}

"عمّتنا النخلة".. أنسنةُ الشّموخِ واستجداءُ الذاكرة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 2 يوليه 2022

بعلاقة عضوية وشائجية راسخة رسوخ السؤال في أفق البراري، ارتبط العربي بالنخلة وتمرها وشموخها ومختلف تفاصيلها.
هو النخيل، تمره زاد الدروب. وهي النخلة الساكنة قلوب الناس في بلادنا بوصفها عمّتهم، الشبيهة بملامحهم، الكريمة مثل حاتم، الصابرة مثل أيوب، الغزيرة مثل الشِّعر في سوق عكاظ، الراضية مثل صلوات الأمهات، الشاهقة مثل جبل أُحُد، الطيّبة مثل برج الدلو، العذراء مثل مريم، المجنّحة مثل عصافير القطا وتحليق الشواهين، العمودية مثل قصيدة قديمة، الصامتة مثل حملان القطيع، المخاتلة مثل سراب الفلاة، المهيبة مثل شيخ القبيلة، المقوّسة مثل السهم والوتر.
يقولون: "كل قامة نخلة"، وأقول: كل نخلة بأرض العراق قامة.. بأرض الخليج.. ببلاد السمن والعسل.. ببلاد المغرب العربي.
تعامل أجدادنا مع النخلة بوصفها واحدة منهم، ملتقطين، في سياق تفسير ذلك، كثيرًا من الشبه بينها وبينهم، وربما من هنا جاءت عبارة "عمّتنا النخلة"، فالعبارة، ليست، بحسب معظم الرواة، حديثًا نبويًّا. عن هذا الشبه بيننا وبين النخلة يرصد الفقيه المصري كمال الدين الدُّميري القاهري (1341 ـ 1405)م صفاتٍ مشتركة بينها وبين الإنسان، فالنخلة: "ذات جذعٍ منتصبٍ، ومنها الذكر والأنثى، ولا تُثمر إلا إذا لُقّحت، وإذا قـُطع رأسها ماتت، وإذا قُطع سعفها لا تستطيع تعويضه من محله، كما لا يستطيع الإنسان تعويض مفاصله، والنخلة مغشّاة بالليف الشبيه بشعر الجسم في الإنسان".


دروب النخلة..

واحة نخيل


لم يتمكن الباحثون حتى يومنا هذا من تحديد مسقط رأس النخلة. فبعضهم ذهب إلى بلاد ما بين النهرين وحضارة بابل، ومعظمهم تطلّع إلى شبه الجزيرة العربيّة، وبخاصة إلى شرقها، ومن هؤلاء عالم النخيل الإيطالي إدواردو بَكاري (1871 ـ 1952)، الذي وثّق أن منطقة الخليج العربي موطن أصلي لنخلة التمر. وهنالك نظريات تسعى إلى مزيد من الدقة، فتحدد جزيرة صغيرة في البحرين اسمها "هارقان"، أو "حارقان". وتعزز هذه الترجيحات الكتابات المسمارية التي تتحدث عن تصدير تمورٍ من دلمون إلى العراق، ودلمون في التاريخ القديم هي بلاد البحرين التي امتدت من جنوبي العراق حتى حدود عُمان.
المؤكد أن زراعة نخيل التمر كانت معروفة منذ سبعة آلاف سنة عند كل الحضارات التي قامت في الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وما جاورها. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم كانت النخلة حاضرة دائمًا، لا في البساتين والواحات فحسب، بل في ثقافات الشعوب واقتصادياتها وحضارتها ككل.
الشواهد الأثرية ليست قليلة، منها العملات الفينيقية والإغريقية التي وصلتنا من الساحل الشرقي للمتوسط، منقوشًا عليها صورة النخلة.
ومن مصر الفرعونية وصلتنا نخلة صغيرة كاملة عثر عليها في أحد مقابر سقارة، وتعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. كما عَثر الباحثون حديثًا على مومياء فرعونية في مقبرة الزريقات ملفوفة في حصير من سعف النخيل.




ومن بلاد ما بين النهرين وصلتنا آثار المعابد والقصور التي شكّل النخيل جزءًا رئيسيًا منها، إضافة إلى التيجان الملكية التي حملت نقش النخلة.
غير أن أهم ما وصلنا في هذا المجال مجموعة القوانين المسمّاة "شريعة حمورابي" التي تضمّنت ثلاث مواد تتعلق بشراء النخيل وبيعه وتلقيحه، إضافة إلى مادة عِقابية خاصة بالاعتداء على النخيل، تحدد غرامة فضية على كل من تسّول له نفسه اقتلاع نخلة.
وُضعت مجموعة القوانين هذه قبل نحو 3800 سنة من عصرنا. وعلى امتداد آلاف السنين، حافظت النخلة على موقعها في حياة الشعوب التي عرفت زراعتها وازدهارها. وبسبب تعدد أوجه الاستفادة منها، حافظت الشعوب عليها حفاظها على أغلى ما تملك، وعملت على إكثارها من دون انقطاع. ولكن أين؟
تسمى المناطق الجغرافية الصالحة لزراعة نخيل التمر بـ"حزام النخيل". ويمتد هذا الحزام من باكستان شرقًا، ثم إيران والجزيرة العربية برمّتها، فالأردن وساحل بلاد الشام والساحل الأفريقي كلّه، وصولًا إلى موريتانيا غربًا. ويضاف إلى هذه الخريطة السودان، والصومال، جنوبًا.
وبسبب القيمة الاقتصادية المُهمة لهذه الشجرة، توسّعت رقعة حزام النخيل في القرن العشرين الميلادي. إذ بدأت الولايات المتحدة الأميركية بزراعته قبل 50 سنة تقريبًا. ونجحت في جعله منتجًا زراعيًا مجديًا. كما أن ناميبيا مددت هذا الحزام جنوبًا عندما أدخلت إليها زراعة نخيل التمر منذ عام 1995م.


أصل الحكاية..

نخلة تمر في وادي الأردن


في البدء كان العماء. تيهٌ متلاطمٌ في لُجّةِ الظلمات. جاء النور.. طلَّ بعد الليل نهار. ليلٌ ونهار.. نهارٌ وليل.. متوالية انبثقت من بين أصابعها عناوين الحياة.. أول برعم خضرة عاند شقوق الأرض وصارع الجدب واليباب، أول نبض في عروق كائن. صارع الإنسان كل هذا وذاك.. تكاثر الناس.. تضاءل الخوف من وحشة الكون وأنواء الطبيعة. ولدت الزراعة.. صار الشجر غابات.. صارت السهول مدى أخضر. النخلة من أقدم أشجار الأرض. هي بعض آدم.. شقيقته في مجد إنبات الحياة. تدافع الخلق وصولًا إلى أبواب الصحراء.. حوّلوا السراب إلى عين ماء. لم يتعبوا ولم ييأسوا، فإذا بالواحات تحيطهم من كل حدب وصوب. عند أبواب صحراء العرب، العين صارت عيونًا، وباتت التمرة أكثر من مجرد سَكِينةٍ في يد الصائمين والقائمين والركع السجود، أكثر من مجرد حبّات من الغذاء الكامل والقداسة الساطعة، أكثر من مجرّد غذاء سهل المنال دسم المعاني.




وسط هذا الصعود لمفردات الحضارة وموجبات الحياة، كان المدى واسعًا بحجمِ جموحِ الفرس وعنفوان الفارس النبيل.. كانت الفيافي في بلاد العُرْب تطوي الرمل.. تنثر حبّاتَه لآلئ من الشعر والفصاحة والعطاء الذي لا يُحدّ.. وبالتالي عقدت قبائل الشموخ العزم أن تكون.. بنت مداميك حضارة زاهية باقية.. دقّ العرب الطالعون من حروف الضاد أول أركان الرسوخ المبين.
ومع متوالية الأعوام والقرون، كبرت النخلة، صارت عمّة الناس الطالعين من شموخ البيداء نحو واحة اليقين والرضى والسلام. صارت خالة الوجدان.. زند الخلاص المجدول بقمح البيادر، وصلوات المطر، وأزمنة الخيام. صارت الرطب الذي يسّاقط نديًّا كأنه آية في كتاب العطاء. اليد التي تعزف لحنها والقلب الذي يدمع من أجل الآخرين. كبرت وأرخت جدائلها، فإذا بها الزاد الطالع من يباب الأيام كأنّه عذق الحياة النضير.
في سياق ما تقدم من ذاكرة النخيل، وبالتحديد ما يتعلّق من هذه  الذاكرة بأمّتنا العربية، تتجلّى النخلة بوصفها بوصلةَ دروب، وعنوانَ أمان، ومفترقَ طرقٍ نحو آفاق مستقبلٍ واعدٍ بالخصبِ والوَفرةِ المتعانقةِ مع بركاتِها وتمرِها.
صحيحٌ أنها في أيامنا هذه تعاني بعض الوحدة، كما لو أنها منسية فوق جبل بعيد وحيد، ولكنها، وبسبب تكرار ذكرها في القرآن عشرات المرّات، وفي الحديث النبوي، وفي الشعر العربي، وبسبب ما يحمله تمرها من فضائل غذائية وفوائد صحية، فإن قدرًا غير قليل من المكانة والجلال يظل مربوطًا بها، ويظل صامدًا شموخها، وارفة ظلالها، شجية ألحانها.
عن عزلة النخلة في بعض أحيانها، يقول الشاعر القطري مبارك بن سيف آل ثاني في قصيدة له تحت عنوان "أمام نخلة"، من ديوانه "الليل والضفاف": "يا نخلة فوق الكثيب مهجورة الأصحاب يحجبها الغروب/ معقوفة السعف تناوشها الخطوب/ وحيدة خلف الرمال الحمر يدميها الهبوب/ في القيظ يحرقها السموم وفي صقيع البرد يبحرها الجنوب/ وكان همس حفيفها ويح لنفس لا يطاوعها الهروب".

 
نخيل العراق..

قصة وجع عراقية مكتوبة بسعف النخيل


لنخيل العراق في الوجدان العربيّ مكانة تتعدّى الأبعاد الزراعية والاقتصادية والغذائية. وحتمًا، لا يتعلّق الأمر، بما قيل أيام حرب الخليج الثانية، حول إن العراق نصب مدافعه فوق أعناق النخيل، فتلك مدافع لم تجد نفعًا، ولم تحدث، إن وجدت فعلًا، فرقًا. ولعل الأمر هنا يتعلّق بالذاكرة، بالجنديّ العراقيّ يهب لنجدة العرب في فلسطين وفي كل مكان. ربما للأمر علاقة بما كتبه شعراء العراق عن نخل العراق، ومن هذا الشعر ما يشلع القلب، ويدمي الفؤاد، كما هي حال هذه الأبيات للشاعر العراقي الراحل عبدالرزاق عبد الواحد (1930 ـ 2015):
"كبير على بغداد أنّي أعافها
وأنّي على أمني لديها أخافها
كبير عليها بعدما شاب مفرقي
وجفّت عروق القلب حتى شغافها
تتبعت للسبعين شطآن نهرها
وأمواجه في الليل كيف ارتجافها
وآخيت فيها النخل طلعًا فمُبْسرًا
إلى التمر والأعذاق زاهٍ قطافها".
أما مظفر النواب (1934 ـ 2022)، الشاعر العراقي الراحل الآخر، فيقول:
"فقد كنت عند نخيل العراق
وإن كان حلمًا
وكان العراق على مهره عاريًا
مثلما ولدته السماءْ
وكان على عتبات العراق الفضاء
وبين ضلوعي فضاء به نجمة
لست أدري بماذا تُضاء".
أمّا محمد مهدي الجواهري (1899 ـ 1997) فيقول: "وحبذا تحت النخل مُصْبَحُنا بدجلةٍ وعلى الأجرافِ مُمْسانا".
عن الجرح المشترك بين النخلة وإنسانها في عراقها، يكتب الشاعر السوريّ الحمويّ عبد السلام بركات زريق (1970):
"كم تشبهين نخلةَ العراقِ يا عصفورةَ المطرْ
في أصلها رسوخْ
وفرعها شموخْ
تعيش في السهولِ والتِّلالْ
تفيضُ بالثمار والظلالْ
وتشكرُ السَّماءَ حين يهطل المطرْ
وتجزل العطاءَ حين يُحبسُ المطرْ
حزينةٌ كنخلةِ العراق يا عصفورةَ المطرْ
تهجرُها نساؤُها
يغتالُها أبناؤُها
تغتابُها أفياؤُها
طيبةُ الثِّمارِ حين يضحك القدرْ
وحلوةُ الثِّمار حين يعبسُ القدرْ
شامخةٌ كنخلةِ العراق يا عصفورةَ المطرْ
وأنتِ والعراقُ مجروحانِ في الصَّميمْ
وأنتِ والعراقُ غارقانِ في الدِّماءِ والحميمْ".
على كل حال، بقي أن نشير، بما يخص نخيل العراق، إلى أن أكبر غابات النخل وواحاته في العالم وأجود أنواعه لا تزال هناك عراقية اللحن، موجوعة الصدى، حيث ازدهرت زراعته منذ آلاف السنين. إذ يبلغ عدد نخلات العراق أكثر من ثلاثين مليون نخلة، يتركز العدد الأكبر منها في شط العرب. وتحتل المملكة العربيّة السعودية المرتبة الثانية عالميًا بفضل 23 مليون نخلة تتوزع على مناطقها الشرقية والوسطى والغربيّة. في هذا السياق، فإن اقتصار المنافسة على المراكز الأولى زراعة وإنتاجًا ما بين بلدين عربيين، يؤكد أن النخلة كانت ولا تزال شجرة عربية الهوية. يتأكد ذلك من اعتزازنا بها، وإحلال صورتها على نقودنا الحديثة. تمامًا كما كانت على العملات الفينيقية والإغريقية في غابر الأزمان.
 

عمارة النخيل..

معارج الشموخ


للنخلة حضور جمالي من خلال الزخرفة المستوحاة منها لتزيين الأبنية. فللنخلة شكل فريد في أناقته يقوم على بساطة التكوين وتجرده شبه الهندسي المتمثّل بجذعٍ اسطوانيٍّ طويلٍ يحمل في رأسه كتلة شبه كروية من السعف. وعندما نضيف التكرار الذي نلحظه في العناصر التي تؤلّف كل سعفة على حدة، وتلك التي تغطي جذع النخلة أيضًا، نعرف مدى قابلية هذه الشجرة لأن تكون نبعًا لا ينضب لفن الزخرفة، هذا الفن الذي يقوم عمومًا على قابلية عنصر واحد للتكرار كي يغطي مساحة كبيرة.




تراوحت الزخارف النخلية في فن العمارة بين رسم كامل الشجرة، أو أجزاء منها، لا سيما السعف ذات الانحناءة الطبيعية التي تجمع الليونة والانسياب إلى الانضباط الذي يعبر عنه إيقاع الورق الذي يشكّلها.
الزخارف النخلية انتشرت، بطبيعة الحال، في المناطق الغنية بزراعة النخيل. ففي مصر الفرعونية جاورت السعف أزهار اللوتس في تيجان الأعمدة الحجرية الضخمة التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في الأقصر. بعضها حافظ في زخرفته على الخوص، وبعضها تحوّل إلى شكل هندسي شبه مجرّد من كل شيء ما عدا انحناءة طرف السعفة إلى الخارج.
في العمارة الإسلامية، يلاحظ أن الأعمدة المزخرفة الموزعة على امتداد المباني، تحمل تيجانًا مزخرفة، فتبدو مجتمعة كغابة نخيل.
واللافت أن العرب هم وحدهم الذين لم يكتفوا بزخرفة التيجان، بل غالبًا ما عمدوا إلى زخرفة الأعمدة نفسها بأشكال هندسية متكررة. إلى ذلك، ثمّة صلة قربى متينة بين شكل النخلة ككل، ومبدأ البناء القائم على أعمدة تحمل في أعلاها أقواسًا وعقودًا وقبابًا، وهو نمط بناء نشأ على ساحل المتوسط، وبقي محصورًا فيه لقرون طويلة، قبل أن يعم العالم بأسره في القرون الخمسة الأخيرة.

 
نخيل التمر
نخيل التمر (الأكثر انتشارًا في بلادنا العربية، والأكثر قداسة وجاذبية) هو نوع فريدٌ بين الأجناس والفصائل النخلية المعروفة على وجه الأرض. ذلك أن أنثاه لا تنتج الثمار إلا بواسطة التلقيحٍ، وتتخلق منها فسائل أخرى في عملية تشبه الولادة، وتتعدد أصناف ثمارها حتى تقترب من الخمسمئة، ويمتدّ عمرها إلى 150 عامًا، أو أكثر، وقد يصل طول الواحدة منها إلى 25 مترًا، وفضلًا عن ذلك، لا يتساقط ورقها حتى عند موت النخلة نفسها.
كثيرة هي أنواع التمور في بلادنا، يكفي أنْ نذكر أنّ في قطر وحدها أكثر من 20 نوعًا من التمور والرُطب؛ أهمها: العراقي، الخنيري، الخضري، الخلاص، الغر، السلطانة، السكري، التونسي، البرحي، الخصاب، دقلة نور، الشهل، اللولو، الزرير، الهلالي، الجبري، نبوت سيف، والشيشي، وغيرها.

 
من المهد إلى اللحد
الارتباط العضويّ الوجدانيّ بين العربي والنخلة لم يأت من فراغ، فقديمًا، مما قد يكون معتمدًا عند بعض أبناء القرى في بعض البلدان العربية حتى يومنا هذا، كان سرير الوليد الرضيع يُصنع من عصيّ السعف. وحين يحتاج إلى طعام غير حليب أمّه، فإن تمرة ملفوفة في منديل، أو خرقة، على هيئة حلمة قنينة الرضاعة، هي أول ما يُلقم به في حال غياب الأم، أو انشغالها.
ينمو الصغير، وتنمو معه احتياجاته، فتوفر له النخلة بيئة صالحة للعب والمرح، فضلًا عن قائمة طويلة من الألعاب التي تحفّز النشاط الحركي والذهني.





قد يختار إحدى ألعاب "الاختباء"، أو "التنكر"، فيوفّر بستان النخيل مواقعَ تستوعب مختلف مراحل اللعبة. أو يحلم بالفروسية فيعتلي صهوة جريدة ويركض، حاملًا سيفًا من عصا، أو رمحًا من جريدة أخرى، أو قوسًا من عرجون قديم، وكلّ ذلك يُصنع يدويًا، وبواسطة الطفل اللاعب نفسه.
وقد يفضّل "الأرجوحة"، فيوصل نخلتين متجاورتين بحبل مصنوع من ليف النخيل. وقد يتوق إلى لعبة صوتية، فيعمد إلى عرجون أخضر ويقتطع منه قطعة لا يتجاوز طولها 30 سنتمترًا، ثم يفلقها حتى المنتصف إلى ثلاث شرائح متعادلة، ويثني شريحتين منها. ولم يَبق عليه إلا أن يهزها يمينًا ويسارًا لتصدر أصواتًا رتيبة.
وقد يطلبُ لعبة أكثر تركيبًا، فيصنع عصيين: قصيرة (20 سم)، وطويلة (60 ـ 70 سم)، ويشترك مع آخرين في لعبة يسميها بعض سكان الخليج "قـبّ وقلينْ"، وهي لعبة تتكون من طرفين متنافسين أحدهما يضرب العصا الصغيرة بالكبيرة لتنطلق بعيدًا، وعلى الطرف الآخر هناك من يلقفها ليرميها إلى الطرف الأول، ويجب في هذه الحالة أن تسقط في دائرة الطرف الأول المرسومة سلفًا، فإن لم تسقط؛ فإن الطرف الأول سيلحق بالثاني جهدًا جهيدًا في الركض وفق حساب خاص.
الألعاب الطفولية كثيرة، بعضها بسيط، وبعضها مركب. وما يجمع بينها هو أن للنخلة، فيها، عصًا، أو عرجونًا، أو شمروخًا، أو سعفة، أو حتى جذعًا. وأحيانًا تكون النخلة برمّتها لعبة، كما في رياضة سباق التسلّق على سبيل المثال.
وقديمًا، أيّام الكتّاب، كانت بعض أجزاء النخلة حاضرة للتعليم. وفي مرحلة تعلّم القرآن الكريم كان الصغار يحتاجون إلى "خوصة" صلبة ليتتبعوا كلمات السور بواسطتها بدلًا من استخدام أصابعهم، حيث لا يُسمح لهم بمسّ كلمات المصحف مباشرة، ما لم يكونوا على طهارة. وحين كانوا ينتقلون إلى مرحلة تعلّم الكتابة؛ فإن أقلامهم "شوكة" نخيل يغمسونها في حبر من الطين. ودفاترهم "كِرْبة" عريضة.
الطفل الذي يلعب في أجواء النخلة، ويعاقب بجزء منها، ويتناول إنتاجها، لم تكن تنحصر صلته بها عبر هذه الوسائل الثلاث، فهنالك أيضًا مزيد. لا بدّ أنه سيكون فردًا من أسرة كانت تتحلّق، في كل وجبة، حول "سفرة" مصنوعة من "خوص"، هي جزءٌ من "مفروشات" المنزل المصنوعة أيام زمان من النخيل، وربما حتى الآن في حالات بعينها، ومجتمعات بدوية ريفية من دون غيرها.
كانت الأسرّة من النخيل، والكراسي، والحُصُر، و"الخصاف"، و"القفف"، و"الزنابيل"، و"السلال" لحفظ الأطعمة والأواني والملابس. وفي مطبخ المنزل كانت تحترق مخلفات النخيل وقودًا للطهي والشواء، ويصلح الليف والسعف، أيضًا، للتدفئة في مشهد شتائي كانت تجلس فيه الأسرة حول "سجْرة ضوْ" يتطاير منها الدخان.
كل شيء يشير إلى النخلة. وعلى مدى العمر هنالك نخيل، وهنالك أعمال، وهنالك احتياجات. وحين كان يُصاب المرء بجرح ما؛ فإن العلاج الشعبي كان ينثر رماد "الخوص" على جرحه لإيقاف النزيف وتعجيل الشفاء. وقد يُلزم بنثر نشارة تُستخرج من عصا منخورة. وفي حال تعرض أحدهم لكسر أو رضٍّ؛ فإن التمر المعجون بالزبدة الساخنة كان مرهمًا مسكّنًا لآلامه، وهو الدواء نفسه الذي كان يستخدمه من يعاني من آلام المفاصل.
وقد يكون من المبالغة أن نقول: إن ابن بلاد النخل كان سيحتاج إلى عصا يتوكأ عليها حين يشيخ، فعصيّ النخيل ليست نموذجًا جيدًا لهذه المَهمة.. ولكن، بالتأكيد، ستكون النخلة إلى جانب ابن الجزيرة العربية بعد أن يتوفّاه الله. ففي بعض مناطق الخليج، يُلفّ الميْت في حصيرٍ بعد تكفينه، أثناء حمله على النعش إلى قبره. وبعد أن يُسجّى الميت في القبر يُسقف بفلقٍ من جذوع النخل، ثم يُفرش عليها الحصير الذي لُفّ فيه، ثم يُهال عليه التراب، وتوضع عند رأسه وقدميه جذوع تقوم مقام الشاهد على قبره.

 
شغفٌ مقيم..
مسكونٌ بالشّغف إلى أبعد الحدود شكْلُ ارتباط العربيّ بعمّته النخلة، وعبق هذا الارتباط ومحتواه. تعلّق العربيّ (في بلاد خليجه على وجه الخصوص) بالحصان، ولكنه لم يؤنسنه، إلا في بعض شطحات شاعر. ارتبط بالنوق والبعير.. أقام حواريات صاخبة التشويق بينه وبين واحد من كواسر البريّة، ومفترسات الدروب، فعلها الصعاليك كثيرًا، وكثيرًا.. لكنها أنسنةُ اللحظات المشحونة بالقلق الوجوديّ، ولحظات الخوف، والانجراف مع تسارع النبض خلال الأنواء.. أما في حالة النخلة، فإنها أنسنة توارثها الأبناء عن الآباء. حملوها ثقافةً جمعيةً ووعيًا متجذرًا.. أسندوها بالشعر والأمثال والأفعال.. حتى في القرآن الكريم، فقد وردت النخلة زهاء 23 مرّة، وفي عشرات الأحاديث. مخاض مريم جاء تحتها، فأصلها ثابت وفرعها في السماء.
وها هو محمد علي طه (1941) الفلسطينيّ الجليليّ ابن ميعار، يؤنسنها، يراها مائلة مثل مصلوب فوق صليب (قصته "النخلة المائلة")، يبثها أحزانه وأحلامه، كيف لا وبينهما "عشرة طفولة".




يحكي لها عن كل ما مرّ به من نكبات. إنها الأرض/ النخلة الراسخة في وجدانه، تذكّره بروائح الطبيعة، وبأسماء التلال والدروب والشعاب والسبل. يراوح، عبرها، بين الماضي الجميل والحاضر الممض، فيقول: "أتذكرينني؟ أتذكرين أترابي وأخوتي ونحن ندور حولك نرقص ونغني. ونلهو نرتمي على جذعك?".
"نخلة على الجدول"، وأخرى عند ضفاف الفرات، وثالثة تنام تحت أحلام القصيم، وسابعة ينبت من عذوقها الشغفُ.. عمّاتنا النخلات.. سابحات في كوكب الضاد من الفلاة إلى الممات.. ينمنَ عندما ننام.. يقفنَ حينما نَقِفُ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.