}

حمامات إسطنبول التاريخية: عراقة تتجدّد وتقاليد تقاوم الزمن

16 نوفمبر 2024
أمكنة حمامات إسطنبول التاريخية: عراقة تتجدّد وتقاليد تقاوم الزمن
يسعى الأتراك جاهدين للحفاظ على تراث الحمامات (Getty)
تشهد مدينة إسطنبول حركة واسعة لإحياء حماماتها التقليدية العريقة، التي كانت على مدى قرون طويلة تمثل محورًا أساسيًا في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع العثماني. وقد تجلى هذا الاهتمام مؤخرًا في إعادة افتتاح حمام زيريك سينيلي التاريخي، الذي يعود تاريخه إلى 500 عام، بعد عملية ترميم شاقة ودقيقة استمرت 13 عامًا، كشفت عن كنوز معمارية وتاريخية مذهلة تعكس عظمة العمارة العثمانية.
ويحمل هذا الصرح المعماري الفريد، الذي أبدعه المعماري العثماني الشهير سنان في عهد السلطان سليمان القانوني، قصة استثنائية في كل ركن من أركانه. فقد كشفت أعمال الترميم، التي وصفتها مديرة المتحف بيريل غور تانييلي بأنها أشبه بعمليات التنقيب الأثري، عن اكتشاف نحو 3000 قطعة من البلاط النادر، الذي صُنع خصيصًا للحمام في مدينة إزنيك الشهيرة بصناعة السيراميك. وأوضحت تانييلي أن هذا الاكتشاف المذهل قدم تفسيرًا واضحًا لتسمية الحمام بـ"سينيلي"، أي المغطى بالبلاط، مشيرة إلى أن هذا التصميم الداخلي الفريد لم يكن له مثيل في أي حمام آخر.
وكشفت عمليات الترميم أيضًا عن وجود العديد من خزانات المياه البيزنطية تحت الحمام، حيث يُعتقد أن المهندس المعماري سنان استغل هذه الخزانات بذكاء كأساس للبناء ومصدر للمياه. ورغم أن معظم البلاط الأصلي قد تضرّر بسبب الحرائق والزلازل، أو بيع لتجار التحف الأوروبيين في القرن التاسع عشر، إلا أن بعضه لا يزال محافظًا على رونقه حتى اليوم.
وتمثل الحمامات العثمانية أكثر من مجرد مكان للاغتسال، فقد كانت مركزًا اجتماعيًا نابضًا بالحياة، وهو ما عكسته الأفلام التركية القديمة التي صورتها كفضاءات حرة تجتمع فيها النساء للتواصل وتناول الطعام والشراب والرقص. وفي أروقتها، كانت تُقام احتفالات المواليد والزفاف وطقوس الختان للصبية، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي للمدينة.




ويروي عالم الآثار غورول تالي كيف امتدت ثقافة الحمامات من الحضارة الرومانية، حيث كان التجار يغتسلون قبل دخول المدينة، إلى العصر العثماني الذي شهد ازدهارًا غير مسبوق لهذه المؤسسات. وقد ارتبطت طقوس الاستحمام آنذاك بمفاهيم النظافة الجسدية والطهارة الروحية في الإسلام، وكانت ضرورة حتمية في ظل غياب المياه الجارية في المنازل. وتكشف إحصائيات عام 1638 عن وجود 14,536 حمامًا عامًا وخاصًا في إسطنبول وحدها، مما يعكس أهميتها الكبيرة في الحياة اليومية.
وفي العصر الحالي، يسعى الأتراك جاهدين للحفاظ على هذا التراث الثقافي الثمين. ويقول ظافر أكغول، أحد رواد الحمامات التقليدية، الذي يحرص على زيارتها خاصة خلال الأعياد الدينية وحفلات الزفاف: "نأتي إلى هنا لنتطهر ونغادر وسيمين، ولا نريد أن يموت هذا التقليد". وتشاركه الرأي مانوليا غوكغوز، التي تدير حمام جمبرليتاس التاريخي، وتحمل ذكريات طفولتها عندما كانت تقضي أيامها في الحمام مع جدتها التي عملت "ناظرة" للنساء.
ويشهد حمام جمبرليتاس، الذي بناه سنان في القرن السادس عشر، إقبالًا كبيرًا من المشاهير الأتراك والعالميين، وكان آخرهم الممثل الإسباني بيدرو ألونسو، نجم مسلسل "كاسا دي بابيل" الشهير على نتفليكس، الذي زار المكان في أيلول/ سبتمبر الماضي. ورغم أن 70% من رواد الحمام اليوم من السياح الأجانب، مقابل 30% من السكان المحليين، إلا أن غوكغوز تؤكد أن "الحمام ليس رفاهية، بل حاجة"، مشيرة إلى تغير نمط الحياة الذي أثر على هذا التقليد العريق.
وتتواصل جهود الترميم والحفاظ على الحمامات التاريخية في إسطنبول، حيث أعيد افتتاح حمام بايزيد الثاني كمتحف في عام 2015 بعد سنوات من الترميم. ويحمل هذا الحمام، الذي كان من أكبر حمامات المدينة، قصصًا تاريخية مثيرة، من بينها دوره في انتفاضة عام 1730 التي أطاحت بالسلطان أحمد الثالث، والتي يُعتقد أن خادم الحمام خليل كان محركها الرئيسي.
وتتراوح تكلفة تجربة الحمام الكاملة اليوم، والتي تشمل الاسترخاء في حمامات بدرجات حرارة مختلفة مع خدمات إضافية مثل التدليك، حوالي 100 دولار للخدمة الأساسية. ويرى المؤرخون والخبراء أن ترميم الحمامات التاريخية في إسطنبول واستثمارها يمثل أفضل وسيلة لنقل هذا التراث الثقافي الفريد إلى الأجيال القادمة، والحفاظ على تقليد عمره مئات السنين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.