نشأ عدد من المدن الفلسطينية ذات الأصول الكنعانية كمراكز تجارية على طول الطريق الساحلي، كعكا، وقيسارية، ويافا، وعسقلان، وأيضًا غزة، التي نشأت في الأساس لحماية التجارة عبر البحر، وتحوّلت مع الوقت إلى مدن عامرة ومزدهرة.
في قطاع غزة، تنتشر على طول السهل الساحلي كثير من المواقع الأثرية، من بينها مواقع تطورت وباتت موانئ على مدار القرون الماضية، ومنها ما باتت مُدنًا، ومنها ما اندثر حضوره وبقيت آثاره تحت البحر. سلب الاحتلال الإسرائيلي خلال سيطرته على قطاع غزة ما سلب، وبقي منها ما بقي تحت تأثير عشوائية التخطيط والتعاطي من الجهات الفلسطينية ذات العلاقة، إلى أن بات المتبقي من الباقي منها تحت نيران حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من أربعة عشر شهرًا، حسب ما أشار د. أيمن حسونة، أستاذ التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية بغزة. حسونة الذي شارك في عديد حملات التنقيب في القطاع قبل حرب الإبادة، كتب ذلك في مداخلته حول المواقع الأثرية على ساحل غزة، وأسفل مياه بحرها، ضمن فعاليات مؤتمر "تدمير التراث الثقافي في غزة"، الذي عقد في مسرح وسينماتك القصبة في مدينة رام الله، مؤخرًا.
ويعدّ ميناء "الأنثيدون"، ويعرف أيضًا باسم ميناء "البلاخية"، وهو موقع أثري يقع شمال غربي مدينة غزة القديمة، وصنفته اليونسكو ضمن المواقع الأثرية العالمية، ويعود بناؤه إلى 800 عام قبل الميلاد على يد الكنعانيين، من أهم المعالم الأثرية في غزة، ومنطقة الشرق الأوسط، إذ أنه كان في فترة من الفترات الميناء التجاري الوحيد الذي يربط فلسطين مع باقي دول العالم القديم، ويعود تاريخه إلى العهد الروماني، واستمر وجوده حتى العهد البيزنطي.
وأشار موقع (forensic-architecture) إلى أن العاصفة الجوية التي أطلق عليها اسم "هدى" في عام 2013 كشفت في موقع ميناء "الأنثيدون" عن "أنقاض أول قصر في العالم، وهو أول قصر بُني تحت الأرض أيضًا، بطريقة هندسية تُظهر الإعجاز الكنعاني والفلسطيني من ناحية معمارية"، وإلى أنه في العام نفسه بدأت أولى مهمات التنقيب عنه من قبل بعثة فرنسية، وأهم ما وجد فيه بقايا سور طوله 150 مترًا، في كل 50 مترًا له ثمة برج استخدم كمنارة، أو محطة مراقبة. ويُعتقد أنها تعود إلى العصر الإسلامي في عهد الأيوبيّين. كما وجدت فيها جداريات لُونت بالفوريسكو (التصوير الجصي)، ويعتقد أنها بقايا قصور قديمة تعد الأولى من نوعها في العالم، وكانت مخصصة لأسياد التجارة أو الملوك، وتعود إلى العصر الروماني، وتحديدًا في القرن الرابع الميلادي، كما تم العثور على أوانٍ فخارية قديمة، وفسيفسائيات تعود إلى العصور الرومانية واليونانية، ومن بين اكتشافات البعثة الفرنسية عظام للجمال، ومقابر للعبيد من مقدونيا ورومانيا واليونان من بين من شاركوا في تشييد هذا الميناء، واحتوى الموقع أيضًا على معابد قديمة أهمها للوثنيين والمسيحيين، وقطع ذهبية، ومقام للقديسة الرومانية هيلانا.
ولفت حسونة، في ورقته المشار إليها أعلاه، إلى أن موقع الميناء كان يعاني، ما قبل حرب الإبادة على غزة، من انجراف في التربة أثر على ما تبقى من آثاره تحت الماء، مُرجعًا ذلك إلى بناء أرصفة عشوائية على موانئ ساحل غزة، وخاصة رصيف ميناء غزة، الذي قام بحجز الرمال المرافقة للتيارات البحرية القادمة من وادي النيل، والتي تترسب على ساحل غزة، بحيث بدأ البحر يأكل الساحل، وعليه تم تآكل أجزاء مهمة من ميناء "الأنثيدون"، لكنها كشفت في الوقت نفسه عن أجزاء معمارية أثرية تدلل على أن جزءًا كبيرًا من موقع الميناء مغمور تحت مياه غزة، وخاصة في منطقة مينائها، علاوة على تجريف مناطق واسعة لعمل استراحات سياحية، واستغلاله كمكان عسكري، وموقع لشرطة غزة، ما أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة منذ مطلع حرب الإبادة المتواصلة على القطاع.
تطلُّ غزة على بحرها من ثمانية أبواب، من أهمها ميناء "مايوماس"، الذي احتلته القوات الإسرائيلية عام 1967، حيث عمدت سلطات الاحتلال إلى فرض ما عرف بـ"مخطط بازيلكيا" مربع الشكل على الميناء التاريخي، الذي يعد من أقدم موانئ العالم، في محاولة لإثبات أن نظامه المعماري ذو طابع عبري يتخذ شكل كنيس يهودي، كما قامت قوات الاحتلال بتفكيك وسرقة الفسيفساء من مكانها الطبيعي وإعادة بنائها بما يتوافق مع مخططهم، وفق مقال نشره عام 2022 جمال أبو ريدة، مدير الإدارة العامة للآثار والتراث الثقافي في وزارة السياحة والآثار في غزة، لافتًا إلى أن ميناء "مايوماس" يقع عند مزار الشيخ شعبان في البلدة القديمة من مدينة غزة، وتبلغ مساحته، معظم مساحة ميناء غزة القديم، ويدخل في إطار منطقة الشاطئ الغربي لغزة، وشارع الكورنيش، والمناطق المحاذية له الى الشرق والجنوب الشرقي من مدينة غزة في المنطقة الساحلية، وهذه المناطق جميعها تم تدميرها بالكامل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية في حرب الإبادة المتواصلة على القطاع.
وكانت البضائع تصل إلى ميناء "مايوماس" على ظهور الجمال من جنوب شبه الجزيرة العربية، وتحديدًا من "مملكة سبأ" عبر البتراء، ووادي عربة، عبورًا لصحراء النقب ثم إلى غزة، وتصدّر عن طريق البحر من خلال ميناء مايوماس، الذي تعني تسميته باليونانية القديمة "إله الماء"، وكان مهملًا إلى حد الاندثار، فما تبقى منه كان الكنيسة البيزنطية غرب غزة، والتي سرق الاحتلال أرضيتها الفسيفسائية قبل خروج قواته العسكرية من تلك المنطقة في عام 1994، إثر اتفافيات أوسلو، ونقلها إلى الأراضي المحتلة عام 1948، في حين أن ما تبقى منها تم تجريفه تمامًا أثناء تعبيد "شارع الرشيد"، أو ما يُعرف بـ"كورنيش غزة"، حسب ما أكّد حسونة.
ومن هذه المواقع ما كانت تشكل قلاعًا لحماية تجارة السفن "تل قطيف"، جنوب قطاع غزة، وتحديدًا في خانيونس، ويقع غرب بلدة القرارة شمال محافظة خانيونس، وهو في موقع مطل على البحر من الغرب، وعلى "القرارة" من الشرق، ومن الشمال يطل على مدينة دير البلح، وكان استخدمه جيش الاحتلال الاسرائيلي كنقطة عسكرية لمراقبة حركة الملاحة البحرية ومتابعة الصيادين، بالإضافة الى رصد الطريق المؤدية إلى المستوطنات، خاصة في انتفاضة الحجارة التي اندلعت في عام 1987.
ويعد "تل قطيف" من الأماكن الأثرية الهامة في بلدة القرارة، وأغلقته سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد أن حولته إلى ثكنة عسكرية .
وكان الباحث والإعلامي إياد العبادلة نقل، في مقال نشره عام 2021، عن مسنٍ فلسطيني كان يعمل حارسًا عليه، في حقبة الانتداب البريطاني، أن "التلة" كانت تحتوي على مقبرة تعود إلى العهد الروماني، وكان أعلاها مبنى غرفة من الحجر تطل بشباك صغير على البحر لمراقبة حركة الملاحة، وأسفلها سرداب طويل لم يعرف حتى الآن إلى أين ينتهي.
كما أشار "الحارس" إلى أن البريطانيين، وبين حين وآخر، كانوا يستقدمون عددًا من فرق التنقيب على الآثار، وذات مرّة، حاول أحد الباحثين الدخول الى مسافة معينة داخل السرداب، وخرج ومعه "فيل" صغير مصنوع من الذهب الخالص.
ومنذ الاحتلال الإسرائيلي تم محاصرة "تل قطيف" بالأسلاك الشائكة، ونصبوا أعلاه خيمة، واستخدموه كثكنة عسكرية، وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وفق العبادلة، قدم فريق من الباحثين عن الآثار للتنقيب أسفل "التلة" والمناطق المحيطة بها، وكانوا يحفرون على شكل مربعات، ويجمعون الآثار ويصادرونها، كما استخرجوا عددًا من الجثث كبيرة الحجم قالوا عنها، آنذاك، إنها تعود إلى العهد الروماني، ومن ثم قاموا بدفنها بالكامل، وأغلقوا السرداب الذي يقع أسفلها، وهدموا الغرفة المطلة على البحر، لافتًا إلى أن الموقع تعرض للسرقة في حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين، ومن بينها غزة، وأكمل الاحتلال الإسرائيلي سرقة كثير من محتوياتها، ومصادرتها، بحيث لم يبق من "تل قطيف"، ما قبل حرب الإبادة المتواصلة على غزة، إلا علّوها الذي لا يتجاوز العشرة أمتار.
أما "تل الرقيش"، في مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، فيقع على ساحل البحر مباشرة، واتخذ اسمه من شكل الفخار التي عثر عليه في هذا التل المهم الذي كان مركزًا للتجارة البحرية والبرية على الطريق التجاري الواصل بين مصر وآسيا.
وجرت في هذا الموقع الأثري، الذي اكتسب تسميته من فخار مرقط بالأسود والأبيض، حسب حسونة، عددًا من عمليات التنقيب الأثري التي كشفت عن وجود مستعمرة فينيقية كبيرة ومزدهرة بلغت مساحتها حوالي (650 × 150 مترًا)، وتم الكشف في هذه المستعمرة عن أسوار دفاعية ضخمة طولها حوالي 1600 متر، ومقبرة ذات طابع فينيقي لدفن رماد الجثث المحروقة، التي يعود تاريخها إلى العصر الحديدي المتأخر، وللفترة الفارسية (538 ــ 332 ق. م).
وأوضحت وزارة السياحة والآثار في غزة، عبر موقعها الإلكتروني، أن عددًا من الحفريات والتنقيب الأثري في الموقع بدأت أيام الاحتلال البريطاني، ومن ثم قام بها المحتل الإسرائيلي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأن آخر أعمال الكشف الأثري التي تمت في موقع "تل الرقيش" كان في عام 2000، بمشاركة البعثة السويدية للتنقيب عن الآثار، حيث قاموا بعمل مجسات أثرية تم الكشف من خلالها عن كثير من القطع الأثرية الفخارية التي تعود إلى العصر الكنعاني، والعصر الحديدي، والعصر الفارسي، بحيث اكتشف المنقبون أنواعًا عديدة من القدور المصنوعة محليًا من الفخار المسمى "الرقيش"، إضافة إلى قطع فخارية فينيقية وقبرصية، أمّا ما قبل حرب الإبادة، فكان في إمكان زوارها رؤية بعض بقايا الأبنية المصنوعة من طوب الطين المجفف في الشمس، فيما أشار أيمن حسونة، أستاذ التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية في غزة، إلى أن أعمال المسح شملت الجزء الساحلي لهذا الموقع، حيث تمكن الفريق من الكشف عن بعض المعالم المغمورة تحت الماء، التي تؤكد على أنها معالم معمارية بنيت بفعل بشري، وليست مجرد تكوينات طبيعية، فـ"تل الرقيش" تطور من موقع حماية إلى ميناء، إلى مدينة مزدهرة اقتصاديًا.
وشدد حسونة في ورقته على ضرورة إنقاذ هذه المواقع، وهي جزء يسير من عدد المواقع الأثرية الساحلية تحت مياه بحر غزة، أو على ضفاف شاطئه، من استهداف ما تبقى منها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة المتواصلة على القطاع، والأخذ بعين الاعتبار في حال توقف الحرب ضرورة حماية هذه المواقع، والاتفاق مع فرق متخصصة لحماية كنوز ساحل غزة الأثرية، وتطويرها من خلال مشاريع ترميم وتطوير، وحمايتها من العبث البشري، من الأفراد، أو المؤسسات.
وكان المؤرخ الإنكليزي فلندرز، قال: "لو حفرتَ كل شبر بغزّة لوجدت فيه آثارًا، كونها كانت جسرًا وقنطرة، يمر عليها كل القادمين من الشرق والغرب"، وهو ما ينطبق على الغوص في البحر. ففي عام 2013، عثر الصياد الفلسطيني جودت غراب على تمثال برونزي يجسد أبولو، أحد آلهة الإغريق القدامى، أثناء عمله في صيد الأسماك قبالة سواحل بلدة دير البلح وسط قطاع غزة، وهو تمثال برونزي يزن 500 كيلوغرام، ويصوّر شابًا عاريًا يقف على قاعدة صغيرة، وقد طلي رأسه بمادة صفراء يعتقد أنها من ماء الذهب، ما شكل مادة إعلامية، وقتذاك، بل مادة سينمائية.
وكانت حكاية التمثال هي محور الفيلمه الوثائقي "أبولو في غزة" (2018)، للمخرج السويسري نيكولاس فاديموف، الذي ينطلق بحثًا عن الحقيقة التي يعرف أنه من المستحيل، أو شبه المستحيل، العثور عليها، انطلاقًا من شهادة الصياد الذي قام أولًا بسحب تمثال أبولو من البحر إلى ساحل غزة في عام 2013، وانتهاء باستكشاف مؤامرة محتملة باشتراك جماعات مسلحة وغير مسلحة في مصادرته، وهو احتمال يبقى في دائرة اللايقين، وهي النتيجة التي وصل إليها المخرج، عبر عدد من القصص المتتالية التي تنتشر أخبارها وتتعزز بالصور التي ترافقها.
وكانت الحادثة ذاتها لبنة في بناء الفيلم الروائي "غزة مونامور" (2020) للشقيقين عرب وطرزان. الفيلم حاز عددًا من الجوائز العالمية، عبر حكاية "عيسى"، ذلك الصيّاد الستيني الذي يعيش وحيدًا، وبالكاد يتمكن، وليس دائمًا، من بيع بضاعته من السمك في الشارع، متعايشًا مع روتين لا تكسره إلا تلك اللمحات السريعة لـ"سهام" (وهي امرأة في مثل سنّه تدير متجرًا للأزياء في السوق)، بحيث تسير الأمور بشكل اعتيادي حتى يعثر على صيد غير اعتيادي ذات ليلة، وكان تمثالًا برونزيًا أصليًّا للإله اليوناني "أبولو". ومع "أبولو" تنقلب حياته رأسًا على عقب، حيث يعاني من مطاردات في البداية، فاعتقال، وتحقيق، وسجن، باعتبار أن التمثال هو ملك لـ"الدولة" في نهاية المطاف...