}

ما العمل مع الضحية اليهودية الأبدية؟ (2-2)

جورج كعدي جورج كعدي 29 ديسمبر 2024
اجتماع ما العمل مع الضحية اليهودية الأبدية؟ (2-2)
وضع اليهود بالنصف الأول من العصور الوسطى كان مريحًا(Getty)
للمؤرّخ اليهوديّ البارز سالو بارون Salo Baron، صاحب موسوعة "التاريخ الاجتماعي والديني لليهود" في اثني عشر مجلدًا، وجهة نظر مثيرة مفادها أنّ معاناة اليهود في العصور الوسطى الأوروبية، وعلى امتداد التاريخ، مبالغٌ فيها، مشدّدًا على أن يهود أوروبا كانوا يعيشون حياة أفضل من المسيحيين، من العصور الوسطى إلى القرن العشرين. ويوضح بالإحصاء والأرقام أن عدد السكان اليهود ازداد بين عامي 1660 و1914 نحو خمسة عشر ضعفًا. ويلفت إلى أنّ شعبه، أي اليهود، كان يتمتع بامتيازات كبيرة مقارنةً بغير اليهود طوال العصور الوسطى الأوروبية، إلى حدّ أنّه مع حلول عصر التنوير أصبح "التحرّر" و"المساواة" بمثابة "خسارة صافية لليهود لناحيتي المكانة وأسلوب الحياة"! مؤكدًا على أن اليهودي العادي في العصور الوسطى كان أقلّ تعاسةً وبؤسًا من معاصريه المسيحيين، ليس في الوعي الخاص فحسب، بل في مستوى المعيشة والثقافة والحماية من المجاعة والمرض.

ناحوم غولدمان  يفصح في مذكراته عن "أن اليهود في أوروبا الشرقية كانوا يعدّون الناس من حولهم مضطهدين، وكانوا ينظرون إليهم بكونهم عرقًا أدنى" (Getty)

يوافق أبراهام ليون Leon، المفكر اليهوديّ التروتسكيّ، زميله المؤرخ بارون على أنّ وضع اليهود في النصف الأول من العصور الوسطى كان مريحًا جدًا، إذ كان اليهود يُعتبرون جزءًا من الطبقة العليا في المجتمع، ولم يكن وضعهم القضائي مختلفًا عن وضع النبلاء. ومن الامتيازات التي تمتع بها اليهود في مختلف أنحاء أوروبا حتى بداية التاريخ الحديث أنّهم لم يكونوا مضطرين إلى الخدمة العسكرية. يقول المؤرخ بارون: "خلال الحروب المتواصلة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، كان اليهود محايدين ولم يتعرّضوا إلّا لخسائر نادرة، ولو كانوا مقاتلين لخسروا ربما أكثر مما خسروا في كل المذابح". سُمح لليهود في العصور الوسطى أيضًا بامتياز مهم جدًا هو حمل السلاح، وكان معادلًا لامتياز الفرسان، فيما كان محظّرًا على الأغلبية الساحقة من السكان التمتع بامتياز كهذا. ولاحظ بارون أنّه في حين كان هناك يهود يعانون الفقر كان السكان المسيحيون المحيطون بهم أشدّ فقرًا. الأكاديمي الإسرائيلي المعروف إسرائيل شاحاك Shahak يؤيّد بدوره أقوال بارون وليون لافتًا إلى "أنّ اليهود، وعلى الرغم من كل الاضطهاد الذي تعرّضوا له، شكلوا جزءًا لا يتجزأ من الطبقات المتميزة، والتأريخ لليهود، خاصة باللغة الإنكليزية، مضلِّل في هذا الجانب إذ يركّز على الفقر اليهودي والتمييز ضد اليهود، في حين أن أفقر الحرفيين اليهود، أو الباعة المتجوّلين، أو وكلاء الملّاكين، أو رجال الدين الصغار، كانت أحوالهم أفضل بما لا يقاس من غير اليهود (...) بل كانت وظيفة أغلبية يهودية قمع الفلاحين نيابةً عن النبلاء والملوك"! وحتى أحد رواد الصهيونية ناحوم غولدمان  Nahum Goldman يفصح في مذكراته عن "أن اليهود في أوروبا الشرقية كانوا يعدّون الناس من حولهم مضطهدين، وكانوا ينظرون إليهم بكونهم عرقًا أدنى. كان معظم المرضى الذين يعالجهم جدّي الطبيب في ليتوانيا من الفلاحين. كل يهودي كان يشعر بأنه متفوّق على هؤلاء الفلاحين المتواضعين بمائة مرة، فهو مثقف ويتعلم العبرية ويعرف العهد القديم ويدرس التلمود.




كان يعلم بتعبير آخر أنّه متفوّق على هؤلاء الأميين بفرق كبير". يتساءل المرء هنا مَنْ الذي كان ضحية النظرية العنصرية المتعالية؟ اليهود أم الآخرون؟!.
جانب آخر من الأساطير اليهودية الشائعة يتعلّق بأنّ اليهود "أُجبروا" على العيش في أحياء يهودية في أوروبا غصبًا عنهم، وهذا تحريف للحقائق التاريخية. ففي العصور الوسطى كانت المدن المسيحية تتمتع، في معظمها، بأسوار وبوابات وأقفال لتحمي نفسها من الغرباء. كذلك كان الحي اليهودي المغلق مصمِّمًا للحماية والعزل الذاتي. كان انعزالهم في الأصل طوعيًا، فالعيش المنفصل كان جزءًا من "الامتيازات" الممنوحة لليهود بناءً على رغبتهم الخاصة في الانفصال والانعزال. يوضح ناحوم غولدمان: "من الخطأ القول إنّ الغوييم (غير اليهود) أُجبروا اليهود على الانفصال عن المجتمعات الأخرى. كانت حدود الأحياء اليهودية محدّدة سلفًا، وكان اليهود يعيشون فيها بالفعل". عزل اليهود أنفسهم طوال قرون عن جيرانهم غير اليهود، إلّا لضرورات التجارة. وبالعودة إلى العالِم الأنثروبولوجيّ اليهوديّ موريس فيشبرغ Fishberg فقد كشف عام 1911 أنّه "لا يجوز لليهودي، في اليهودية الأرثوذكسية، أن يأكل إلى المائدة نفسها مع غير اليهود، ولا أن يتناول طعامًا أعدّه غير اليهود، كما لا يجوز له أن يأكل أو يشرب بالأدوات (صحون، ملاعق، سكاكين، إلخ) التي يستخدمها غير اليهود، ولا يجوز له أن يشرب الخمر الذي لمس وعاءه مسيحيّ أو وثنيّ (...) كانت الروح القبليّة الشديدة التي تولّدت عن دينه هي التي منعت اليهودي من التواصل الوثيق مع غير اليهود، أكثر من القوانين التي أصدرتها الدول المسيحية بهذا الشأن". يوضح ذلك الأسباب الحقيقية للعزلة اليهودية التي فرضها اليهود على أنفسهم ولم يفرضها عليهم أحد، فحتى أحد أشرس الصهاينة جابوتنسكي يعترف: "لقد شكّلنا نحن اليهود الغيتو بأنفسنا طوعًا، للسبب عينه الذي من أجله أنشأ الأوروبيون في شنغهاي حيّهم المنفصل، لكي يتمكنوا من العيش على طريقتهم الخاصة". ويؤكد هرتزل أيضًا على "أن الغيتو كان امتيازًا وليس إعاقةً، وكان اليهود يطالبون به أحيانًا باعتباره حقًا لهم عندما يُهدَّدون بهدمه". العزلة اليهودية هي التي استجلبت العدوانية الخارجية، لا العكس. الانعزال والإقفال على الذات يولّدان كرهًا ونفورًا ورفضًا من الآخرين.
فضح المؤرخ الإنكليزي اليهودي سيسيلْ روث Cecil Roth (1899 - 1970) في مقالتين نشرهما عامي 1928 و1932 الأساطير اليهودية حول الاضطهاد المتواصل الذي يزعم اليهود أنهم تعرّضوا له عبر العصور، فيقول: "أولًا، كان اليهود يميلون دومًا إلى اعتبار كل من مات على أيدي غير اليهود شهيدًا، حتى لو مات في شجار بسبب الثمالة.



وجميع اليهود الذين لقوا حتفهم، أيًّا تكن الظروف، كانوا يُدرجون تحت مسمّى الشهداء في الوعي الشعبي اليهودي والذاكرة اليهودية". واستمرّ هذا "التقليد" و"النموذج الاستشهادي" على نحو فاضح، وعلى الأساس الديني نفسه، في الأوساط اليهودية الأرثوذكسية المتطرّفة إلى الزمن الحالي، ففي الكيان الإسرائيلي أقدم باروخ غولدشتاين، الطبيب الصهيوني من اليهود الأرثوذكس، المولود في الولايات المتحدة، على قتل تسعة وعشرين مصلّيًا فلسطينيًا برشّاش آلي في ما عُرف بمجزرة الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل في 25 فبراير/ شباط 1994، قبل أن ينقضّ عليه مصلّون آخرون وينهالوا عليه بالضرب حتى الموت... وأعلن بعض اليهود أن غولدشتاين "كادوش" أي مقدس، وأطلق عليه أحد الحاخامات صفة "الشهيد المقدس"، فالقتل في عرف اليهود المتطرفين "ليس أمرًا لطيفًا، لكنه ضروريّ جدًا في بعض الأحيان" ("قتل الضرورة" نختبره اليوم واختبرناه طوال العقود السابقة).
ممّا يكشفه المؤرخ روث أيضًا أنّ ما عاناه اليهود في العصور الوسطى لم يكن بالضرورة لأنهم يهود بل لانتمائهم ببساطة إلى الطبقة الأكثر ثراءً، فقد تعرّضوا لأعمال سلب عشوائية مثل المسيحيين أو أي فئة أخرى في العصور الوسطى. أمّا وضع شارات التعريف الخاصة باليهود فقد كان بمثابة قاعدة تمييزية لأنفسهم في تلك العصور، مثلما كان على المسلمين وضع علامات مماثلة تميّزهم عن الآخرين في المجتمعات المسيحية، حتى في الملابس أحيانًا. والقانون اليهودي نفسه يتضمن تسميات مختلفة وقواعد تعامل مع فئات مختلفة من غير اليهود بكونهم أشخاصًا من الدرجة الثانية، أو أسوأ من ذلك (يشار في "إسرائيل" اليوم إلى أن العرب هم مواطنون من الدرجة الثانية). وينقض سيسيل روث أيضًا الزعم القائل بأن اليهود كانوا ضحايا محاكم التفتيش الإسبانية، فهم لم يخضعوا قطّ لنطاق هذه المحاكم إذ كانت أعمالها مقتصرة على المسيحيين المرتدّين. ومع ذلك، ورغم كلّ الحقائق المثبتة تاريخيًا، لا يزال الرأي القائل بأن محاكم التفتيش كانت تركّز بطريقة ما على اليهود منتشرًا اليوم، ففي مجلة المؤتمر اليهودي (عدد عام 1990) المخصّصة لموضوع الهوية اليهودية يرد الآتي: "إنّ محاكم التفتيش تقدّم إلينا دليلًا آخر على معاناة اليهود"!




رغم كلّ بكائية اليهود على "المذابح التي ارتكبت بحق أسلافهم" فإنّ الاضطهاد الذي تعرّض له اليهود "لم يكن ممنهجًا" بحسب روث، والمذبحة الوحيدة التي كانت ممنهجة، أو يمكن أن نعدّها كذلك، هي ما عرف لاحقًا بالمحرقة النازية. إنها المذبحة الوحيدة، الفريدة، الاستثنائية، غير المرتبطة لا بما قبلها ولا بما بعدها، ومع ذلك يصرّ اليهود البكاؤون، محترفو دور "الضحية"، على جعل كل تاريخهم، منذ أربعة آلاف سنة، تاريخًا موصولًا من "المذابح" و"الاضطهادات"! إنّ مذبحة يوم القديس بارثولوميو في القرن السادس عشر (24 أغسطس/ آب 1572) بين البروتستانت والكاثوليك والتي خلّفت نحو ثلاثين ألف قتيل، كانت مروعة إلى حد مذهل، وبالتالي لم يقتصر العنف الديني على اليهود بل وقعت المذابح الكبرى حتى بين المسيحيين أنفسهم. لكنّ النطاق الذي وضع فيه سيسيل روث تاريخ اليهود، ناقضًا النظرية التقليدية غير الصحيحة إليه، أتى الهولوكوست ليزعزع أسسه بعض الشيء، رغم استثنائية هذا الحدث التاريخي الحديث.
يلحظ روث أنّ شعوبًا كثيرة تعرّضت للمذابح وماتت منذ زمن بعيد، بل أُبيدت تمامًا، في حين بقي اليهود! بمعنى أنّ محتكري "المظلومية التاريخية" يزيّفون التاريخ والحقائق، والبرهان أنّ أعدادهم ليست متراجعة على نحو دراماتيكيّ، والجدال هنا يطول ومن المستحسن العودة إلى أبرز المراجع في هذا الصدد، الكتاب القيّم الذي أحدث زلزالًا صدوره عام 2000 تحت عنوان "صناعة الهولوكوست"The Holocaust Industry  للأكاديميّ الأميركي اليهودي، المناهض بقوة للصهيونية، نورمان فينكلستين Finkelstein، ففيه كلّ الحقائق والأرقام والوقائع حول ما جرى، وكيف يستغلّ بعض اليهود العنصريين والمتعصّبين في العالم، وعلى رأسهم الصهاينة، الحدث التاريخيّ لتعزيز خطاب الضحية، وللاستمرار في قتل الآخرين بالذريعة نفسها الممضّة، متجاهلين أن معنى قولهم "لن يحدث هذا مجدّدًا" (Never again) ينطوي حكمًا وحتمًا، بل يجب أن ينطوي على: لن يحدث هذا مجدّدًا، لا لنا ولا للآخرين. فهل ممنوع أن يحصل فعل إباديّ لليهود بعد الهولوكوست، ولا بأس في حصول فعل إباديّ مماثل تمامًا للهولوكوست (أو يفوقه وحشية) للشعب الفلسطيني؟! هذا يعني بوضوح أن لا بأس على الإطلاق في تحوّل "الضحية" جلّادًا!
للتاريخ مهمة واحدة: قول الحقيقة.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.