احتاج البعد الأيقونيّ لصورةٍ بعينها إلى 64 عامًا ليستعيد وهجه من جديد، عندما تحوّلت صورة الثائر الفلسطيني يحيى السنوار وهو يرمي، قبيل استشهاده، وفي لحظاته الأخيرة، ورمقه الأخير قبل مرتقى الأنفاس، طائرة مسيّرة بعصا كانت في يده السليمة، إلى أيقونة كبرى، سيكون لها شأنها في لاحق الأيام والليالي والميادين.
بين عصا السنوار ووجه جيفارا قصص وحكايات وثورات ومفردات صراع لا ينتهي بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الظالمين والمظلومين، الكادحين والإمبرياليين الجشعين سارقي السردية وأعداء الإنسانية ومزوّري التاريخ. بين أصحاب الأرض ولصوصها.
إنه تأمّل في أيقونات الناس ودلالات الصورة.
عصا السنوار
بحسب الموقع الإلكتروني لِقناة "العالم" الإيرانية في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، فإن عبارة "رميته بعصا السنوار" دخلت موسوعة الأمثال الشعبية العربية الحديثة. وترى الصحيفة في المقال الذي حمل عنوان "عصا السنوار تدخل موسوعة الأمثال الشعبية العربية الحديثة" أن العبارة تحمل دلالات كثيرة ومثيرة، من بينها أنّ الإنسان "حاول بكل ما يستطيع وبذل كل جهده ولم يبق معه إلا عصًا، فرمى بها".
أما الإعلامي المصري أسامة جاويش، فيكاد في مقاله "كرسي وعصا ولثام... يحيا هازم الأنظمة والإعلام" الذي نشره له في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، موقع "عربي 21"، يجزم بأن عبارة "ألقيت عليه عصا السنوار" سوف "تعتمد في معاجم اللغة العربية، ستدرسها المدارس، ويعلّمها المعلّمون لطلابهم، ستظهر في صدر كل قصيدة، ستتحول إلى لغة دارجة في كل بلد عربي، يستدل بها الناس على تمام السعي، ودوام البذل، واستفراغ الجهد في أي مسألة وكل مسألة". وأنها، من دون أدنى شك، سوف "تدخل في قوانين الفيزياء والكيمياء، فهي معامل قوة، وذراع رافعة، وعنصر تحوّل في كل معادلة، ستدخل في أسس تربية الأبناء، فإن أرادت أم أن تربي ابنها على مفاهيم الاجتهاد والسعي والبذل والأخذ بالأسباب والمثابرة والمواظبة فلن تحتاج أن تحكي قصصًا من هنا أو هناك، يكفيها أن تسأل ابنها سؤالًا واحدًا: هل ألقيت عصا السنوار في هذه المسألة؟". جاويش لا يكتفي بالإسهاب حول عصا السنوار، بل يبحر في وصف كرسيّه وجلوسه الأخير فوقه: "تحوّل كرسي السنوار إلى أيقونة فلسطينية، الأطفال في شوارع غزة يجلسون نفس جلسته، يقلّدون حركاته، يستلهمون روحه المناضلة، ويوجهون رسالة للعالم أجمع وفي القلب منه الكيان الصهيوني أنهم باقون على عهد السنوار". من جهته يقول الطبيب والمعارض المصري عبد الحليم قنديل: "أحيا يحيى السنوار الحق الفلسطيني بحضوره العاصف، ويحيي المقاومة الفلسطينية بغيابه الملهم، ويرمي بعصاه التي تلقف ثعابين الصهاينة و(الروم)".
المفارقة أن الفيديو الذي يصوّر السنوار وهو يلقي بعصاه، هو من عنديّات المسيّرة التي كانت تلاحقه وتريد أن تحدد إحداثيات موقعه القتاليّ وتُعين الجبناء بإجاباتٍ مسعفةٍ حول إمكانية التقدّم نحوه، فإذا بالعصا في يد صاحبها تحمل قدرات خارقة منها، كما يقول الباحث والمترجم عبد القدوس الهاشمي، "تسخير عدوّه له في توثيق لقطته الأخيرة لينقل إلى العالم مشهد خروجه المسرحي".
والحقيقة أن المشهد من النوع الذي لا يمكن أن يُنسى، بل هو من النوع الذي يرسخ في الذاكرة والوجدان، وفي مختلف تفاصيله شحنات تحفيز جليّة البيان تطلق للمخيال الشعبيّ العنان. كيف لا وفي الدقيقة لا أكثر التي يتحقق خلالها المشهد من ألفه إلى معارجه، تشتعل الاحتمالات جميعها: كم قاتل إلى أن أصيب وولج هذا البيت في رفح مصابًا عنيدًا جلودًا، وهو الذي أكد طبيب تشريح منهم أنه لم يأكل لمدة ثلاثة أيام قبل نزاله الأخير؟ أين راح رصاصه جميعه؟ هل أثخن به خرافاتهم قبل أن يثخن رؤوسهم؟ هل انهزموا على كثرتهم وعدتهم وعتادهم، وانتصر رغم وحدته ونحوله وتكاثر الأعداء حوله؟ نعم انتصر، وهي ليست المرّة الأولى التي ينتصر فيها؛ انتصر يوم هزمهم وهو في سجنه، ويوم عانق الحرية مرفوع الرأس عاقدًا العزم على مواصلة النضال والجهاد والمقاومة إلى أن تتحرر فلسطين... كل فلسطين... وانتصر يوم تعملق رغم أقسى حصار عرفته البشرية منذ خرج أهلوها من كهوف الصيد الأولى، فقهرهم في عدم تطابق الصورة التي أرادوا تكريسها حوله يختبئ داخل أحد الأنفاق، يحتمي بعدد من أسراهم، يرتديّ زيّ النساء، والفجيعة أنها سرديّةٌ كرّرتها وراءهم أبواق تنطق بضادِنا ولكن من دون فصاحة أعرافنا.
عصا السنوار طهّرت الشِّعر من رجس المجاز الموارِب، فها هي الديبلوماسية القطرية لولوة الخاطر تنشد لعيون تلك اللحظة شعرًا نقيّ التباريح عذب المقاصد:
"يا سيدي هذه عصاك فألقِها... لنبوءةٍ ما ساقها جبريلُ
بل إنها قبسٌ من النار التي... باتت من الجسد الطهور تسيلُ
أَخرج ذراعك من رماد هواننا... بيضاء يُعشبُ فوقها إكليلُ
يا أم موسى لا تخافي ألقِه... فالنصر فرعون يضم ونيلُ
سيشب فيهم ألف طفل ثائر... والثأر بين الأقربين طويلُ
ما ضرّك الأعداء لكن طعنة... في الظهر سددها لهم قابيلُ
ألقِ العصا كي تلقف العار الذي... ما زال جيل يحتسيه وجيلُ
والسامريّ على المنابر يرتقي... وله تهلل مرجف وذليلُ
هارون يا وجع الأخوة كيف لي... أن أفهم التقصير؟ قال يطولُ
قم ألق بالألواح واذبح عجلهم... وأقم صلاة التيه ثم رحيلُ
لا خِضرَ في الأعراب يُرجى... أو فتىً فاضرب فأنت النص والتأويلُ
واترك إذا حضر الغياب كواكبًا... ما ظل منها للنوى قنديلُ
سيكون صمت ثم "يـحـيـى" ثانيًا... والصـوم آية صدقهِ ونخيلُ
هزّته مريم كي يُساقط زيفنا... ويقوم من تحت الركام رسولُ".
وها هو الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي يقلّب وجوه اللحظة الباقية:
"مسيّرة في شرفة البيت صادفت... جريحًا وحيدًا يكتسي شطره دما
قد انقطعت يمناه وارتض رأسه... فشد ضمادًا دونَه وتعمّما
وأمسكَ باليسرى عصا كي يردّها... فكانت ذبابًا كلما ذب حوّما
وما أُرسِلت إلا لأن كتيبة من الجند... خافت نصف بيت مهدّما
وقد وجدوه جالسًا في انتظارهم أظنه... ومن تأخيرهم متبرّما
ولو صوّرتْ تحت اللثام لصوّرتْ... فتى ساخرًا رد العبوس تبسّما
تلثّم كي لا يعرفوه لأنهم... إذا عرفوه فضّلوا الأسر ربّما
ولو أسروه قايضوه بعمره... لذاك رأى خوض المنيّةِ أحزما
فلم يتلثّم كي يصون حياته... ولكن لزهد في الحياة تلثّما
فقل في قناع لم يلث لسلامة... ولكن شعارًا في الحروب ومعْلما
وقل في جموع أحجمت خوف واحد... وفي جالس نحو المشاة تقدّما
أتى كل شيء كي يسوء عدوّه... ولم يأت شيئًا في الحياة ليسلما
رمى بالعصى جيش العدو وصية... لمن عنده غير العصيِّ وما رمى
رمى بالعصى لم يبق في اليد غيرها... ومن في يديه العسكر المجر أحجما
غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها... لكل فتى يحمي سواه وما احتمى
جلوسًا على الكرسيّ مثل خليفة... يبايعه أهلوه في الأرض والسّما
فذلك عرش يرتضيه ذوو النهى... وذاك إمام قبلةِ السعدِ يمّمى".
يقف أمام الميكروفون ويقول لهم إنني أتحداكم... يعلن الحرب عليهم ثم يواصل مع رجال الله في الميدان تحديهم لأزيد من عام في قطاع محاصر كأنه القفص الكبير... يصول في أرضه ويجول وفي كل مترٍ من تلك الصلالة والجلالة يتحداهم... لا يسير من دون أن يتأبّط كل شرٍّ ضدهم... ولا يستشهد إلا وقد أودعنا معنى لا يموت ولا ينتهي بالتقادم...
يلقي بعصاه فإذا به يذكّرنا بكلِّ العصيّ على مرّ التاريخ كلّه، من عصا آدم التي قطعها من أشجار الجنة وحملها معه حين نزوله أرض التجربة لتذكّره بمنزلهِ الأول، ومعادِهِ الأخير. إلى عصا يعقوب (عصا الزيادة)، وموسى التي تَلْقَفُ ما يأفِكون {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (سورة الأعراف، الآية 117)، وسليمان (عصا الكشف)، وعصا قس بن ساعدة الإيادي (ت نحو 600م/23 ق.هـ)، وعصا عمر وصحابةٍ وتابعين وصادقين ورعاةٍ كثر، وصولًا إلى العصا السنواريّة التي هضمت كل تاريخ العصيّ قبلها لتقول ما عجزت عنه جيوشٌ وجحافلُ وعروضٌ وخطاباتُ عروشٍ وملياراتُ إنفاق عسكريّ!
يسأل عبد القدوس الهاشميّ في المقال الذي نشره له موقع "الجزيرة" الإلكتروني بتاريخ 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، تحت عنوان "المتخصّرون موجز تاريخ عصا السنوار": "هل بلغ به حب فلسطين أن يفكر في زرع شجرة زيتون في الجنّة، فحمل معه عصا من أشجارها؟".
صور جيفارا
ثلاث صور تسابقت على تكريس أيقونيّة تشي جيفارا: الصورة التي بدأت بها مقالي، وصورة بعدها بقليل رآها الناس ثابتة ورأوها فيديو وهو يجرّ عاريًا من الأعلى أكياس سكّر فوق عربة للتحميل بعجلتيْن رغم أنه كان حينها في موقع قيادي وزاريّ رسميّ في الحكومة الكوبية، والصورة الثالثة شوهدت أيضًا بالحالتين الثابتة والمتحركة وهو ملقى على ظهره بعد استشهاده، ورأسه وكل وجهه يكاد ينهض من سكونيّة الموت كما لو أنه يحقّق أمنيةَ الجملة التي تقول "الأشجار تموت واقفة".
والحق يقال إن صور تشي جميعها فعلت فعلها؛ في الصورة الأولى، (وهي برأيي الأهم على صعيد المبنى)، لشاب في أوّل توهج الثلاثين، يشع بنظرة لا تضاهيها نظرات نجوم الفن جميعهم، طاقية فوق الرأس تتوسطها نجمة خماسية، شعر يكاد يطيّر الطاقية ويحلّق متمردًا، لحية لا تشبه غيرها، وشارب له شعر ناعم خاص، وأما نظرة العينين فهي تسرد كل شيء، وتلخص روح الثورة في كل مكان وزمان. واليوم يجري تداول الصورة بوصفها موروثًا شعبيًّا، ومنهاجًا ثوريًّا، وأيقونةً عن الأحلام والتطلعات والشباب والكاريزما والإباء والمجد الذاتيّ العصيّ على التطويع والإذلال والقهر.
صارت صورة الشاب الثائر حكاية الناس... وباب ارْتزاق مئات آلاف الذين يتقنون ركوب الموجة... وشعار لكل راغب بامتطاء شعار... ووشمًا فوق أجساد المقهورين والباحثين عن الاختلاف والرومانسيين المنسيين...
حتى إن صورة تشي التي وزّعتها المخابرات البوليفية بتوجيه من المخابرات الأميركية (وأقصد صورته بعد موته)، وبعد تأمّل عميق من مؤمنين كثر، أقنعتهم أنه المسيح بكهنوتِهِ ولاهوتِهِ وناسوتِه، وأنه بهيئةِ موتهِ هذه مرشّحٌ للقيامةِ من جديد في كل وقت وحِين. بكل بساطة تحوّلت صورة جثة رجل ميت إلى شرارة انبعاث عنيد.
حتمًا، ليس المقصود بكلامي أن صور تشي هي التي فعلت كل شيء بينما وقف هو بدوره مكتوف الأيدي مكتفيًا بها، ولولا سيرته ما تأيقنت صورته، فالرجل ثوري حتى النخاع، لم يطق المناصب الرسمية، أثقل كاهله منصب مدير البنك الوطني، وأرهقته الحقيبة الوزارية، جال بأفكاره الثورية جهات العالم جميعها، زار الثوار الفلسطينيين في خنادقهم، تحالف مع الثورة الجزائرية، جرّب حظه الثوريّ في الكونغو (زائير)، وغواتيمالا، والمكسيك، وبوليفيا، وزار مصر الناصرية، وفيتنام، لم يكل ولم يمل مدفوعًا بمقولته الخالدة: "لا يهمني متى أو أين أموت، همّي الوحيد أن لا ينام البرجوازيون بكل ثقلهم فوق أجساد أطفال الفقراء والمعذبين، وأن لا يغفو العالم بكل ثقله على جماجم البائسين والكادحين".
إن الشاب الذي حوّل رحلة بالدّراجة النارية جاب خلالها جميع بلدان قارّته الأميركية اللاتينية، إلى شرارة ثورة، وإلى مفهوم جديد للوطن والانتماء، والرفض، يستحق أن يكون أيقونة. فقد كشف له ما شاهده من معاناة أبناء جنوب العالم، أن عدو الحياة والشعوب والعدالة والحرية والكرامة واحد هو الغرب الامبرياليّ الاستعماريّ الجشع بقيادة زعيمة العصابة أميركا.
كاميرا التصوير تحبُّ تشي جيفارا وكذلك كاميرا التاريخ.
لا أحد يتذكّر صورة التشي (الرفيق) متنكّرًا (تنكّر وغيّر ملامحه عند مغادرته كوبا)، فتلك صورة لا تمكث في الأرض ولا تنفع الناس، وحسنًا فعل عندما عاد في حربه الأخيرة ضد الإمبريالية العالمية إلى صورته الباقية. ومنذ أن بدأ ألبرتو كوردا يشاهد التنْويع المَهول على الصورة التي التقطها في عام 1960، أدرك بشكل حاسم أن الملكية الفكرية لتلك الصورة التي كان مصادفة من التقطها، هي للناس أجمعين، وأن لكل من آمن بها وبمن تتدفق ملامحه داخل أُطرها، حق ملكية فكرية ما بها. فإن كان صاحب الصورة نفسه رفض تسليع الإنسان ودفع حياته ثمن هذا الرفض، فمن باب أولى أن صورته ليست سلعة، بل هي ملكية عامة، حتى لو وضعتها راقصة وشمًا فوق جسدها، ووضعها فراريٌّ متمرّدٌ تميمةً فوق ذراعه.
ألقى السنوار بعصاه فالتقطتها آلاف الأيدي فكرةً لوقف الحياة على مشروع التحرير، فلا شيء أكثر إقناعًا للناس من أفكار يثبتها صاحبها بدمائه وفي آخر لحظات حياته. وكما نرشّ في موروثنا العرائس بالورد والحنّاء، رشّ جيفارا العالم بصور رفضه للسائد، وتمرّده على المألوف، وازدرائه للقطيع، فإذا بهما كلاهما (تشي ويحيى) النقاء الثوريّ في أوفى تجلياته، والدلالة في اكتمال نصوعها، والأيْقنة في مواعيدها مع القمر في يومه الرابع عشر، وفي ركوبها بساط ريح الأسْطرة.