}

هل يصحّ التسامح من دون عدالة انتقالية؟

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 16 نوفمبر 2024
اجتماع هل يصحّ التسامح من دون عدالة انتقالية؟
(Getty)

أمام هذا الواقع الموّار بالقتل والتدمير والتهجير بحقّ شعوبنا ومدننا وقرانا بكلّ صلف وعنجهيّة ووحشيّة، على مرأى المجتمع الدولي، والذي صار يتسلّل إلى لا وعينا ويحاصرنا بكوابيس النوم واليقظة، وأمام هذا الانشغال العالمي بالانتخابات الأميركيّة وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركيّة ما جعل العالم كلّه يقف على أعصابه بانتظار مفاجآته، وهو الرجل الذي لا يمكن التنبّؤ بما يفكّر وما سيفعل، ينهض في بالي مفهوم التسامح، باعتبار أنّ الهيئة العامّة للأمم المتّحدة رصدت له يوم السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، للاحتفال به وترسيخه.
نحن سكّان العالم الفقير الضعيف المستباح من الداخل والخارج، لا يحقّ لنا التفكير بالتسامح، التسامح مفهوم وفكرة اشتغل عليه العالم القوي ليكون إحدى أدوات القوي وليس الضعيف، التسامح هو ساحة لعب الأقوياء وليس الضعفاء، من يملك القوّة يستطيع أن يقول "أتسامح"، وأن يدعو إلى تطبيق هذه الفكرة، سوف يتسامح مع الضعيف المختلف عنه، فالتسامح هو أوّلًا وقبل كلّ شيء، لم يعد يعني أنّه قيمة أخلاقيّة، فضيلة، بل مفهوم سياسي ناشئ في السياق الأوروبي التاريخي للعلمنة في أعقاب الحروب الدينيّة، حيث يتعلّق الأمر بإعادة التفكير في شروط التعايش السلمي بين المجتمعات الدينيّة داخل نفس الفضاء الاجتماعي، مع التمسّك في الوقت نفسه بمبادئ الليبراليّة الوليدة المنظّمة حول التمييز المركزي المتزايد بين الفضاء العام والخاص.
ألا يوفّر تاريخ أوروبا الحديث الإطار الرئيس لتوضيح ظهور مفهوم التسامح وإشكاليّته؟ إنّ ظهور الليبراليّة جعل التسامح ضرورة مؤسّسيّة: "لم يعد مجرّد شرط لاحترام بعضنا بعضًا، بل أصبح التزامًا مؤسّسيًّا، يحدّد مجتمعًا عادلًا، أي مجتمعًا يحترم مجموعة معيّنة من الحقوق الفرديّة". كما يقول إيف تشارلز زاركا، (م:1950)، وهو فيلسوف وأستاذ فخري في جامعة باريس، ويقول أيضًا: "إنّ توسيع المثل الأعلى للتسامح، الذي يتجاوز حدود المعتقدات الدينيّة ويؤثّر الآن على جميع الاختلافات في الثقافة والهويّة، يتطلّب إعادة التفكير في المفهوم من حيث المثل الأعلى للمجتمع العالمي. ولأنّ هذا المثل الأعلى هو أوّلًا وقبل كلّ شيء الاعتراف بالآخر، فإنّه يشكّل قيمة متطوّرة: يجب على كلّ عصر أن يتناوله مرّة أخرى من أجل التغلّب على توازن القوى والحرب".

دمّرت قوات الاحتلال أكثر من ثلث غزة (Getty)


المجتمع العالمي، والاعتراف بالآخر! يبدو كلامًا برّاقًا يدغدغ مشاعر الشعوب المضطهدة، مستباحة الكيان والحاضر والحقوق، والمستبعدة من خارطة العالم المستقبلي، وإلّا كيف تتعرّض غزّة للإبادة على مرأى العالم منذ أكثر من عام، وتعاد العمليّة بالوحشيّة نفسها مع لبنان اليوم؟ كيف تدار الصراعات في بلداننا منذ عقود، في العراق، في ليبيا، في سورية، في اليمن، في السودان؟ أم إنّنا لا ننتمي إلى المجتمع العالمي، ولسنا مرشّحين للاعتراف بنا؟
مرهونة للشاشات، غارقة في طوفان الأخبار والتحليلات والآراء، والآراء المضادّة، ألهث وراء وميض خلف الخطابات والتصريحات، أكابر وأقاوم فكرة تستبيحني، فكرة أنّ أميركا هي أميركا، لن تغيّر شيئًا في واقعي وواقع المنطقة التي أنحدر منها، أميركا الديمقراطيّين أنجزت ما أنجزت من دمار بلادي، من تهجير شعبها، من تدمير مدنها، وأميركا الجمهوريّين لم تحد عن هذا المسار، هي ماضية في دعمها المطلق إسرائيل، وعدم الاكتراث بنا شعوبًا تنتمي إلى "المجتمع العالمي"، الفرق أنّ الجمهوريّين يصرّحون بوضوح كما ترامب الفائز، الذي لا يرضى بالهزيمة، الذي توعّد في الانتخابات الماضية أنّه عائد، وها هو يعود، بخطابه الكاره للآخر الذي لا ينتمي إلى قائمة معاييره للإنسانيّة والشعوب. ترامب، ومن خلفه "المجتمع العميق والدولة العميقة" في أميركا، يضع معايير التسامح الخاصّة بمصالحهم وتوجّهاتهم وفلسفتهم الذرائعيّة.





ربّما اليوم هو أكثر مرحلة يمكن عدّ العالم فيه مجتمعًا كبيرًا، على الرغم من الفروقات في الهيمنة والمقدرة والقوّة الفاعلة والتأثير، إنّما كلّ العالم بات مفتوحًا بعضه على الآخر، ومتكاملًا من حيث المنفعة وتبادلها، على الرغم من تعدّد الطرائق، إذ حتى البلدان القويّة والمهيمنة هي بحاجة إلى البلدان الضعيفة، من هذا المنطلق يمكن السؤال عن معنى "العدالة" ومعنى المجتمع العادل، فبحسب "نظريّة العدالة" يقول الفيلسوف الأميركي جون راولز: إنّ التسامح فضيلة ضروريّة لإقامة مجتمع عادل. لكن هل تتحقّق هذه النظريّة في المجتمعات القويّة نفسها، حتى ننتظر تحقيقها في المجتمع العالمي؟ وهل تمنحنا أنظمة تلك الدول حقّ "التسامح المتبادل"، أي أن "نتسامح" معها؟ من المؤكّد أنّها لن تفعل، فهي استنادًا إلى قوّتها لا تتسامح حتى في إمكانيّة الاستفادة من المنصّات والهيئات الأمميّة في سبيل الوصول إلى رفع الظلم عنّا، فتلجأ إلى استخدام حقّها في نقض القوانين والقرارات الدوليّة ومنع الإنصاف عنّا، وبالتالي فهي غير متسامحة معنا، لا تعترف بحقوقنا مجتمعة، إلا في أن نكون مرتبطين بعجلتها ومصالحها وسياساتها، وساحة لصراعاتها فيما بينها.
هل صحيح ما قاله الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان بأنّ التسامح باختصار هو "تلك الفضيلة التي تجعل السلام ممكنًا"؟ إنّه السلام بمعايير الدول القويّة، وعلى رأسها أميركا، السلام الذي على الشعوب أن تقبله وتذعن لما تمليه، لذلك فلها أن تتشدّق بالقيم الإنسانيّة ومنها التسامح فضيلة أخلاقيّة تمنّ بها على الشعوب. علمًا بأنّ إعلان مبادئ اليونسكو لعام 1995 بشأن التسامح يقول في نصّه إنّ "التسامح هو احترام وقبول وتقدير التنوّع الغني لثقافات عالمنا وأشكال تعبيرنا وطرق أن نكون بشريّين".
فهل سكّان غزّة ليسوا بشريّين ولذلك تدعم أميركا إسرائيل عسكريًّا وماديًّا وسياسيًّا؟ ولبنان، لا يهمّ إن كان ذا سيادة، أمام تدمير قراه وبلداته وقتل الآلاف من شعبه؟ وسورية التي تدمّرت وتقسّمت وهُجِّر نصف شعبها، وقادت أميركا تحالفًا دوليًّا، تحت شعار القضاء على تنظيم "داعش"، من الطبيعي أن تتركها مسرحًا لكلّ الأطراف تستبيحها وتقتل شعبها، بينما اللعبة السياسيّة أبعد مدى، فلا يهمّ فيها كم سيُقتل ويُهدر من أبناء هذا الشعب، ما دام أنّ أميركا وإسرائيل وحدة عضويّة تديران "التسامح" على هواهما؟

لن يكون هناك سلام عالمي قائم على "فضيلة التسامح" ما دامت العدالة مفقودة (Getty)


لن يكون هناك سلام عالمي قائم على "فضيلة التسامح" ما دامت العدالة مفقودة، إن كان في المجتمعات المحلّيّة، أم في المجتمع العالمي، وهذه الحروب التي تجعل مناطق عديدة من الكوكب مرهونة للصراعات والمشاكل والفقر والإقصاء عن أسباب امتلاك أدوات التنمية والنهوض، سوف تبقي فكرة التسامح شعارًا وهدفًا عالميًّا من الناحية النظريّة، تخصّص له الأمم المتّحدة يومًا للاحتفال به، ما دام أنّه قيمة عليا في يد القوى الكبرى، تمنّ بواسطتها على الشعوب الضعيفة بلائحة منقوصة من الحقوق الإنسانيّة، بل إنّ كلمة تسامح وما حمّلتها البشريّة من مفهومات، خاصّة بعدما صارت في العصر الحديث مفهومًا سياسيًّا، تستبطن نوعًا من الفوقيّة والاستعلاء، إن كان على المستوى الفردي أو على المستوى الجمعي أو حتى على مستوى العالم، في علاقات الدول والشعوب فيما بينها، صارت بحاجة إلى تعديل، أو بحاجة إلى أن توضع على رفوف معاجم اللغة كالمفردات التي تجاوزها العصر.
وما دام الحديث يستهدف مفهوم العدالة، فهل هناك قيمة للتسامح، أو إمكانيّة ممارسته من دون تحقيق العدالة الانتقاليّة التي تنصف الضحيّة وتركّز حول وعيها بذاتها؟ ما زال الكلام يتناول العدالة والتسامح في "المجتمع العالمي" ما دام أنّ منظّمة اليونسكو تحيي اليوم الدولي للتسامح، ما يستدعي طرح المفهوم على طاولة البحث والكشف عن مدى تعويمه بعيدًا من واقع البشريّة اليوم، أمّا مجتمعاتنا المحلّيّة فلها حديث آخر في ما يتعلّق بهذه المفاهيم.




فحتى يكون هناك عدل ومساواة بين البشر على مستوى العالم في ممارسة التسامح، لا بدّ من تحقيق الهدف الرئيس للعدالة بشكل عام، وللعدالة الانتقاليّة على وجه الخصوص بوضع حدّ لثقافة الإفلات من العقاب، كما تفعل إسرائيل منذ إعلانها إلى اليوم وتفلت دائمًا من العقاب، وإرساء مقوّمات هذه العدالة التي تقوم على أسس رئيسة منها وقف انتهاكات حقوق الإنسان التي لا تزال مستمرّة في قطاع غزّة وفي الضفّة وفي لبنان اليوم في أعتى صورها، والتحقيق في الجرائم المرتكبة في الماضي، وما زالت ترتكب يوميًّا، وتحديد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، ومعاقبتهم، وتقديم تعويضات للضحايا، ومنع المزيد من الانتهاكات، ثمّ وضع أسس راسخة لتعزيز السلام الذي لا يمكن الحفاظ عليه من دون تحقّق ما سبق.
مع هذه الشروط، وفي حال تمّ تحقيقها يمكن القول إنّ الضحيّة يمكنها أن تقبل فكرة التسامح، وينتقل التسامح كمفهوم وتطبيق من خانة حكم القيمة الذي يفرّق على أساس القوّة والاستعلاء، إلى أن يكون أحد ركائز العدل ما دام أنّه يساوي بين البشر، هذا ما يمكن عدّه خطوة أولى في طريق الوصول إلى الديمقراطيّة الحقيقيّة، ليس ضمن الدولة الواحدة فحسب، إنّما بين الشعوب، حينها تحلّ الضوابط التي تضعها الشعوب لإدارة حياتها محلّ فكرة التسامح، تُسَنّ القوانين التي تحمي المساواة والعدالة من دون أيّ تمييز، فلا يبقى مكان لفكرة التسامح بكلّ حمولاتها، الأخلاقيّة والدينيّة والسياسيّة.
في انتظار هذه العدالة المرتجاة، ستبقى الحروب مشتعلة، وستزداد كوابيسي وكوابيس غيري على هذا الكوكب، ولن يمهلنا ما بقي من العمر كي نرى عالمًا آخر، عالم الأحلام التي شغلت نومنا ويقظتنا في يوم ما، لقد خذلتنا كلّ الأيديولوجيّات والعقائد، فلا الأيديولوجيّات جلبت معها العدالة إلى حياتنا، ومعها السكينة لأرواحنا، ولا العقائد التي وعدتنا بعدالة السماء استطاعت أن تحقّق العدالة على الأرض، مهما نادت بفضيلة التسامح.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.