وتقف مدينة داريا السورية بريف دمشق في مقدمة المدن السورية التي شاركت في الثورة من بداياتها، وسجلت حضورًا قويًا فيها، ودافعت بقوة عن حق الشعب السوري في الاحتجاجات السلمية، وكان نشطاؤها يوزعون الورود وأغصان الزيتون والمياه على عناصر جيش النظام وأمنه في البدايات إلى أن بدأت أعمال القتل والاعتقال والقصف العنيف بالصواريخ وقذائف المدفعية والقنابل الفراغية والبراميل المتفجرة على مدينة العنب وبساتينها ومنازلها ومؤسساتها الطبية والتعليمية والخدمية ومساجدها وكنائسها وكل ركن فيها، وبدأت أيضًا عمليات الحصار الخانق والاقتحام وحفر الأنفاق وارتكاب المجازر للسيطرة على البلدة العريقة التي تمتاز بتاريخ حافل بالإشعاع الحضاري والمعرفي على مرّ العصور، والتي تأخرت جدًا في حمل السلاح ودعا شبانها وأهلها للاحتجاجات السلمية قبل أن يتغول النظام في القتل والانتهاكات.
تقع داريا غرب العاصمة دمشق بحوالي ثمانية كيلومترات، وهي قريبة جدًا من حي المزة الدمشقي ومدينة معضمية الشام المنكوبة، وتُعدّ أكبر مدن الغوطة أيام الفتح الإسلامي، ترتفع عن سطح البحر حوالي 719م، وكانت قديمًا مركزًا إداريًا لجميع قرى وبلدات ومدن الغوطة الغربية. تتمتع بأهمية استراتيجية خاصة حيث تبعد بضعة كيلومترات عن القصر الجمهوري ومسافة قصيرة عن مبنى رئاسة مجلس الوزراء في حي كفرسوسة الدمشقي، ويقع مطار المزة العسكري، أحد أهم المطارات العسكرية في سورية، على تخوم المدينة الشمالية مباشرة، وهي قريبة من أوتستراد دمشق- درعا الذي كانت تستخدمه قوات النظام في الإمدادات، ولذلك أخذ الصراع فيها بعدًا استراتيجيًا هامًا وتعرضت لدمار كبير، ولكنها أيضًا أذاقت النظام وميليشياته طعم الهزيمة والذل وصمدت صمودًا أسطوريًا بأسلحة متواضعة على مدى سنوات من عمر الثورة السورية.
داريا كلمة سريانية تعني البيوت الكبيرة، مشتقة من كلمة دار والنسبة إليها داراني. يعود تاريخها إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وترتبط بتاريخ دمشق. كانت معقلًا للغساسنة إلى أن جاء الفتح الإسلامي بقيادة أبي عبيدة بن الجراح عام 635م، وأكبر قرى أهل اليمن بغوطة دمشق. تأثرت بمعظم الأحداث التي اعترت الحكمين الأموي والعباسي سياسيًا وعسكريًا، وتعرضت لحريق كبير عام 126 للهجرة نتيجة منازعات الخلافة آنذاك كونها سكنًا لقبائل يمنية، وللفتن بين القيسية واليمانية أو ما يُعرف بفتنة أبي الهيذام بعصر هارون الرشيد حيث حُرقت ونُهبت، وتأثرت أيضًا بالزلزال الكبير عام 233 للهجرة وبالأحداث والمنازعات بين الأتابكة والسلاجقة عام 416 للهجرة وتعرضت للغزو الصليبي وغزو التتار ثم للاحتلال الفرنسي.
ورد اسمها على لسان عدد من الشعراء الكبار كحسان بن ثابت، الشاعر العربي والصحابي من أهل المدينة المنورة، والصنوبري، شاعر الروضيات الذي وُلد في مدينة حلب، والبحتري، أحد شعراء العصر العباسي والذي كان يرافق الخليفة المتوكل في داريا فكتب عنها يقول:
العيش في ليل داريا إذ بردا
والراح نمزجها بالماء من بردا
عُثر في المدينة على إله الحب عند الرومان: "أيروس"، وفيها العديد من الجوامع والمقامات والأضرحة والكنائس.
كانت داريا الخزان الصناعي والزراعي للعاصمة دمشق، يعمل سكانها في زراعة العنب المشهور ببلاد الشام والزيتون والخضراوات وفي صناعة المفروشات ومهن عديدة أخرى. وفيها مدارس ومراكز تعليمية وثقافية ومؤسسات خدمية وطبية وصناعية وتجارية. وكانت سابقًا تُعدّ مركزًا إداريًا لجميع قرى وبلدات الغوطة الغربية.
تعرضت لحملة همجية عسكرية على مدى سنوات بعد قيام الثورة السورية، وهذا ما جعل الأمم المتحدة تسميها: "العاصمة السورية للبراميل المتفجرة"، بينما سماها الناشطون: "مدينة العنب والدم"، وسماها المحللون السياسيون: "مقبرة دبابات النظام" لتكبيدها نظام الأسد خسائر فادحة في المعدات العسكرية وفي الجنود ورجال الأمن والميليشيات الطائفية.
شاركت بشكل كبير ونوعي في الثورة السورية، وكانت أولى مظاهراتها السلمية في 25 آذار/ مارس 2011 بعد أيام من انطلاقتها، ثم تمددت الاحتجاجات فيما بعد وأصبحت منتظمة يشارك بها غالبية سكان داريا وينظمها عدد من النشطاء السلميين، وعلى رأسهم الشهيد غياث مطر، ابن داريا وسفير الورد الذي اعتقلته قوات الأمن السورية مع الناشط يحيى شربجي في 6 أيلول/ سبتمبر بعد أشهر من انطلاق الثورة، وكان ضليعًا وأساسيًا في تنظيم الاحتجاجات السلمية، وهو من الذين نادوا بسلمية الثورة، ولكن وبعد أربعة أيام من اعتقاله سُلمت جثته إلى أهله شهيدًا تحت التعذيب الوحشي بعد أن سُرقت أعضاؤه كما أكد أهله للاتجار بها وبيعها من قبل النظام الضالع بهذه التجارة، واستُشهد أيضًا يحيى شربجي وأخوه معن شربجي تحت التعذيب في فترة لاحقة.
أصدر النشطاء أيضًا في بداية الثورة السورية جريدة أسبوعية بعنوان "عنب بلدي"، كانوا يوزعونها بسرية تامة خوفًا من النظام وشبيحته، ويتحدثون فيها عن أهداف الثورة وضرورة وحدة الشعب السوري والإصرار على تحقيق الحرية والكرامة وعن قمع النظام وسياساته التعسفية. وفي العام نفسه استخدم النظام السوري السلاح في نيسان وفتح النار على المتظاهرين السلميين لتفريقهم والقضاء على الاحتجاجات وقتل سبعة من المدنيين في يوم "الجمعة العظيمة"، وكثّف الحواجز الأمنية وقطع الاتصالات عن داريا وبدأت عمليات القتل الجماعية والاعتقالات، واستُشهد في هذا اليوم "المعتز بالله الشعار" الذي قُتل برصاص الأمن على أحد الحواجز العسكرية داخل المدينة.
وفي عام 2012 ارتكب النظام السوري جرائم حرب بحق أهالي داريا كما في "جمعة عذرًا حماة"، اليوم الدامي الذي سقط فيه عدد كبير من الشهداء والجرحى، وخرج الأهالي في اليوم التالي لتشييعهم ففتحت قوات أمن النظام وشبيحته النار عليهم مجددًا وقتلت وجرحت أعدادًا كبيرة من المشيعين بينهم أطفال وشيوخ. وارتكب النظام السوري أيضًا في آب/ أغسطس من العام نفسه مجازر مروعة في داريا أدت لنزوح سكاني كبير شمل غالبية سكانها (220 ألفًا) الذين خرجوا باتجاه مناطق أكثر أمنًا تحت وابل من القصف وإطلاق الرصاص والقنص. وبدأ النظام في هذا العام حملة شرسة بالأسلحة الثقيلة على المدينة وبقي الجيش الحر يدافع عنها بعد أن خرج أهلها تفاديًا لوقوع مجازر جديدة، وبدأت قصة الحصار والتجويع والإرهاب اليومي والصمود والبطولات الاستثنائية التي جعلت من داريا أيقونة من أيقونات الثورة السورية.
وفي أواخر آب/ أغسطس 2012، وبعد أن انسحبت المعارضة المسلحة من داريا خوفًا على المدنيين، قامت قوات النظام باستباحة المدينة ومداهمة منازل الأهالي وتصفيتهم رميًا بالرصاص وذبحًا بالسكاكين على مدار أسبوع، وقامت بإعدامات جماعية للأهالي في الساحات والشوارع ودور العبادة والأقبية. نساء وأطفال وشيوخ ذُبحوا وتُركوا لمصيرهم في أبشع جريمة حرب بلغ عدد شهدائها أكثر من 700 شهيد، وقد عاد الجيش الحر بعدها إلى داريا لتصمد أربع سنوات بعد ذلك أمام همجية النظام وميليشياته الطائفية من إيران وحزب الله وغيرهما، ولكن النظام غيّر من سياسته واستخدم القنابل الفوسفورية والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وقنابل النابالم والتجويع والحصار بعد ذلك وفصل معضمية الشام عن المدينة لخنقها وقطع خطوط الإمداد عليها. وفي نهاية العام 2012 حدثت معركة داريا التي سيطر الجيش الحر فيها على المدينة، ولذلك تم عزلها وقصفها مع مدينة المعضمية المجاورة.
استمرت عمليات القصف العنيف بالبراميل المتفجرة والغازات السامة فيما بعد. وفي عام 2015 قام النظام وأجهزته القمعية والميليشيات الإيرانية وحزب الله بحملة هي الأعنف على داريا، ورغم حضور وفد من الأمم المتحدة في عام 2016 لمعاينة الوضع الإنساني الكارثي (تجويع – تدهور القطاع الصحي – غياب الخدمات كليًا – انتشار الأمراض – القصف المتواصل) إلا أنهم لم يستطيعوا أن يُدخلوا في العام نفسه في حزيران/ يونيو إلا مساعدات طبية أممية قليلة، ولم يسمح النظام بدخول المساعدات الغذائية وأصرّ على تجويع كل من بقي في داريا صغارًا وكبارًا.
ونتيجة للحصار الخانق والحملات العسكرية الوحشية المتواصلة والوضع الإنساني المتهالك الذي تعرض له أهالي داريا، توصلت المعارضة في آب/ أغسطس 2016 لاتفاق مع النظام يقضي بخروج المدنيين منها وإجلاء المقاتلين وعائلاتهم إلى إدلب وتسليم المدينة إلى قوات نظام الأسد بضمانات دولية وبإشراف الصليب الأحمر الدولي، ومنذ ذلك التاريخ خلت مدينة العنب والدم من أهلها تمامًا، وعاث فيها النظام وحلفاؤه فسادًا ونهبًا وإجرامًا، وخصوصًا بعد خروج قسم من المعارضة المسلحة وأهلهم إلى قلعة المضيق بريف حماة.
تشكّلت المعارضة المسلحة في داريا من عدد من الألوية والكتائب. أما المجلس المحلي فقد تأسس في الشهر العاشر من عام 2012 وهدفه تمثيل مدينة داريا لدى الجهات الأخرى داخل سورية وخارجها والإسهام في التأسيس لسورية الجديدة وضمان الاستقرار والسلم الأهلي بعد سقوط النظام.
لقد بدأ ظهور الجيش الحر في داريا ببضعة أشخاص يحملون أسلحة قديمة - كلاشينكوف ومسدسات- ولكنه تطور مع ازدياد المنشقين عن النظام والمتطوعين، وبدأ باقتناء الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والتنسيق مع الفصائل الأخرى في المناطق المجاورة (معضمية الشام - المزة - كفرسوسة - القدم). وتشكّلت العديد من الكتائب المسلحة ولكن بعد بدء المعارك توحدت كتائب دمشق وريفها وبعد مجزرة داريا الكبرى توحدت جميع الفصائل تحت "لواء شهداء الإسلام" الذي تحالف فيما بعد مع تشكيلات الجبهة الجنوبية. ومن أبرز العمليات التي خاضتها المعارضة المسلحة عملية كسر الحصار عام 2014 ومعركة لهيب داريا عام 2015 لتخفيف العبء والضغط العسكري والاقتصادي عن مدينة الزبداني التي تعرضت لحملة شرسة من نظام الأسد وميليشيات حزب الله، ولضرب مطار المزة العسكري لشلّ حركة الطائرات المروحية.
وقد استطاعت هذه المعارضة تدمير أعداد كبيرة من الدبابات وإحداث خسائر فادحة في صفوف النظام والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والتي تجاوزت أكثر من 5000 قتيل، ودمرت أكثر من 60 آلية عسكرية وتم اغتنام مصفحات وأسلحة متنوعة. بالمقابل دمر النظام أكثر من 80% من البنى التحتية للمدينة وأجبر 90% من سكانها على النزوح والتهجير، وكما ذكرت مصادر حقوقية فإن عدد شهداء داريا خلال السنوات الماضية بلغ 3500 شهيد، منهم 1000 شهيد قتلوا تحت التعذيب وعدد المعتقلين بلغ حوالي 2900 بينهم نساء وأطفال.
وقد كان للمرأة حضورٌ هام في المظاهرات والاعتصامات والعمل المدني والاهتمام بالجرحى وتقديم الدعم النفسي للأطفال والطعام والدواء للثوار وتعرضت أعداد كبيرة منهن للاعتقال والتعذيب الوحشي والابتزاز.
داريا التي كانت رمزًا للهدوء والعمل الزراعي والنشاط الاقتصادي هي الآن عبارة عن مبانٍ مدمرة تعاني من انخفاض الإنتاج الزراعي بعد أن كانت من أهم المراكز الزراعية والتجارية في ريف دمشق قبل 14 عامًا، وتحتاج لإعادة الإعمار ولتأهيل البنى التحتية والأراضي الزراعية والخدمات بعد أن تعرضت لغزو عقاراتها ولعمليات تزوير قامت بها شبكات أمنية سورية وإيرانية في السجل العقاري لملكية أصحابها الحقيقيين في واحدة من أكبر عمليات سرقة العقارات ومحاولات التغيير الديموغرافي لصالح إيران وحزب الله.
وتبقى داريا مدينة عريقة استطاعت تحويل الوجع والموت إلى قوة، وصمدت في وجه الجوع والإجرام وأعتى الأسلحة وأشدها فتكًا، وكانت وستبقى مدينة للعنب الشامي بلا دم وبلا براميل متفجرة.
واليوم وبعد سقوط نظام الأسد المجرم تتذكر داريا شهداءها الأبرار، تتذكر غياث مطر الذي قال: "تذكروني عندما تحتفلون بسقوط النظام، تذكروا أنني أعطيت روحي ودمي من أجل هذه اللحظة".
مراجع
- مركز توثيق الانتهاكات في سورية؛
- بوابة سورية.