}

الصوم: كَبْحُ جموحِ الأجساد وترويضُ الرَّغبات

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 25 مارس 2023
إناسة الصوم: كَبْحُ جموحِ الأجساد وترويضُ الرَّغبات
المسحراتية في دمشق (7/ 4/ 2022/ فرانس برس)

في بحثها المعنوَن: "تمثلات الجسد في الثقافة العربية والغربية، من الطقوس الدينية إلى الطقوس الحداثية" المنشور في العدد السادس (يونيو/ حزيران 2018) من مجلة "دفاتر البحوث العلمية"، التي تصدرها جامعة مُرسلي عبد الله الجزائرية، تعرِّف الباحثة الجزائرية وسيلة بكيس الجسد بأنه: "كل ما يشير إلى الكيان الإنساني، الذي يحتل حيزًا في الوجود وفي المكان، وهو صِفةٌ تختصُّ بالإنسان وتُمنع عن غيره".
وبحسب بكيس، يتمتّع الجسد "بوحدةٍ فيزيقيةٍ وكيانٍ مستقلٍّ عن مختلف أشكال التمثيل وسياقات التدليل التي تحفُّه". وهو، كما ترى، ليس مجرد كتلة لَحمية، ولا "كيانًا ماديًا خاويًا، ولا تواضعًا غريزيًا، إنما هو كينونة، وبنية كاملة ومتكاملة، وحدة تسِمُ الكائن البشري في الوجود وتشكّله".
الجسد "مركّبٌ تشابكيّ"، و"جهازٌ مدهشٌ" في سيرورةِ وظائفه وأعضائه وبنائه ونسقه الداخليّ والخارجيّ.
ومنذ مطالع التاريخ البشريّ المكتوب، انشغل الناس، وفق ما عكست، وتعكس، أديانهم ومعتقداتهم، بآليات ترويض الجسد، وكبح جماحه، وتقْنين رغباته داخل بوْتقة التعاليم، ومدوّنات الأخلاق، وحاكميّة القوانين.
الأديان السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وغير السماوية (البوذية والهندوسية وغيرهما)، اجترحت جميعها أشكالًا من النظر بعين الورع والترشيد لِمطالب الجسد ومنابعِ شرهِه، وأخضعته لِجملة من الممارسات. تمثلت هذه الأشكال بفرائض ومناسبات سنوية، أو شهرية، أو حتى يومية، يتحوّل الجسد خلالها إلى محورٍ جوهريٍّ من محاور الوجود، وتمظهرٍ جليٍّ لِتجليات الطاعة والانقياد.

نظرة تاريخية
الصّوم عادةٌ عَرَفَتها الحضاراتُ القديمة منذُ آلافِ السّنين، وَفريضةٌ مارَستها الشّعوب الغَابرة، لأسبابٍ دينيّة واجتماعيّة، وأيضًا لِدواعٍ صحّيةٍ واسْتِطبَابيّة. حتّى أنّنا في أقوالِنا المأثورة، نقول: (إن أوجَعك راسَك اِكرمه، وإنْ أوجَعك بطنَك اِحرمه)، فَلِكُلِّ ثقافةٍ وديانة أنَماطُها وأهدافُها الخاصّة من الصّوم، منها ما يتقاطعُ ويَتلاقى، ومنها ما يختلِف ويتوازى. ولكنَّ نمط الفعل يبقى واحدًا، ألا وهو الامتناعُ والإمساكُ عَن.
فالفراعنةُ الِمصريّون عَرفوا الصّومَ قبلَ نحوِ ثلاثةِ آلافِ عام، حتّى أنَّ كلمةَ صوم العربية اِشتُقّت مِن الكلمةِ الهيروغليفيّة "صَاوّ"، الّتي تَعني كَبَحَ، أو امْتَنَعَ عن. إذْ كانَ الفراعنةُ يَصومونَ في مواسمَ وأوقاتٍ مُعيّنة خلالَ العام، فَيَمتنعونَ عن الأكلِ والشُّربِ خلالَ النّهارِ، منَ الشّروقِ حتّى الغروب. وكانَ صومُهم بِهَدفِ التّقرُّبِ من الآلهةِ، والحصولِ على البَرَكة، وَتَطهيرًا مِنَ الْمُخالفات الْمُرتَكبَة، وتقرُّبًا من أموَاتِهم، وَحِفَاظًا على صِحّة أَجسادِهم.
ورغم عدوم وجود قواعد صوم ثابتة في الديانة الهندوسية، إلا أن الغورو (المعلمون) والرهبان الهندوس يستغرقون لأسابيع، وأحيانًا أكثر، في زهدٍ يستغنون خلاله عن كل شيء لا يحتاجونه بالضرورة للعيش.




ويفرض "السادو" على أنفسهم نمط حياة تهزل فيه أجسادهم، وتكاد تنكشف بسببه هياكلهم العظمية. يقول المهاتما غاندي، أحد أهم أنصار هذا الصوم: "لا أستطيع الاستغناء عن الصيام، كما لا أستطيع الاستغناء عن عيني. وكما تُعينني العين في رؤية العالم الخارجي، يُعينني الصيام في رؤية العالم الداخلي للبشر".
كما هي حال الهندوسية، لا توجد في البوذية قواعد صوم عامة. ويحتفل البوذيون بعيد "فيساخ" (ذكرى ميلاد بوذا) بطقوس وكرنفالات خاصة تتضمّن الصوم التأمّليّ الذي يشمل الامتناع عن شرب الكحول، وأكل اللحوم، وممارسة الجنس.

تأمُّلٌ وزُهْد
تفيد النصوص الإنجيلية أن السيد المسيح اعتكف 40 يومًا في الصحراء، حيث كان "ابن الرب" يصلّي ويصوم ويقاوم إغراءات الشيطان، قبل أن يعود إلى أتباعه قويًّا ومحصّنًا.
واليوم يواصل مسيحيو العالم شعيرة الصوم زاهدين على مدى نحو سبعة أسابيع (وأحيانًا أكثر) باللحوم على اختلاف أنواعها، واختلاف ما يُصنع من لحمها وحليبها.
فوق جباههم، يرسمون في أربعاء الرّماد صليب الرّماد، يستجْلونَ حقيقة الفَناء، ويَنشدون التكفير عن الذنوب.
تنتهي فترة الصوم المسيحيّ في أحد الفصح، اليوم الذي يتم فيه الاحتفال بقيامة السيد المسيح. والصوم لا يكون أيام الأحد. وقلّما تُتبع اليوم قواعد صارمة في الصوم، فكثير من المسيحيين يقرّرون بأنفسهم عن ماذا يتخلّون.
في سياقٍ طريفٍ متّصل، يتداول المسيحيون (خصوصًا في أوروبا) حكاية ثلاثة رهبان حملوا من بافاريا الألمانية برميل جعة مَهول، وأبحروا به إلى روما ليسألوا البابا إن كان في مقدورهم احتساء الجعّة خلال أسابيع الصوم، لكنّ الجعّة في البرميل، وبسبب مسافة السفر الطويل، كانت قد فسدت. البابا شرب جرعة من الجعّة الفاسدة، ثم سرعان ما بصقها وقال لهم: "بكل سرور، بإمكانكم شرب هذه المصيبة خلال أسابيع الصوم".

دمار الهيكل
بطقوسٍ لا تشبه طقوس الأديان الأخرى، يصوم اليهود في أوقات بعينها، ولأسبابٍ من دون غيرها. أهم أيام صومهم بحسب مواقيتهم يوم الغفران ("يوم كيبور")، حيث يعقدون في ذلك اليوم مصالحةً صارمةً مع الله، ويحشدون قرون الضياع بعيدًا عن هيكلٍ يقولون إن البابليين ومن بعدهم الرومان دمّروه.

مائدة رمضانيّة لعائلة مسلمة في مدينة روتردام بهولندا (24/4/ 2020/ Getty)


في ذلك اليوم، لا يمتنع اليهود عن الأكل والشرب فقط، إنهم يمتنعون عن كل شيءٍ بالمعنى الحرفيّ؛ اعتكافٌ داخليٌّ لا تُسمع خلال 25 ساعاته سوى أبواق سيارات الشرطة، أو الإسعاف. أمّا لماذا 25 ساعة، وليس 24، كما هو اليوم في كل بلاد الدنيا، فالجواب لديهم وحدهم.

شهر القرآن
إضافة إلى الامتناع عن الأكل والشرب (حتى شرب الماء)، وباقي المُتع الجسدية، من شروق الشمس (طلوع الفجر الصادق وخيطه الأبيض) حتى غروبها (غياب قرصها كاملًا خلف الأفق)، يكثر المسلمون من قراءة القرآن، ففي شهر رمضان أنزل القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة: آية: 185].
ورغم عمق الفكرة الثاوية خلف ترويض الجسد، وتهذيب جشع بعض مطالبه، إلا أن صيام المسلمين في رمضان يتضمّن بعض المفارقات عند بعض من ينفّذون فريضته: المبالغة في أطباق مائدة الإفطار، المبالغة بما يتبع تلك المائدة، من حلويات تبدأ بالقطايف، ولا تنتهي بمختلف أنواع الحلويات الشرقية والغربية، ومشروبات رمضانية، من تمر هندي، وعرق سوس، وخروب، وليموناده، وجلّاب الحبايب، ومختلف أنواع الكوكتيلات. وهي مفارقة تعيدنا إلى روح الفكرة وأعمق معانيها، وما تشكّله من لحظة مفصلية داخل تجليّات ثنائية الروح والجسد، وجدلية الوجدان والعرفان، وتناوبية الترويض والتدْليل (الترفيه).
المسلمون على اختلاف أعراقهم ربطوا شهر الصيام بعادات وطقوس صارت مع الأيام ماركة مسجلة لهم: الأجواء الكرنفالية للشهر الفضيل، من فوانيس، ودعوات وإفطارات جماعية، وصلاة التراويح، وصلة الرحم، وخصوصية العشر الأواخر منه، وإنجاز كعك العيد خلال أيامه المباركة. كما يزداد فيه فعل الخير، وتفقّد المحتاجين، وإطعام الجائعين. وفيه، للطرافة، يصبح حُلْم كثير من الناس عند أطراف أنوفهم، وغضبهم (غبّ الطلب)، وبدل ترويض أجسادهم وتعويدها على الزهد والصبر والرضى، تصبح تلك الأجساد طاقةً قابلةً للانفجار في أيّ لحظة، ولأتفهِ الأسباب.

روحانية ديكارت وجسدية فوكو
بين روحانية ديكارت وعقلانيته "أنا أفكّر إذًا أنا موجود"، وجسدية فوكو، جرى كثير من ماء المعارف وتقلّبات الفلسفة الإنسانية. ديكارت أصر على فصلٍ جذريٍّ بين الجسد وبين الروح (العقل)، وفق ثنائية تجعل للجسد وجودًا مستقلًا، ولكنه محقّر وتابع، بينما تُميز الروح في شكل مطلق، فهي تحت وصاية الله. إن الفكر بالنسبة لديكارت مستقلٌّ كليًّا عن الجسد، إنه يتأسس على الله أيضًا، أما الجسد فهو مهيأ للحقارة، إنه حقيقة طارئة غير جديرة بالفكر. إن الإنسان لدى ديكارت هو كيان تتجاور فيه روح لا تستمد معناها إلا من الفكر، وجسد، أو بالأحرى آلة جسدية، يمكن اختزالها في بنيتها العضوية فقط. روحانية تعيدنا إلى تعريفها الكلاسيكيّ القديم: "عملية إعادة تكوين دينية تهدف لاستعادة الهيئة الأصلية للإنسان الساعي إلى تمثّل صورة الإله وتبنّي سموّ جلاله".




من جهته، لا ينكر فوكو هذه (الأبّهة) التي تحظى بها الروح، ولكنه ينظر إليها بوصفها مع الجسد كيانًا واحدًا، مفكّكًا ثنائية ديكارت ومعريًا إياها، ذاهبًا إلى أن التمييز الديكارتي مستحيل على مستوى الواقع، تمامًا كما لا يمكن الفصل بين الزمان والمكان في الفكر الإنساني. فوكو يرى أن ذلك التمييز أفرز ثنائيات خاطئة، كالمقابلة بين المثالية والمادية، والتمييز الذي طرأ على علاقة الرجل والمرأة، والمقابلة بين حاجات الجسد وحاجات الروح، ولذلك فإنّ ما يجب القطع به أنه لا تفاضل بين الروح والجسد، فهما زوجان لا ينفصلان، وحاضران على الدوام في الفكر والممارسة والخطاب والوجدان.
وإثر تأكيده على ذلك الترابط العضوي والعليّ بين الجسد والعقل، "يضع فوكو الجسد في قلب الاهتمام، ويجعل من العقل مجرد وظيفة، فالجسد هو ما يستحق الاهتمام والرصد، حيث يجب أن يعبّر بكل حرية، وبكل تلقائية، ومن دون موانع أو قيود؛ لكي يتجلى المكبوت وتظهر الحقائق من دون زيف، لذلك كله لا يرى فوكو فائدة ترجى من تغييبه، بل يجب أن يصبح الجسد حاضرًا في اليقظة والمنام، وجذوة مستقرة في الوعي واللاوعي، كي يغيب التفكير في المكبوت والمحرّم والمقموع، فالانحراف والجريمة والجشع عناوين عريضة لتلك الأعراض المرضية، وهي خير من يكشف قيمًا ثقافية زائفة اضطهدت الجسد وكبّلته وعطّلت طاقته، ومارست عليه الحجر؛ لذلك يرى أنه من اللازم إعادة الاعتبار للجسد عبر الكشف عن المسكوت عنه، فالجسد له فكره، والفكر له جسده، ومن لا جسد له، لا فكر له، لأن الجسد حضور ووعي بالكينونة، وبالتالي هو والروح صنوان لا ينفصمان، إذ لا توجد ذات متعالية فوق الجسد، فهو المأوى والمثوى. ليس هذا فقط، بل إن فوكو يؤكد أن تحقير الجسد، وإنكاره وتغييبه بمثابة حرب مدمرة للروح أيضًا، لذلك فإن حق الجسد في الوجود علامة أولى لوجود الروح وسعادتها، ومن ثم يصبح الجسد والاحتفاء به عند فوكو كناية عن الوجود، وبالتالي فالاحتفاء بالجسد مجرّد حق تم إرجاعه لنصابه بعد أن تم تغييبه طويلًا" (حسني إبراهيم عبد العظيم، "الجسد المقموع: قراءة في فلسفة ميشيل فوكو"، موقع دار نشر المعنى، 2019).
بالعودة إلى موضوع الصوم، وفي سياق ربط الجدل الفلسفي أعلاه بفكرة ترويض الجسد، فإن الصيام هو، بالضرورة، فعل كلّيّ التوجّه، شموليّ المعاني، فنحن لا نترك أجسادنا تصوم في حين ترتكب أرواحنا، أو ضمائرنا، احتلامات الرذيلة على سبيل المثال. ولا نجوع (ظانّين أن جوعَنا صيام)، ثم نجوب آفاق النميمة، أو نكمل تبادل المدافع مع بلد شقيق، أو نضطهد امرأة، أو نروّع طفلًا، أو نظلم أهلًا، أو نستبيح عِرضًا.
الصوم هو تجلّيات المعالي كلّها، وجوه النُّبل جميعها، أرقى مرتقيات الترفّع، أجمل لوحات السلام الداخليّ وأندى ألوان الانضباط الانعكاسيّ.
الصوم أن يصير وعاء الجسد نحيلًا، فالعشق، كما الشوق، حيث النُّحول (يقول المتنبي: تَشتَكي ما اشتكَيتُ مِن ألمِ الشّوْقِ إلَيها وَالشّوْقُ حَيثُ النُّحولُ/ وَإِذا العَذلُ في النَدا زارَ سَمعًا فَفِداهُ العَذولُ وَالمَعذولُ)... أن يبني الناس بينهم جسرًا من المحبة... ويعيدون قراءة الأرض حولهم، وفقَ سرديّةِ التوازن الأخّاذ، والتَّعَقْلُن المُنْتِج.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.