لا شك في أن كتاب "فلسطين الحداثيّة: يا فرحة ما تمت!"، الصادر حديثًا عن "رواق"، مركز المعمار الشعبي الفلسطيني، ومقرّه مدينة البيرة في الضفة الغربية، مرجع مهم على أكثر من صعيد، من بينها توثيقه لحداثة الفلسطينيين، عبر العمارة، تصميمًا وتنفيذًا، منذ القرن التاسع عشر، مرورًا بأكثر من انتكاسة أطاحت بها، كالاحتلال البريطاني أولًا، ثم نكبة عام 1948، واحتلال ما تبقى من فلسطين في عام 1967، وليس انتهاء بحرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، وكذلك لتسليطه الضوء على إبداعات روّاد فلسطينيين أبدعوا في مجال التصميم المعماري على المستوى العربي، وربّما العالمي، وهو ما لم يحظ من قبل بأي نوع من الاهتمام، علاوة على فضح شيء من جرائم الاحتلالات، وآخرها الإسرائيلي، على مستوى تغيير التخطيط الحضري، في إطار سياسة المحو المتواصلة للكل الفلسطيني.
والكتاب تأليف مشترك حرّره وشارك في تأليفه خلدون بشارة، المعماري والمرمم والأنثروبولوجي، والأستاذ المساعد في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بير زيت، وبمشاركة كل من: المعماري مهند حديد، والمعمارية سحر قواسمي، من "أصحاب فكرة الكتاب إبّان عملهما في رواق، حيث بذلا مجهودًا كبيرًا في البحث، والكتابة، والتصوير، وجمع القصص، ومقابلة المهندسين الروّاد، أو معارفهم، وأصحاب البيوت"، والمعماري والمرمّم يوسف طه، والباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية سليم تماري، والمعمارية والباحثة لانا جودة، والمعمارية والباحثة رنيم عيّاد، والمهندس المعماري والمخطط الحضري أديب نقاش، والأستاذ المشارك في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بير زيت أباهر السقا، ومها السمّان، الأستاذ المشارك في الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري في جامعة القدس، والمهندسة والمخططة العمرانية زهراء زواوي، والمهندس المعماري محمد أبو حماد، والمهندس والمعماري والمؤرخ ندي أبو سعادة.
وينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء، أولها بعنوان "الصعود إلى الهاوية"، وفيه تفريعات في فصله الأول الموسوم بـ"عمارة بين هزيمتين" تتناول جزئيات عدّة بينها: "نحو عمارة حداثية في فلسطين"، و"التتنظيمات العثمانية والسعي نحو الحداثة"، و"الحقبة العثمانية المتأخرة كحقبة مفصلية في طريق فلسطين نحو الحداثة"، و"الانتداب البريطاني: التحديث والحداثة والاستعمار"، و"تل أبيب: الحداثة والاستعمار"، و"النكبة (1948)"، و"حرب 1967 ومآلاتها: الاندماج الاقتصادي والعزل المكاني"، و"التخطيط الحداثي في فلسطين"، و"الانعتاق التدريجي من التقليد"، وغيرها.
وفي الجزء الثاني: "المهندسون الأوائل والمهندسون الروّاد"، كان الفصل الثاني بعنوان "المهندسون الأوائل"، ففي المحور الخاص بـ"المهندسين الفلسطينيين الأوائل"، تم الحديث عن: باسكال أفندي ساروفيم، وهو مهندس بلدية القدس العثمانية، وصمّم برج الساعة العثماني الذي زيّن باب الخليل في القدس عام 1907، ونظيف بك الخالدي، وكان كبير مهندسي مشروع سكة حديد الحجاز، وتوفيق عبد الفتاح عرفات، ويصنف على أنه أول مهندس معماري في نابلس، بحيث تخرج في الهندسة عام 1902، وصمّم ونفّذ عددًا من مباني ودور وبيوت نابلس العتيقة، لا سيما في حي الياسمينة، وراغب بك النشاشيبي، وكان له دور بارز في عملية التحديث العمراني في فلسطين، وخاصة القدس، إبّان الاحتلال البريطاني لفلسطين، وسبيرو ج. خوري، ومن أبرز تصاميمه التي حفرت بنقش معماري يرمز له فيللا إسعاف النشاشيبي في الشيخ جراح في ثلاثينيات القرن الماضي، والعمارة التجارية ذات البلاكين في شارع يافا في الشطر الغربي لمدينة القدس، ورشدي الإمام الحسيني، وهو معماري مقدسي شارك في ترميم الحرم القدسي الشريف، وفي تصميم فندق "البالاس" في "مأمن الله" بالقدس، وصمّم بمفرده البيوت السكنية لعائلة الحسيني في حي الحسينية خارج باب العمود في القدس، وبيت الملك طلال في عمّان.
أما المهندس سليم أبو صوان فكان أول مهندس عربي متخصص في الخرسانة المسلحة، في حين اشتهر جورج الشبر بتصميم وبناء "بيت الشبر" في شارع الملك جورج، وعُرف باسم "البيت الأبيض" في عهد الاحتلال البريطاني، وصمّم، أيضًا، الكلية الأنجليكانية للبنات، وكان له دور بارز في تأسيس الأحياء الحديثة في القدس، وقتذاك، وخاصة "الطالبية".
أنضوني برامكي قام بدوره بالعمل على تصميم كثير من المباني في القدس ورام الله وغزة ويافا والرملة. كذلك داود طليل، وهو من مؤسسي جمعية المهندسين العرب في القدس عام 1936، حيث صمّم عددًا من البنايات والبيوت التي جمعت الحداثة بالتقليد. في حين برز جورج أنسطاس كمصمم لعدد من البيوت المتميزة في بيت لحم والقدس، من أبرزها فيللا السقا بالقرب من "مار سابا"، و"بيت مرقص" في القطمون، وهو ما ينطبق بدرجة أو بأخرى على ميشيل سماحة وغيره ممن تناولهم هذا الجزء من الكتاب.
وفي الجزء ذاته، تم الحديث بشكل منفصل عن "المعمارّيين الأجانب الأوائل في فلسطين"، ومن بينهم: التركي معمار أحمد كمال الدين بيه، الذي رمّم الحرم القدسي الشريف، وصمّم فندق "بالاس" الشهير في القدس عام 1926، كما صمّم المبنى الذي احتضن إذاعة "هنا القدس"، و"المعرض العربي الثاني"، وغيرهما.
ومن بينهم كان المعماري البريطاني تشارلز روبرت أشبي، الذي أسس جمعية "محبي القدس" لتعزيز وحماية الهوية التاريخية للمدينة، وتحت إمرته تمت إزالة برج الساعة عن باب الخليل، الذي صمّمه المهندس المقدسي باسكال ساروفيم، باعتبار أنه "لا يلائم المشهد الكلاسيكي للأسوار"، في حين كان هو من وضع مخطط القدس في عام 1922، ويحمي المباني والمعالم التاريخية للمدينة، ويبرز أسوار القدس من خلال هدم الإضافات التي شيدت بمحاذاتها، أو فوقها، كما رمّم الخندق المائي عند باب الخليل، وأضاف ممرًا وبوابة للمشاة عام 1920.
وتحدث الكتاب عن المهندس المعماري البريطاني أوستن هاريسون، الذي صمّم المتحف الفلسطيني في القدس، والشهير باسم "متحف روكفلر" في "كرم الشيخ"، في منطقة "أبو طور"، على أنقاض بيت الشيخ محمد الخليلي مفتي القدس، وبناه في القرن السابع عشر. كما صمّم قصر المندوب السامي البريطاني على جبل الطور، والذي يستخدم اليوم مقرًا لهيئة الأمم المتحدة. وصمم مكتب بريد يافا، وعمارة البريد المركزي في المدينة ذاتها.
أما الإيطالي أنطونيو بارلونسي، فصمّم كلية تراسانطة للفرنسيسكان عام 1926، كما شيّد عددًا من الكنائس في مختلف أنحاء فلسطين، وأعاد تشكيل كنيسة القيامة من الداخل، وصمّم المستشفى الإيطالي في حيفا، في حين حضرت بصمات الفرنسي لوسيان كافرو، واليوناني باني كورفيانيس، والألماني هيرمان إمبرغر في قصور وفيللات وبيوت سكنية تميزت بفخامتها وحداثة معمارها، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
ويتحدث الفصل الثالث عن "المهندسين الروّاد"، وخاصة: رزق خوري، وهاني توفيق عرفات، وفؤاد الصائغ، وسابا جورج الشبر، وسيد كريم، وتوني إيرفنغ، وبانيشا، ومارشيلو بياشنتيني، وفرديناند بريدنكامب، وغيرهم.
وفي الجزء الثالث من الكتاب، وحمل عنوان "مدن متمردة: حالات حداثية فلسطينية"، ثمة عدد من الدراسات التي حملت عناوينها فصولًا، وتستحق الحديث عنها بالتفصيل، لولا أن المساحة لا تتسع، فكان الفصل الرابع حول يافا بعنوان "أم الغريب" لسليم تماري، والفصل الخامس حول "نزلة البريد" في رام الله لكل من لانا جودة، ورنيم عياد، والسادس حول عمارة حيفا باعتبارها "حداثة مشرقية مبكرة" لأديب النقاش، في حين تناول أباهر السقا في الفصل السابع عمارة دور السينما في قطاع غزة، لتذهب بنا مها السمان في الفصل الثامن إلى حيث "الفندق الوطني"، رابطة ما بين الحداثة والاستجمام في القدس؛ قبل أن يختتم الفصل بدراسة للباحث ندي أبو سعادة، يكشف فيها عن مخطط يافا لعام 1945، ما يعكس الدور الريادي للفلسطينيين، ليس على مستوى التخطيط العمراني للمباني فحسب، بل للمدن أيضًا.
وكان الجزء الرابع والأخير بعنوان "السمات المعمارية للعمارة الحداثية في فلسطين"، وهو ذاته عنوان الفصل الحادي عشر المتخصص في الحديث عن تفاصيل معمارية دقيقة تكمل وصفيّتها، وتحليلها المعماري، الصور النادرة للمباني والأشخاص، على امتداد الكتاب الموسوعة، الذي ينتهي بألبوم صور تعكس تطور "فلسطين الحداثية" معماريًّا.
وجاءت عبارة "يا فرحة ما تمّت!" لتعكس مآلات هذه الحداثة، سواء بانهيار التطوّر العمراني في نهاية الحكم العثماني بالاحتلال البريطاني، أو بانهيار التطوّر العمراني في الحقبة البريطانية باحتلال فلسطين عام 1948، أو انهيار التطور الآخر فيما تبقى من أرض فلسطينية معماريًّا باحتلال عام 1967، والانهيارات المتتالية في الاجتياحات المتكررة للأراضي الفلسطينية، ومن بينها ما عرف بعملية "السور الواقي"، أو "الاجتياح الكبير" للضفة الغربية عام 2002، أو العدوان تلو الآخر على قطاع غزة منذ عام 2008، وحتى حرب الإبادة الحالية المستمرة منذ أكثر من خمسة عشر شهرًا.
وفي حفل إشهار الكتاب، أخيرًا، في مركز خليل السكاكيني الثقافة، أشار محرره خلدون بشارة إلى تأثير العمارة "النيو كلاسيكية" التي استلهمت عناصرها من العمارة الرومانية وعصر النهضة، بحيث ظهرت جليًّا في المشاريع العثمانية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات، فالكتاب أبرز الجهود العثمانية في تخطيط المدن، مثل بئر السبع، وغيرها، خلال أوائل القرن العشرين، حيث تم تصميم الشوارع والنظم المعمارية الحديثة، بل وتطبيق فكرة تقسيم استخدامها بين التجاري والسكني، و"مع بداية الاحتلال البريطاني عام 1917، تغيرت الأمور بشكل جذري، حيث جلب البريطانيون مخططين رأوا ضرورة البدء من الصفر، بعد أن رأوا أن العثمانيين قد أهملوا التخطيط العمراني. ونتيجة لذلك، تم إنشاء مؤسسات الدولة التي تمثل الإدارة البريطانية، موجهة الجهود نحو بناء البنية التحتية، بما في ذلك المباني الحكومية، والبنوك، مثل بنك باركليز، وغيره"، لافتًا إلى "كيفية استخدام البريطانيين للبروباغندا في تصوير فلسطين كأرض فارغة، وتجاهل تاريخها المعماري"، مشيرًا إلى أن الكتاب سعى إلى "توضيح التغيير المعماري في فلسطين، وتأثير كل من العثمانيين والبريطانيين في تشكيل هوية معمارية تعكس السياق التاريخي والسياسي المتغير".
ويتطرق الكتاب أيضًا إلى تأثير العمارة الحديثة على المرافق العامة، مثل المطارات، مُشيرًا بشكل خاص إلى مطار "قلنديا"، الذي يتميز بعنصر دائري في تصميمه، وبرج للمراقبة، ما يعكس التوجه العصري الذي اتبعته تلك الفترة. كما أشار بشارة إلى دخول القطاع الخاص في مجال البناء خلال فترة الانتداب البريطاني، مع ذكر سينما الحمراء في يافا، التي صممت عام 1937 على يد المعماري اللبناني إلياس المر، لتمثل قطبًا ثقافيًا مهمًا في تاريخ فلسطين، مع ملاحظة تطور هذه المباني عبر الزمن.
ويُظهر بشارة أن ثمة قصورًا في تقديم المعماريين العرب والفلسطينيين في المناهج الدراسية الجامعية الفلسطينية، حيث يجري التركيز على أبرز المعماريين الأجانب حول العالم، في حين يتم تجاهل الدور التاريخي للمعماريين المحليين في فلسطين، "فعلى الرغم من أن تاريخ العمارة الفلسطينية يعود إلى عام 1890، إلا أنه لا يوجد اهتمام كافٍ بتدريس إنجازات المهندسين الفلسطينيين".
واللافت أن الصفحة الأخيرة في الكتاب كانت بعنوان "ماذا فعلت عصابة البلماح في فيللا أبو الجبين؟". هذه الفيللا من طابقين، وتعود لزهدي أبو الجبين. بدأ بناؤها بالقرب من "بيت دجن" في ثلاثينيات القرن الماضي، في حين طورّها لمواكبة الحداثة كل من المهندسين ريكارد كاوفمان، ويتسحاق راببورت، كما استعان بالمهندس يحيئيل سيجال لإقامة الحدائق وشلالات وقنوات المياه حول المبنى.
وكان أبو الجبين رجلًا ثريًا وتاجرًا كبيرًا يمتلك شركات في فلسطين وبريطانيا، ويصدر البرتقال اليافاوي إلى جميع أنحاء العالم، حسب المقال الذي أعده جهاد أبو ريا. في هذا البيت المتميّز استضاف صاحبه شخصيات كبيرة، من بينها: ملك السويد غوستاف السادس عندما كان أميرًا، والرئيس السوري عطا بك الأيوبي، ورئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا، وفيه غنت أسمهان: "يا بدع الورد يا جمال الورد"، إلا أنه وفي 26 فبراير/ شباط 1948، نجحت وحدة خاصة من عصابة البلماح بقيادة شلومو لاهط، بالدخول إلى فيللا زهدي أبو الجبين، وقامت بتفجيره على من فيه.
لم يكن زهدي أبو الجبين وعائلته موجودين في بيتهم، فيما نجحت هذه العصابة بقتل وإعدام خمسة عشر من الموجودين فيه، فيما سبق ذلك بقليل قيام العصابة ذاتها بتفجير بيت البيارة، وقتل وإعدام من فيه، وكانوا خمسة.
ورغم قوة الانفجار، لم يهدم البيت بكامله، فجاء المهندس يتسحاق راببورت، المهندس الذي شارك في تخطيط المبنى، ليدل العصابة ويساعدها على تفجيره بالكامل، قبل أن يتضح لاحقًا أن هذا المهندس الذي شارك في التخطيط لبناء كثير من البيوت العربية، مثل بيت عائلة الدجاني، ومستشفى الدجاني في يافا، وبيت محمود عبد الرحيم، الذي تحول إلى بيت للسفير الفرنسي، ما هو إلا عضو في عصابة الهاغاناه، ومسؤول في وحدة الهندسة عن التفجيرات... وقد هدم شلومو لاهط وعصابته فيللا زهدي أبو الجبين، وبيت البيارة، وقتل وأعدم من فيهما، وكانت جائزته لاحقًا أن بات رئيس بلدية تل أبيب ما بين 1974 و1993.