أمام هذا الواقع الموّار بالقتل والتدمير والتهجير بحقّ شعوبنا ومدننا وقرانا بكلّ صلف وعنجهيّة ووحشيّة، على مرأى المجتمع الدولي، والذي صار يتسلّل إلى لا وعينا ويحاصرنا بكوابيس النوم واليقظة، وأمام هذا الانشغال العالمي بالانتخابات الأميركيّة وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركيّة ما جعل العالم كلّه يقف على أعصابه بانتظار مفاجآته، وهو الرجل الذي لا يمكن التنبّؤ بما يفكّر وما سيفعل، ينهض في بالي مفهوم التسامح، باعتبار أنّ الهيئة العامّة للأمم المتّحدة رصدت له يوم السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، للاحتفال به وترسيخه.
نحن سكّان العالم الفقير الضعيف المستباح من الداخل والخارج، لا يحقّ لنا التفكير بالتسامح، التسامح مفهوم وفكرة اشتغل عليه العالم القوي ليكون إحدى أدوات القوي وليس الضعيف، التسامح هو ساحة لعب الأقوياء وليس الضعفاء، من يملك القوّة يستطيع أن يقول "أتسامح"، وأن يدعو إلى تطبيق هذه الفكرة، سوف يتسامح مع الضعيف المختلف عنه، فالتسامح هو أوّلًا وقبل كلّ شيء، لم يعد يعني أنّه قيمة أخلاقيّة، فضيلة، بل مفهوم سياسي ناشئ في السياق الأوروبي التاريخي للعلمنة في أعقاب الحروب الدينيّة، حيث يتعلّق الأمر بإعادة التفكير في شروط التعايش السلمي بين المجتمعات الدينيّة داخل نفس الفضاء الاجتماعي، مع التمسّك في الوقت نفسه بمبادئ الليبراليّة الوليدة المنظّمة حول التمييز المركزي المتزايد بين الفضاء العام والخاص.
ألا يوفّر تاريخ أوروبا الحديث الإطار الرئيس لتوضيح ظهور مفهوم التسامح وإشكاليّته؟ إنّ ظهور الليبراليّة جعل التسامح ضرورة مؤسّسيّة: "لم يعد مجرّد شرط لاحترام بعضنا بعضًا، بل أصبح التزامًا مؤسّسيًّا، يحدّد مجتمعًا عادلًا، أي مجتمعًا يحترم مجموعة معيّنة من الحقوق الفرديّة". كما يقول إيف تشارلز زاركا، (م:1950)، وهو فيلسوف وأستاذ فخري في جامعة باريس، ويقول أيضًا: "إنّ توسيع المثل الأعلى للتسامح، الذي يتجاوز حدود المعتقدات الدينيّة ويؤثّر الآن على جميع الاختلافات في الثقافة والهويّة، يتطلّب إعادة التفكير في المفهوم من حيث المثل الأعلى للمجتمع العالمي. ولأنّ هذا المثل الأعلى هو أوّلًا وقبل كلّ شيء الاعتراف بالآخر، فإنّه يشكّل قيمة متطوّرة: يجب على كلّ عصر أن يتناوله مرّة أخرى من أجل التغلّب على توازن القوى والحرب".
المجتمع العالمي، والاعتراف بالآخر! يبدو كلامًا برّاقًا يدغدغ مشاعر الشعوب المضطهدة، مستباحة الكيان والحاضر والحقوق، والمستبعدة من خارطة العالم المستقبلي، وإلّا كيف تتعرّض غزّة للإبادة على مرأى العالم منذ أكثر من عام، وتعاد العمليّة بالوحشيّة نفسها مع لبنان اليوم؟ كيف تدار الصراعات في بلداننا منذ عقود، في العراق، في ليبيا، في سورية، في اليمن، في السودان؟ أم إنّنا لا ننتمي إلى المجتمع العالمي، ولسنا مرشّحين للاعتراف بنا؟
مرهونة للشاشات، غارقة في طوفان الأخبار والتحليلات والآراء، والآراء المضادّة، ألهث وراء وميض خلف الخطابات والتصريحات، أكابر وأقاوم فكرة تستبيحني، فكرة أنّ أميركا هي أميركا، لن تغيّر شيئًا في واقعي وواقع المنطقة التي أنحدر منها، أميركا الديمقراطيّين أنجزت ما أنجزت من دمار بلادي، من تهجير شعبها، من تدمير مدنها، وأميركا الجمهوريّين لم تحد عن هذا المسار، هي ماضية في دعمها المطلق إسرائيل، وعدم الاكتراث بنا شعوبًا تنتمي إلى "المجتمع العالمي"، الفرق أنّ الجمهوريّين يصرّحون بوضوح كما ترامب الفائز، الذي لا يرضى بالهزيمة، الذي توعّد في الانتخابات الماضية أنّه عائد، وها هو يعود، بخطابه الكاره للآخر الذي لا ينتمي إلى قائمة معاييره للإنسانيّة والشعوب. ترامب، ومن خلفه "المجتمع العميق والدولة العميقة" في أميركا، يضع معايير التسامح الخاصّة بمصالحهم وتوجّهاتهم وفلسفتهم الذرائعيّة.