر روايتي هذه، وغيرها، بأهداف محددة، وإن كنت أحترم النضال النسوي، وإن كنت شخصيًا، ضحية التمييز الذكوري في العالم العربي، وإن كانت هويتي الجندرية، أحد دوافع دخولي إلى عالم الكتابة، ورغم إيماني الإبداعي بحساسية المرأة الكاتبة، لكنني أخاف من التسميات المحددة للإبداع.

قد أكون نسوية في نضالي الاجتماعي، لكنني أنفر دائمًا من أوصاف النسوية في الأدب، وأعترض دائمًا على تسميات من قبيل "الأدب النسوي" والتي أرى فيها تراتبية تقلل من شأن كتابة المرأة وتضعها في الدرجة التالية لكتابة الرجل..

من هنا، فأنا إبداعيًا، مع المساواة، ومع التمسك بكلمة أدب، دون إلحاقها بأي أوصاف، كأب المرأة، أو أدب المهاجرين، أو أدب الأجانب أو.... لأن الأدب برأيي، هو الجامع لكل هذه الإشكاليات المتأتية من الصراع السياسي والاجتماعي، ولا يجب أن يكون الأدب ذاته، أرضًا لهذه الصراعات.

لكن هذه الآراء التي أدافع عنها بحذر، تضعني في خانة الخصومة غير المرغوب بها، إذ قالت لي صديقة نسوية بلهجة غاضبة: أنت تقللين من شأن نضالاتنا!

رحت أشرح لها مطولًا، أن النسوية هي جزء موجود داخل اهتماماتي، وداخل كتابتي، وهي إحدى اشتغالاتي على الإنسان، لكن قضيتي الإبداعية، والتي ليست ابتعادًا عن المجتمع وهواجسه، هي أشمل وأوسع، بحيث أن قضيتي هي الإنسان في كل لحظة وفي كل مكان..

أهمية النسوية في العالم العربي

بعد أن أمضيت قرابة أربعة أيام محاطة بالنساء، تنبّهت وأنا أعود من تولوز، إلى أهمية النضال النسوي في العالم العربي.

مع تمسكي بفكرة أهمية وجود الرجال، بالموازاة مع النساء، في جميع القضايا العادلة، لكن يبدو أن رأيي هذا لا يزال مبكرًا فيما يخص المجتمع العربي، حيث لا تزال قضايا بديهية بالنسبة لي ولأمثالي من نساء ورجال، كقضايا الزواج القسري، والتحرش الجنسي، والاغتصاب، وجرائم الشرف، تحتاج إلى دفاع وتبني مجموعات كبيرة لها، لتوضيحها ومحاربتها وتحقيق العدالة والمساواة عبر النصوص القانونية والتطبيقات الاجتماعية، فإن هذا الانزياح بين حجم العنف الواقع على النساء في المجتمعات الشرقية، وحجم الحلم بتحقيق العدالة، يستوجب دعم النضال النسوي في العالم العربي، بل والانخراط فيه.

للذهاب إلى مجتمع مدني متطور وعادل، لا بد من تحقيق كرامة المرأة وهذا الأمر البديهي، لا يزال يلاقي رفضًا من العقلية الذكورية المشرقية المتسلطة، التي يمارس بعض نخبها، من الرجال والنساء معًا، سلطات قوية لمنع تواجد النساء في الشأن العام، ومنع ظهورهن وتحقيق ذواتهن..

لهذا، أجدني نسوية حين يتعلق الأمر بالعالم العربي، وبعيدة عن النسوية، حين يتعلق الأمر بالكتابة، وحياتي في أوروبا.

ويبقى الحديث مفتوحًا والنقاش لا ينتهي حول مدارس النسوية المتعددة، وكيفية تطبيق أفكار دون غيرها، على مجتمعاتنا المتأخرة جدًا، فيما يتعلق بأوضاع النساء.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.