لقد رسم مايكل أنجلو سفر التكوين كما جاء في التوراة على سقف كنيسة (سيستينا) في روما خلال عصر النهضة، لكنّه صوّر آدم مستلقيًا لا يكاد يقوى على رفع يده ليتلقى الرحمة الإلهية بعد خطيئته، وكأنّ مايكل بتلك اللفتة الذكية يحتجّ على ما قدر على الإنسان ككائن خُلق للعمل لا للراحة. وقد فسّر الناقد والمفكِّر الاجتماعي الإنكليزي جلبرت كيث تشسترتون (1874- 1936) قدرة أنجلو على رسم سقف كنيسة سيستينا مستلقيًا على ظهره فوق السقالات، لأنّه كان يحب الاستلقاء في السرير للراحة. يذكر باسكال كنيار في كتابه "الجنس والفزع" بأنّ الآلهة اليونانية اختصّت لوحدها بصفة الكسل والاستلقاء للراحة، لا الإنسان. لقد ذمّ فعل الاستلقاء في الثقافة الإنسانية إنْ لم يكن بعد تعب أو لنوم، وليست قصة النملة والصرصار، إلّا تمثيلًا لهذا النبذ لفعل أصلي في حياة الإنسان، ألا هو الاستلقاء للراحة. يتحدّث الكاتبان الفرنسيان إدمون دي غونكور وجول دي غونكور عن ثلاثة أفعال على الكتّاب إعطاءها كامل اهتمامهم: "الولادة، وممارسة الحب، والموت" وهذه الأفعال أكثر ما تحدث عند الاستلقاء وهي العمود الفقري للحضارة الإنسانية.
يهزأ الممثل الأميركي غروتشو ماركس (1890-1977) الذي يعتبر من أهم الكوميديين في العصر الحديث من فكرة أن تُنذر حياة الإنسان للعمل فقط، فيقول: "الشيء الذي لا يمكن فِعله في السرير، لا يستحق أن نفعله على الإطلاق" وكأنّه يستعيد شخصية (أبلوموف) في رواية الروسي إيفان جونشاروف ذلك الذي أراد أن يقضي حياته مستلقيًا على السرير، وفي الوقت نفسه ردّ غروتشو ماركس بمقولته تلك على فلسفة الثقافة الصناعية التي تقوم على تقديس العمل، والتي أرساها الأميركي هنري فورد (1863-1947) في عصرنا الحديث، الذي كان يرى في النوم مضيعة للوقت، فكيف بالاستلقاء!
ليس الاستلقاء فعلًا نافلًا في حياة الإنسان، وإن لم يتم تسليط الضوء عليه لكشف جوهره عبر الثقافة الإنسانية، إلّا بشكل شذرات وتعليقات هنا وهناك؛ ومن هذ الأمر انطلق الكاتب الألماني بيرند برونر في كتابه "فن الاستلقاء؛ لماذا ننام، لماذا نستيقظ، ولماذا نعيش؟" (ترجمة د. سمر منير والصادر عن دار العربي للنشر والتوزيع لعام 2024) معالجًا هيئة الاستلقاء لدى الإنسان وتمثّلاتها، بحيث يضع استلقاء الإنسان تمثيلًا للخط الأفقي مقابل الخط الرأسي في حالة الوقوف، وكأنّ حياة الإنسان تمضي على محور السينات والعينات معًا، بين حركة وسكون.
يذهب برونر في كتابه إلى رصد تلك الشذرات التاريخية أو الفلسفية أو الفكرية عن الاستلقاء وكيف عالج الإنسان حاجته إلى الراحة والنوم من خلال الاستلقاء واخترع الأدوات المناسبة لذلك من أسرّة وأرائك وغير ذلك. إنّ تعريف فعل الاستلقاء الإنساني ليس مضبوطًا كفاية، لأنّ لكلّ إنسان طريقته في ذلك، لكن من الممكن تعريفه؛ وذلك عندما يستلقي الإنسان ويصبح معظم جسده في وضع أفقي، أو عندما يميل بجسده مستلقيًا على أريكة، ممّا ينقل وزن الجسد إلى الأرض، وكأن الاستلقاء هروب من الجاذبية الأرضية. للاستلقاء وضعيات كثيرة؛ على الظهر وعلى الجانب وعلى البطن على الأسرّة والأرائك وعلى العشب أو الرمل، وجميعها تندرج بأن يغادر الإنسان وضعه الرأسي، سواء واقفًا أو جالسًا على كرسي مستقيم الظهر إلى الوضع الأفقي. لقد كانت فكرة الاستلقاء في العصر الحديث مدار تأمّلات كثيرة، ولأجلها اخترعت أدوات كثيرة، حتى أنّ أهم معماريي القرن العشرين الذي صمّم مبنى الأمم المتحدة (لو كوربوزييه) أدلى بدلوه بهذا الأمر واخترع كرسي (الشيزلونج) ليتحقّق الاستلقاء بعيدًا عن السرير مكان الاستلقاء المعتاد، وليكون الشيزلونج في متناول اليد دومًا.
يعدّ مكان الاستلقاء دليلًا على بدء الحضارة البشرية في الأزمنة القديمة، لذلك كان علماء الحفريات يبحثون عن أدلة لاستلقاء الإنسان في غابر الأزمنة. تعود أقدم الأسرّة المكتشفة إلى جنوب أفريقيا، ففي عام 2011 في بلدة (باليتو) حيث وجد تحت نتوء صخري ما عدّ أقدم سرير مصنوع من العيدان والأعشاب، حيث قدّر عمره بالفحص الكربوني إلى سبع وسبعين ألف سنة قبل الميلاد. وفي اكتشاف أقرب إلينا زمنيًا تم على إثر عاصفة هوجاء قبالة سواحل اسكتلندة على جزر (أوركيني) فقد ظهرت مستوطنة تعود إلى العصر الحجري الحديث مدفونة تحت الرمال، فقد وجد العلماء أسرّة حجرية في منطقة تندر فيها الأخشاب.
أمّا في مهد الحضارة في بلاد ما بين النهرين ومصر والإغريق، فأصبح السرير شيئًا اعتياديًا حتى أنّ الإغريق كانوا يستلقون على أسرّة، ويتناولون طعامهم مقلّدين الآلهة، بينما ذهب الجرمان كما أورد أحد المؤرّخين الرومان، بأنّهم كانوا يرفعون العجائز على أراجيح تعلّق على الأشجار من أجل تسهيل انتقالهم إلى العالم الآخر عبر الاستلقاء فيها وأرجحتها. تطوّرت أماكن الاستلقاء عبر حضارة الإنسان وعندما اكتشف الغرب سحر الشرق من خلال البلاط العثماني أو ألف ليلة وليلة تغيّر مفهوم الاستلقاء أكثر، وأصبح مطلبًا حضاريًا، حتى أنّه قد شاعت مقولة؛ أنّهم في الشرق يجيدون تنظيم أوقاتهم بين العمل والراحة. وفي قصيدة عن شعرية الكسل، جاء بيت للشاعر فريدريك شليجل يثبت هذه الرؤية التي أخذها الغرب عن الشرق: " يعرف الإيطاليون وحدهم كيف يسيرون، ويدرك الناس في الشرق كيف يستلقون". أصبحت الأسرّة، ويا لغرابة الأمر، أمكنة لاستقبال الضيوف في القرن الثامن عشر في أوروبا، وقد لحظ الكاتب جان جاك روسّو في اعترافاته ذلك، فقد ذكر بأنّ رئيس القضاة (سيمون) كان يستقبل ضيوفه في سريره، وهو يلتحف أغطيته، بل إنّ مهنة المحظيات في الطبقة العليا في المجتمع الفرنسي كانت تسمى مهنة الخط الأفقي كنوع من التأدّب.
لم يوافق جان جاك روسّو على العلاقة ما بين الاستلقاء والإبداع، فهو من المشّائين الكبار، وكان يكتئب عندما لا يستطيع أن يتجوّل في الطبيعة ماشيًا على قدميه لمسافات طويلة. بينما الحائزة على جائزة نوبل إلفريدة يلينيك ترى في الاستلقاء على السرير المكان المفضّل للإبداع، مع أنّ ثيمة السرير كما أثبتها غوته في مسرحية (فاوست) تدلّ على الكسل وعلى الافتقار لوجود دافع في حياة الكائن البشري، وعلى الموقف السلبي من الحياة. قد يكون حكم غوته على الاستلقاء نابعًا من منحى أخلاقي ديني، وليس عملاتيًا، لأنّ رائعة مارسيل بروست (البحث عن الزمن المفقود) كان قد كتبها وهو مستلق في سريره. كذلك كان مارك توين يرى بالاستلقاء محفزًا للإبداع، وأيضًا الشاعر ويليام وردزورث الذي كان يفضّل كتابة أشعاره في السرير. على الرغم من أنّ السرير مكان الولادة، فهو أيضًا مكان الموت، وعندما لا يبقى للمبدع مكان غيره وإن سمّاه (السرير القبر) كما فعل الفيلسوف والتر بنيامين، إلّا أنّه من خلال استلقائه عليه بسبب المرض كتب إبداعاته. حلّل الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو الإبداع بأنه: "مهمة وجودية، أي البحث عن الخفة كرد فعل على ثقل الحياة" وعلى مايبدو يحقق الاستلقاء هذه الخفّة على الأقل جسديًا، وهذا ما كان يفعله الكاتب الألماني (ف. ج. زيبالد) المصاب بمرض الديسك، فكتب: "لذلك، كنت أستلقي على بطني في الفراش بصورة عرضية، وترتكز جبهتي على كرسي جانبي، بينما أكتب على الأرض". شجّع رولان بارت القرّاء على أن يكونوا كسالى، مع أنّه لم يكن يخلد إلى السرير إلّا من أجل السكون والنوم، وفي الوقت نفسه أخذ بالتحدث عن فكرة الطفو في الفضاء، حيث لا جاذبية، وحيث ينسى الإنسان جسده كما في الاستلقاء. كان الكاتب الأميركي ترومان كابوتي صريحًا جدًا في موضوعة الاستلقاء، إذ قال في أحد اللقاءات معه: "أنا مؤلف ذو وضع أفقي تمامًا، فأنا لا أستطيع التفكير إلّا مستلقيًا..." مع كل هذا المديح للاستلقاء بأشكاله كافة كان الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد يحاول أن يهرب من النوم إلى اليقظة، إلى كرسي مكتبه وهناك يستعيد ما فاته من أفكار خلال النوم. أمّا صاحب مدام بوفاري الروائي غوستاف فلوبير، فقد نسب له صديقه الفنان ماكسيم دو كامب بأنّه كان يميل إلى الاستلقاء خلال السفر مستلقيًا على أريكة دون أن يحرك ساكنًا. لقد كان يرى المناظر الطبيعية والأطلال والمدن تمرّ به كأنّها شاشة عرض بانورامية".
لقد مارس الكتّاب الاستلقاء، كذلك فعل الرسّامون، فهنري ماتيس كان يرسم وهو مستلق على أريكة، لكن الرسّامين صوّروا الاستلقاء كحالة جمالية وخاصة لدى النساء، فلوحة (حلم القديسة أورسولا) للرسّام الإيطالي فيتوري كارباتشيو من أشهر اللوحات، حيث تظهر امرأة مغطاة بغطاء النوم وغارقة في نوم عميق. لقد أصبحت وضعية المرأة المستلقية شغف الرسّامين.
تعدّدت المواضيع التي تناولها برونر في مقاربته للاستلقاء، فعرّج على آلاته من أسرّة وأرائك وفرش ومخدات، وأماكنه وطقوسه، وعادات وأعراف العمل والراحة والنوم والاستيقاظ التي ظهرت في الثقافة الإنسانية. ولم ينس أهم أريكة في علم النفس التي استلقى عليها مرضى سيغموند فرويد، والتي شُحنت مع أثاث البيت إلى بريطانيا في هروب عائلة فرويد من النازية. يسرد الروائي هرمان بروخ صاحب ثلاثية (السائرون نيامًا) والتي كانت المفضّلة لدى الروائي التشيكي ميلان كونديرا عن أهمية الاستلقاء، وأنّه قادر على منح الإنسان معرفة، لا يقدّمها له أي وضع آخر يتخذه الإنسان في حياته. يتمدّد بوذا مستلقيًا غارقًا في تأمّله في التمثال المغطى بورق الذهب في تايلاند والمسمّى: (بوذا النائم). وفي الخيال العلمي لا يمكن السفر عبر النجوم، من دون أن يخلد الإنسان إلى النوم مستلقيًا في كبسولة لن يستيقظ منها، إلّا عند وصوله إلى الوجهة المقصودة. لقد ولِد الكون من السكون عبر الحركة وسينتهي إلى السكون كبوذا المستلقي النائم.
*كاتب من سورية.