يحدث القتل في شيكاغو العشرينيات، لكننا نشاهده ونتأثر به في لوس أنجلس بعد قرن. ما الذي تستطيع أن تقوله لنا نجمة الفيلم عن القتل الذي حدث في شيكاغو؟ الأرجح، لا شيء لديها لتقوله. ما أن تنتهي من تصوير المشاهد العنيفة حتى تعود إلى ما كانت عليه. لن تجد شيئًا لتقوله فعلًا، لا في ما يخص الأزمة الاقتصادية التي قد تعصف بالبلاد ولا في ما يخص حروب الشرق الأوسط. المسألة لا تتعلق بمدى ذكائها وعلو كعبها في المعرفة والثقافة، المسألة تتعلق في أنها لم تتعرض للحوادث، لقد أعادت تمثيلها فقط. وما الموت والجوع والعطش والتعب والإثارة التي حاولت أن توحي بها كلها في السينما في واقع الأمر، أكثر من تخيل للموت والجوع والعطش والإثارة. بل إن مثل هذه المشاعر لا تبدو محتمة، بالمعنى الذي تعنيه توني موريسون، حين ترى أن الولادة قد تكون من رحم المصادفات، لكن الموت محتوم، وقائم. ذلك أن السينما تختار من بين الحوادث التي تريد إعادتها في لوس أنجلس، ما يصلح للقص، ولهذا فهي تهمل حوادث كثيرة قد تكون أكثر رعبا وتشويقا.
مثل هذه الحالات المغرقة في تطرفها هي التي تغذي مخيال الحكايات في السينما، فالسينما لا تحسن، على العموم، جعل الحياة تسير سيرها الهين والجذل أو المر والحزين، إنها تقبع دائمًا في لحظة شكسبير الأدبية، أي في اللحظة التي يجدر فيها بالأدب أو الفن أن يعرّف الأنماط البشرية ويحددها، بوصفها المقياس الذي ستقاس عليه أفعال البشر لاحقًا. فكل عفن في السينما يرسل إلى الأنوف الرائحة نفسها التي كانت تعبق في ممكلة الدانمارك. وكل عاشق قد يكون روميو وكل عاشقة تشبه جولييت.
حلم الماء
يحدث في لوس أنجلس أن الشمس ساطعة، وتكاد السماء تشبه سماء بغداد ونجامينا وريو دي جانيرو في وقت واحد، لكن الشمس الساطعة هنا ليست في واقع الأمر بالحدة نفسها التي تكون عليها شمس بغداد. الطبيعة الصامتة هنا تشبه ديكورًا لفيلم سينمائي، لا شيء هنا متطرفا ولا شيء يبدو قاسيًا وحارًا كالطبيعة العذراء. ربما بسبب من هذا الهوس بالماء، والأشجار دليل قاطع على وفرة هذا الهوس، تمتد لوس أنجلس امتدادها الأفقي. هي مدينة متسعة مثل بغداد. لكنها لا تتسع بحثًا عن الكلأ والماء كمثل حال بغداد، بل تتسع لتصنع كلأ وماءً حيث يمتد صولجانها. إنه رهاب الصحراء، الذي يدفع المدينة لصناعة ما يمكن تسميته الطقس العام والمشترك. الطقس هو ما يبدو مشتركًا وإنسانيًا في لوس أنجلس. لنقل إنهم يزرعون شجرًا في الصحراء، لكن لوس أنجلس لم تكن صحراء، بل إن الصحراء كانت على الدوام كابوسها المقيم. احتمال اجتياح الصحراء قائم وحال في كل لحظة، لكنه لم يحدث بعد. على هذا لا يبدو المقيم هنا مستعدًا للتجذر. إنه يقيم في الانتظار، وفي اللحظة التي يشن الكابوس هجومه النهائي يكون الناس على أهبة المغادرة. والحال، وحيث أن المدينة تتسع اتساعها الأفقي، شجرًا وماءً وبيوتًا تنشأ على عجل، في محاولة منها لإبعاد الصحراء عن قلبها ومركزها، فهي تغامر في سعيها هذا في أن تطرد كل اجتماع من حناياها، وتجعل من هذا المركز منسيًا ومقفرًا، ومعدًا لأخذ الصور التذكارية التي تطبع على البطاقات البريدية. وسط المدينة يتموضع للصورة فقط، لكن الحياة تقيم على الأطراف البعيدة، حيث يشبه المواطنون الجنود الذين يحرسون الحدود.
الناس في هذه المدينة، يشتركون بالطقس وعلى الأغلب بهوس الماء. لهذا لا يندر، بل يغلب على هذه المدينة تنوع اللغات واللهجات. وهذا في حد ذاته ما يمنع أهل المدينة من صناعة المحادثات المجدية والمبدعة.
موت في الحيز العام
كابوس الصحراء المقيم ينشئ على الأرجح في حنايا المدينة نوعًا من رهاب الجفاف. هذا ما يمكن ملاحظته في الوجوه والأجسام. الناس هنا تخاف جفاف الجلد. كل شيء ينتج أو يباع في المدينة يملك صفة الملاسة. الجلد الذي يخشى من جفافه يريد أن يمنع نفسه من أي احتكاك مع ما يمكن أن يوحي بالجفاف. أغطية الفراش ملساء وناعمة، والثياب أيضًا وحتى ملمس الأثاث والأخشاب. أشجار لوس أنجلس ليست أشجارًا متوحشة وشتاؤها لا ينصب على الرؤوس ملتاعًا وعنيفًا. والناس هنا تخشى أكثر ما تخشى جفاف الجلد. على أي حال، كيف يمكن أن نصف الحياة بوصفها تمثيلًا لحيوات أخرى حدثت في أمكنة أخرى إلا بوصفها جلود الحياة السابقة؟ مومياء الجسد المفرغ من أحشائه، والذي لم يتبق منه غير دوام الجلد الأملس. السينما في واقع الأمر لا تترك آثارًا في جسد المدينة وأحشائها. السينما تحدث في الهواء الطلق، ذلك أنها صانعة متلصصين. ففي السينما يحدث الحدث في طلاقة الهواء، وهذا ما يجعله ممنوحًا لكل من يريد النظر وتكرار المشاهدة بعد وقت من حدوث الحدث. الحياة مع السينما تصبح عرضًا وأداءً، ولأنها كذلك يسلك المقيمون هنا كما لو أن الشارع والمكان العام ليسا أكثر من امتداد طبيعي لأسرّتهم وغرف نومهم. الناس تخرج إلى الشارع كما لو أنه جزء من حيز شخصي. لهذا تبدو على المدينة ملامح التقاعد والتثاؤب. وبخلاف المدن الأخرى ليس ثمة عنف ظاهر في المدينة. الاحتكاك بين الأجسام يكاد يكون معدومًا، لكنه حين يحدث فكأنما يحدث أمام الكاميرا، لأن الموت ثقيل جدًا هنا، ثقيل إلى الدرجة التي تذكر المرء بأن السينما رغم فظاظتها الهائلة في احتلال أحياز الحياة كافة وتحويل حاضر المرء إلى ماضي الآخرين، لا تستطيع أن تمنع الموت. لهذا تبدو صناعة المحادثات هنا كما لو أنها تنطلق من النميمة لا أكثر. "لقد اكتسبت بوينسيه بضعة باوندات إضافية، الصور في الداخل" هكذا تعنون المجلات أغلفتها.
وعلى هذا النمط تنشأ المحادثات. أين تناولت كاميرون دياز عشاءها، ومن هو صديق أنجلينا جولي الجديد؟ إنها عينة من محادثات المتقاعدين. الذين من صفاتهم الأهم أنهم يعيشون في الانتظار، انتظار الموت أو النجاة منه يومًا إضافيًا. وهم غالبًا لا يعرفون كيف ينفقون الوقت الممنوح لهم، لهذا يجزون الوقت بالثرثرة. والحال، لا يختلف اثنان على واقع أن ما يحدث في غزة أو دمشق أشد ثقلًا ومرارة مما يحدث بين براد بيت وأنجيلينا جولي. لكن الحديث عن غزة لا يمكن أن يدخل في باب الثرثرة أصلًا. ولسان حال المدينة، أنها لا تملك الزمن الملائم لحل مشكلة غزة. على غزة أن تتم مجزرتها ليتسنى لهذه المدينة أن تتذكرها. لذا يجدر بالحدث الذي يصنع المحادثات فيها أن يتصل بالثرثرة من بابها الأوسع لا أكثر ولا أقل. سيأتي يوم قريب وتعالج هوليوود فجيعة غزة. وعلى الناس أن تنتظر فراغ الحرب من نفسها وعنفها ودمائها، لتعيد السينما صناعتها مجددًا ووضعها على رفوف الذاكرة.
لهذه الأسباب تبدو معظم الأحياز العامة في لوس أنجلس محجوزة لتمثيل الحدث الذي سيحدث. سيحدث خارج لوس أنجلس طبعًا، لكن السينما ستعيد تمثيله في حيز من هذه الأحياز. هنا سيقام مسرح لتمثيل حرب لبنان، وهناك سيقام شاطئ يشبه شاطئ غزة، وها هنا سننشئ وول ستريت مصغرة. لكن الذاكرة لا تعمل إلا بعد أن يتم الحدث الذي يستحق التذكر بيانه ويشهر معانيه كافة. ولأن كثير من الأماكن محجوزة لإعادة تمثيل الأحداث التي تحدث، فإن ما يحدث الآن هنا ليس أكثر من الأحداث التي حدثت سابقًا. لكن الأحداث من الماضي والناس ليسوا كذلك، وحدها السينما تستطيع أن تستعيد الماضي تمثيلًا، وهي لهذا السبب تمنع الناس الذين يعيشون في الحاضر من الدخول في زوبعة الأحداث. بهذا تنجح المدينة التي تقوم في أصل بنيتها على ذاكرات المدن الأخرى أن تدمر الحيز العام تمامًا، وتحوله إلى معنى نافل وغير ذي وظيفة أو جدوى. إذ ما الذي يمكن أن يشغل الحيز العام إذا كانت المدينة، في عيشها اليومي، تعيد سرد ذاكرات مدن أخرى؟
هذه المدينة في ما يبدو، تنتظم حول طرقاتها السريعة. الطرقات السريعة هي حدث الناس اليومي، ومعرفتها تعني معرفة المدينة تمامًا، والناس تلتقي يوميًا وفي مواقيت متعددة على هذه الطرقات، تقود سياراتها من مكان إلى آخر مرورًا بواحد أو أكثر من الطرقات السريعة. بحيث يبدو أن شبكة الطرقات السريعة هي ما يربط أجزاء المدينة بعضها إلى البعض الآخر. وهناك، على الطرقات السريعة يتحول القانون سمحًا وتقل التحذيرات حتى انعدامها تقريبًا. ليس ثمة إشارات سير ولا أماكن يمنع فيها تخطي السرعة المحددة، وأيضًا ليس ثمة ممرات عبور مخصصة للمشاة. وما أن يعبر المرء بسيارته من شارع في المدينة إلى الطريق السريع حتى يشعر أنه تحرر من قوانين لا تحصى. لكن هذه الحرية تغش أيضًا. فعلى الطرقات السريعة يحفظ المرء مسافة تفصله عن جاره ولا يتجاوزها، ليس احترامًا لخصوصية جاره، بل لأنه يخشى على نفسه من الموت. الناس على الطرقات السريعة تدخل في قواقعها الدفاعية وتتجنب الاحتكاك المباشر مع الآخرين. فواقع الأمر أن عاقبة عدم احترام المسافة التي تفصل الواحد عن غيره ليست أقل من الموت. الموت الذي يولد في أحياز لوس أنجلس العامة، والذي يبدو من غير سبب أو جدوى، لأن المدينة تعيش في ماضي المدن البعيدة، ولأن الموت يحدث على هذه الطرقات كعقوبة لواحدة من حالات ثلاث: شطط الذهن أو أحلام اليقظة أو عدم الانتباه. وهذه كلها كما نعلم من بدائه السينما التي من دونها لا تستطيع البقاء.