كنّا، فقط، على قيدِ الأنفاسِ في سجّلاتِ الحكوماتِ عندما اندلعت شرارتُه، وما هو سوى ما يشبهُ الثّواني في عمرِ الزّمن، حتى وصَلَنا قبسٌ من تلك الشرارة. أنا لا أتحدث هنا عن أصحابِ الوِجْهةِ الواحدةِ (One Way) في تبنّي نظريةِ المؤامرة. الذين تجمّدت سوائلُ أدْمِغَتِهم فسالتْ من أدبياتِهم كل مفردات العُقْم الذي لا رجاءَ مِنْه، ولا دواءَ لَه. بل أتحدّث عن أبناءِ العُمومِ شرقًا وغربًا (ويشرّفني أنّني بتُّ مِنهم)؛ وأقصد بالعُموم، الجَمْهَرَةَ الأوسعَ والأعمَّ من الناس (ربما يُعجِب بعضَ منظّرينا ومثقّفينا أن يطلقوا عليهم/ علينا لقب العَوام، وليكن... عَوام... عَوام... فهؤلاء/ نحنُ العَوام الأقربُ للفِطرة، الأعمقُ نقاء، والأذكى مجسّاتٍ غيرَ موجّهةٍ ولا متهالكةٍ ولا ضائعةٍ ولا مُضيِعة).
وصلَ القَبَسُ فإذا بملياراتِ الناس في أربعِ جِهات الأرض يُعيدون قراءةَ قصّةِ فِلسطين، وإذا بعشراتِ الملايينِ منهم يَخرجونَ للشوارعِ ليعلِنوا أنهم أعادوا قراءةَ المشهدِ من زاويةٍ جديدة (تلك الزاويةُ العدْلُ/ الحقُّ/ الحقيقةُ التي دخلت (مع تَحَجُّرِ إحداثياتِ القضيّة) غُرفَ النسيان، ووصَلَت، أو كادَت، أبوابَ الذّوَبان). زاويةٌ جعلت آلافَ الأطفالِ في الغربِ الاستعماريِّ الامبرياليِّ يردّدون ما سمعوا آباءهم وأمّهاتهم يُنشدونَهُ أو يَهْتِفونَهُ أو يُعلِنونَه: "من البحر إلى النهر"! فأيّ انقلابِ مواقفٍ هذا؟ أي هزّة كبرى أعادت الدماءَ إلى شرايينِ الأرضِ التي سُرِقَتْ من أصحابِها (الأصليين)؟ أي مطلبٍ جذريٍّ هذا المبثوث في أربعِ كلمات: "من البحرِ إلى النّهر" (أو من النهرِ إلى البحرِ (From the river to the sea)، أو من الميّة لِلميّة (min il-ṃayye la-l-ṃayye) سيّان)، حتى كل الأنظمةِ العربيةِ كانت توقّفت عن المطالبةِ بِه؟
وَهكذا، شعرنا أم لم نشعُر، وفي ظلِّ مخاوفِ تحوّلِ المأساة إلى إحصائياتٍ رقميّة، بدأت تتغيّر سلوكيّاتنا، وصولًا إلى تطليقِ بعضِها إلى غيرِ رجعةٍ طلاقًا بائنًا بينونةً كُبرى. ورغم الإحساس بالعجزِ وما يرافقه عادة، بحسب التشخيص السريريّ، من أعراضٍ ظاهرةٍ: ترددٍ وصمتٍ وتَوارٍ (انعزالِ وتجنّبٍ للآخَرين) وتوترٍ وغضبٍ داخليٍّ، وباطنَةٍ: الإحساس بالذنب، الخجلُ من الذّات، التمسّك بالأملِ السلبيّ، والحاجة إلى التبرير. أقول رغم كل هذا وذاك، إلا أن الزمن الذي أعقب الطوفان فرض أبجدياتٍ عالميةٍ جديدةٍ، وإن استعنا، مرّة ثانية، بالإحصائيات، فإن الـ 467 يومًا حتى إعلان الدوحة الوصول إلى اتفاقيةٍ حول وقف إطلاق النار، شهدت أكبر عدد مظاهرات فوق أرض الكوكب على مدى التاريخ، وأكبر تضامن عالمي مع قضية واحدة، وأكبر هزّة ثقةٍ بين أجيال أوروبا المتعاقبة والغرب جميعه على وجه العموم، وكذلك أكبر هزّة ثقة بين أنظمة الغرب وشعوبه.
إن الإحساس بأن أصحاب القرار العالميّ فرضوا على أبناء العُموم الاكتفاء بدور المراقِب، المتابع عبر مواقع التواصل، وقنوات التلفزة ووكالات الأنباء، والمواقع الإخبارية، والإذاعات، والبودكاست، خلق عند هذه الشعوبٍ، وخصوصًا الشرائح الأخطر منها: طلبة الجامعات، ناشطو مؤسسات المجتمع المدني، الشباب والصبايا ممن كان كثير منهم أقل من 14 عامًا عند اندلاع الطوفان، إحساسًا هادرًا بالرّفض، مغبّة أن يقعوا في خانة العجزِ المُقيم، غير الفاعلين، ولا المؤثّرين، الحانقين أمام الشاشات (بما في ذلك شاشات الخلويات)، المخنوقين من سيادة الصمت، الشاعرينَ أن أصواتَهم لا تصِل، ومطالبَهم لا تجد من نُخَب الحُكمِ، وتجّار السلاح، ومراكزِ النّفوذ آذانًا مُصغيَة.
ولكنهم، وحين يرون أنْ "لا رايةً بيضاء رُفِعَت" في القطاع المستحيل صمودًا وفرادةً واستثنائيةً غيرَ مسبوقةٍ على مدى التاريخ المكتوب والمحفور داخل جدرانِ الكُهوف، يعودون إلى انتفاضِهم، يجرّبون وسائل أخرى من تعبيرهم عن رفضهم للمقتلةِ والإبادةِ الجماعيةِ القائمةِ على الهواء مباشرةً؛ يشكّلون علم فلسطين على امتداد ساحةٍ في مدريد، أو كوبنهاجن، أو أمستردام، أو غيرها وغيرها من عواصم العالم ومدن الكوكب، يمدّون أكفانًا صغيرة بعدد الأطفال الشهداء، يرقصون رقصة أصحاب الأرض الأصليين.
يستعيدون أغنيةً لِثوّار الجبالِ في روما، يكمّمون أفواهَهم، يفترشون حرم جامعاتِهم، يبنون خيامًا كالتي ملأت كل أرضٍ في غزّة هناك. يفعلون أيَّ شيءٍ يجنّبهم الشعورَ بالعجزِ، وأنهم واقعون تحت ما يسمّى في علم النفس ومعه علم الاجتماع "إرادة المساعدةِ المكبّلة"، فالمشاعر المرافقة لهذه الحالة هي من أكثر المشاعر إيلامًا، حيث الرغبة العميقة في المساعدة بدون امتلاك الوسائل، ما يولّد حسرةً داخليةً دفينَة. وهو ما قد يؤدي إلى إصابة الأشخاص الواقعين تحت نيرِ هذه الإرادة المكبّلة بالتشاؤمِ والإحباطِ، وصولًا إلى "فقدانِ التعاطفِ التدريجيّ".
تبدّلاتٌ مضنيّة
مرّ الأفرادُ على امتدادِ جهاتِ الأرض، خلال أيام الطوفان الطويلة، بتقلّبات عاطفيةٍ وجدانيةٍ سلوكيةٍ مريرةٍ، صعودًا وهبوطا، أملًا ونكوصًا، إقبالًا وإحجامًا. مرّة يقعون تحت تأثيرِ العجز المكتسب (Learned Helplessness) الذي يرى عالم النفس الأميركي مارتن سليغمان (1942) أنه يولّد شعورًا عميقًا بالعجزِ والخضوعِ للألمِ النفسيّ، وفي أُخرى يصابون بإرهاقٍ عاطفيٍّ ناتجٍ عن التعاطف (Compassion Fatigue) الذي تناولته بالبحث والتمحيصِ الباحثة كارلا جونسون، متناولةً، على وجه الخصوص، أولئك الذين يعملون في المساعدات الإنسانية أو الخدمات الطبية، وفي ثالثةٍ يصبحون ضحيةَ تأثيرِ المتفرّج (Bystander Effect) وهي الحالة التي قد يكون تعريفها الأدق هو الذي خُلَص إليه العالمان جون دارلي (John Darley) وبيب لاتاني (Bibb Latané)، ألا وهو: "ميل الناس إلى الامتناع عن التدخّل في الحالات الطارئة، خاصة عندما يكون هناك عدد كبير من المراقبين. حيث تتفاقم الظاهرة عندما يشعر الفرد أن مسؤوليته تقل بوجود آخرين". يُذكر أن دارلي هو أستاذ جامعي وعالم نفس أميركي ولد عام 1938، في يافا، ورحل عام 2018، في ولاية نيوجيرسي الأميركية.
أما أخطر التبدّلات المضنيّة التي مرّ بها الناس خلال الأشهر الماضية، فهي وصول بعضهِم إلى مرحلة التبلّد العاطفي، التي أبْحر عالم النفس الأميركي من أصولٍ تشيكيةٍ بول سلوفيتش (Paul Slovic) فيها بحثًا ودراسة، ليخلُص إلى أن الناس يصبحون أقل قدرة على الشعور بالتعاطف عندما تزداد الأعداد (ما يُعرف بـ"أثر الفردية" أو "The Identifiable Victim Effect"). وربما تجدر الإشارة هنا إلى مقولةٍ قاسيةٍ صرّح بها ستالين ذات مَقْتَلَة: "موت إنسان واحد هو تراجيديا، أما موت الملايين فهو إحصائية"! أي بمعنى أن ضحايا أكثر يجلبون تعاطفًا أقل!!
وربما من المناسب في هذا السياق المرورُ على التجربة التي أجراها سلوفيتش في جامعة أوريغِن التي يدرّس بها، عندما أخبر المتطوعين عن فتاة صغيرة تعاني من المجاعة ثم قاس مدى استعداد المتطوّعين للتبرّع لِمساعدتها، ثم قدم قصة الفتاة الجائعة نفسها لمتطوعينَ آخرين مع إخبارهم أن ملايين غيرها يعانون ما تعانيه من فاقةٍ وَمجاعة، والمفاجأة كانت أن الناس الذين عُرضت عليهم الإحصائيات إلى جانب المعلومات عن الفتاة قدموا حوالي نصف المال المُقدّم من طرف المتطوعين الذين أُخْبِروا عن الفتاة الصغيرة فقط، ما جعله يستنتِج أن الناس يصيبهم الإحباط المؤدي إلى الإحجام إزاء ما لا يمكنهم فعله، ويفقدونَ حسَّ الفاعلية، حيث تخلقُ عقولُنا وهمًا من عدم الفاعلية. وهي طريقة في التفكير تثبّط، بحسب سلوفيتش، حافز الناس للعطاء والتعاطف.
الانبهارُ المُقْعِد
قد لا أبالغ إن ادّعيتُ أن هذه الحالةَ النفسيةَ الاجتماعيةَ المركّبةَ هي من بنات الطوفان، وليس لها مقابلاتٍ قبلَه. وأما المقصود بها فهو أن ما ملأ أعماق المؤيدين للطوفان المتقاطعين معه من انبهارٍ حول بطولات المقاومة، وصمود حاضنتِها، ربما، أدّى إلى حالةٍ من الرُكون، أنّ من أطلق الطوفان قادرٌ على إدارةِ ملفّاته، وتولّي تفاصيلِه، وما علينا إلا أن نقعدَ نتفرّجَ مبهورينَ معجبينَ ملوّحينَ بشاراتِ النّصر إن صادف أن نزلنا إلى مظاهرة، أو رغبنا بنشر صورة، أو منشور لنا في صفحات مواقع التواصل.
انبهارٌ فاق ما تواضعَ الناسُ عليه من منطق القوّة، وتمرّد على فكرة أن الغرب لا يُقهر، وأن العدو الصهيونيّ غيرُ قابلٍ للهزيمة، فإذا به (كل هذا الانبهار) وبدل أن يفجّر فينا قوى التكامل معهم وفتح جبهات إسناد لهم، لتعزيزِ كل هذه البطولات، وتزيينِ كل هذا الصمود بِالجدوى، إذا بنا نكتفي بالشعرِ حوله، وتدبيجِ الشعارات، وتزويقِ المفردات، على طريقة (القرعاء) التي تتباهى بشعر ابنةِ شقيقتِها (شفتوني ما أحلاني أنا خالة اللي شعرها حلو)!
ولعل أخطر ما رافق هذا الشعور هو الرّكون (يا عمّي هظول أبطال لا يُهزمون). أما التّواكُل على الأدعيةِ والصّلوات فشكّل خطرًا جسيمًا آخرَ من أخطار تقلّبات السلوكيات وأشكال ردود الفعل منذ اندلاع الطوفان، حين تصبح هذه الأدعيةُ وهذه الصلواتُ معادلًا لتطهّرٍ داخليٍّ يُشعرنا بِالاكتفاء، تحت شعار أننا لا نملك إلا الدعاء لهم!!!
عن الانتظار
لعلّ من المفيد حول هذا البَند الابتعاد على الحديث العام، مُحَدِّثًا لكم عن نفسي، حيث كادت حالة الانتظار المتواصلة على مدى أزيد من 15 شهرًا أن تشلّ مختلف معطياتِ وجودي، وتعطّل ميكانيزماتِ تفاعلي مع محيطي وواجباتي الاجتماعية والمهنية. انتظار خبرٍ من هُنا، أو مبادرة من هناك... انتظار حدوثِ تحوّل جذريٍّ في مواقف الأنظمة العربية... انتظار فضيحةٍ في البيت الأبيض، أو انقلاب في الكنيست... انتظار زلزالٍ يفجّر كل الكوكب، أو فليصمت زلزال غزّة...
حالةٌ من الترقّب القسريّ فرضها الواقع على وجداني، بوصفي شاهدًا لا يملك أدوات التأثير على الأحداث حولي أو تغيير مسارِها. ومع الأيام والأسابيع والأشهر، أصبح الانتظار عبئًا نفسيًا يثقل روحي، متقلبًا بين أمل وخوف، بين الحاجة لتحقيق أحلام يقظتي المنتظرة التوّاقة لِما هو، ربما، أبعد من الواقع، وبين الرغبة في أن يتوقّف كلُّ شيء.
انتظارٌ أدخلني في توترِ دائمٍ ودوّامةِ تقلّبات عاطفية، وأشعرني بالعجز المُقيم، وأنْهكني نفسيًا وجسديًا، واجهته أحيانًا بتأسيس صفحة واتساب لِعيون المقاومة وأسميتها "مع المقاومة" وأدخلتُ فيها مئات الناس موهمًا نفسي أنها قد تحدث فرقًا وتدعمُ مقاومةً... وأحيانًا بإرسال ما تيسّر... ومرّات بالتعرف على أناسٍ من أهلِ غزّة والتواصل معهم، والاتصال بهم، وسماع أخبارهم... ولكن كل هذا وذاك وذاك لم يخفّف من بشاعةِ حالة الانتظار، خصوصًا مع تمدّدِ أيام العدوان، وفي المقابل تواصُلِ أيام المقاومة والصمود... إلى أنْ لم أعد أطيق سماع رقم شهداء اليوم وكل يوم... وإلى أنْ تحوّلَ الانتظارُ إلى كابوسٍ أطبقتْ كلاليبُه على دروبِ أنفاسي... وصارَ بسهرهِ وأرقهِ وَنَوَاساني فيهِ عنوانًا لكلِّ المآسي.
كاد الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير 2025 (وهو، على كل حال، تاريخٌ علينا أن نحفظه جيدًا)، أن يتجلّى بوصفه انتهاءَ زمن الانتظار، لولا معلومة بلغتني في آخر لحظة قبل أن أنفجرَ فرحًا بكاءً هذيانًا، أن المفاوضات عَجِزت أن تجعلَ من الأيام الثلاثة قبلَ بِدْءِ تبادلِ الأسْرى أيامَ تهدِئَةٍ، ما أعادني مرّةً ثانيةً داميةً إلى الانتظار... وليتحوّلَ جلُّ اهتمامي إلى التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير 2025.
في مسرحية "في انتظارِ جودو" للفرنسي صمويل بيكيت (1906-1989) من ترجمة الشاعر والمسرحي اللبناني بول شاول وتقديمه، يسأل فلاديمير أسترَجون:
- من أين تأتي كل هذه الجثث؟
فإذا بجواب أسترَجون يتساوَق مع روح النَّصِّ المحتشدِ بكابوسيةٍ مغلّفةٍ بِالعبث:
- وما أدراني... في منطقةٍ أُخرى... ليس الفراغُ هو الذي ينقُص.
ثم يعاودُ فلاديمير طرْحَ الأسئلةِ والغوصَ في التأمّلات:
- هل نمتَ بينما كان الآخرون يتعذّبون؟
غدًا عندما أظنّ أنّي أستيقِظ ماذا أقول عن هذا اليوم؟ هل أقول إنني برفقةِ صديقي استرَجون، وحتى هبوط الليل، واصلَنا انتظارَ جودو؟ وأي حقيقةٍ تكمنُ في كلِّ هذا؟ الهواء مليءٌ بالصّراخ، لكنّ العادةَ عازلٌ عظيم.
ثم ما يلبثُ استرَجون أن يسألَه:
- ولكن، ماذا لو جاء، أخيرًا، جودو؟
فيرد عليه فلاديمير من دون تردد:
- نفوزُ بِالخَلاص.