شكلت نتائج الانتخابات الأميركية التي فاز فيها دونالد ترامب مفصلًا حادًا في تناول الشؤون العامة على أكثر من مستوى. وقد تكون مسألة فشل التوقعات وأخطاء استطلاعات الرأي هي قمة جبل جليد التغيرات التي تحفل بها مسألة تناول الشؤون العامة والاهتمام بها في العالم، وفي أميركا خصوصًا. استطلاعات الرأي أخطأت في تقديراتها مرتين مع ترامب نفسه. وهذا أمر يجدر بنا التفكر فيه. كما لو أن استطلاعات الرأي، الأميركية خصوصًا، تكون دقيقة حين يكون المتنافسان قادمين من المؤسسة نفسها. تلك المؤسسة التي لطالما صنعت الرأي العام الأميركي وأنجبت سياسييه ورؤساءه.
قبل نهاية عهد جو بايدن بنحو عام واحد، نشر دانيال ماركوفيتس كتابه "فخ الجدارة" الذي أوضح فيه من جملة ما أوضح، أن نظام التعليم الجامعي الممتاز يجعل الطلاب غير قادرين على العيش في هذا العالم، بمعنى أنهم يبذلون جل وقتهم في التحضير لدراستهم ولا يتبقى لهم أي وقت لمعرفة كيف يدور العالم وما هي القضايا التي تعصف فيه. ما يعني أن الجامعات الكبرى أصبحت تخرّج قادة للبلاد يعرفون بلادهم من الكتب وليس من الواقع.
على أي حال، لطالما كانت سنوات الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة هي السنوات الحرة القليلة في حيوات الكائنات الأميركية. قبلها يكون هذا الكائن مراهقًا ومحكومًا بعلاقات معقدة مع عائلته تختلف من شخص إلى آخر. وبعدها يدخل الكائن الأميركي إلى سوق العمل القاسية والعنيفة، التي يطحن فيها كل رغبة في التفلت من أعبائها. وتفرض عليه التزامات لا حصر لها، وتخضعه لقوانين وأعراف لا يمكن حصرها. وبالتالي، يمكن وصف سنوات الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة بـ "سنوات الخفة" التي لا يمكن تكرارها.
مع ذلك، وربما لهذه الأسباب، لا تقيم مؤسسات العمل الكبرى في الولايات المتحدة وزنًا للشهادات الجامعية، إلا إذا كان المرء معدًا سلفًا، للخوض في الشأن العام، والتحول إلى قائد سياسي أو رئيس مقبل. في أميركا لا أحد يسأل أحدًا عن شهادته، بل يُسأل عن خبرته. والخبرة في هذا المقام أمر معقد وبالغ التنوع. فأن يعمل المرء مهندسًا كهربائيًا لحسابه، لهو أمر يختلف عن أن يفتح مطعمًا، أو أن يعمل موظفًا في وول مارت، أو في كوتسكو. في الحالة الأولى يستطيع المرء أن يتجنب كل اتصال عميق بالآخرين، العلاقة بينه وبين الآخرين تكون علاقة عمل خالصة، ويستطيع أن يعتنق ما يشاء من أفكار وأن يتصرف في منزله وفي دائرته الضيقة وفق قناعاته هذه. لكن التقدم لنيل وظيفة في وول مارت، تحتاج من طالب الوظيفة إلمامًا كبيرًا بكل ما يقلق الاجتماع، ويحتمل أن يؤدي إلى ملاحقة المؤسسة أمام القضاء المختص. على طالب الوظيفة في مثل هذه المؤسسات، أن يتعلم كيف يتصرف مع المتنمر والمتحرش، والسارق بقوة السلاح، والمخمور، وأن يحرص حرصًا شديدًا على ألا يصدر عنه أي إشارة أو علامة تدل على تمييز بين النساء والرجال، أو بين البيض والسود، أو بين اللاتينيين والآسيويين. في الخلاصة، المتقدم إلى وظيفة في مثل هذه المؤسسات، عليه أن يلم بكل ما سبق، فلكي يتسنى لك أن تملأ رفوف السوبر ماركت بالبضائع، لا تحتاج إلى قوة عضلية وحسب، بل تحتاج إلى ثقافة قانونية عالية، في مجتمع يجيد استصدار القوانين من دون رادع وبسرعة قياسية.
ما الذي يتعلمه المرء في هذا المجتمع ليعبر نهر المصاعب والعقبات؟ عليه أن يتعلم الصمت. الصمت حيال كل شيء، حيال من يهاجمه متهمًا إياه بأنه ينظر باستعلاء للمقعد على كرسي متحرك، وأن لا ينبس ببنت شفة حيال تعري امرأة في أحد ممرات السوبر ماركت، لئلا تدينه بالتحرش بها. والأمثلة كثيرة ولا تحصى. وتاليًا، فليس ثمة ممر أضيق من ممر الصمت والتغاضي، وهو مجبر على العيش في هذا الممر طوال زمن إشغاله لهذه الوظيفة.
لكن الأمر لا يقتصر على الوظيفة فقط، ثمة أيضًا القيود المفروضة في الأمكنة العامة. وهي قيود مشابهة لقيود الوظيفة، لكن مخالفتها لا تؤدي دائمًا إلى خسارة المرء لعمله، إن لم ينشر أحدهم فيديو لهذا الشخص وهو يعتدي على الأعراف العامة ويخالفها.
بالعودة إلى الانتخابات، يبدو أن ثمة ميلًا عامًا تكوّن على مدى العقود الماضية لدى الأميركيين والأوروبيين لتجنب المسائل الشائكة. لقد أظهرت سنوات الانفتاح المفرط في إنتاج الرأي أن الرأي الخاص، الذي كان يشيع بين المرء وأصدقائه الخلّص، بات مكلفًا إلى حد كبير، ومن نتائجه أن المرء قد يخسر عمله في بلد كالولايات المتحدة، لكن إعلان هذا الرأي في بلاد أخرى مثل بعض بلادنا المشرقية قد يؤدي إلى السجن والقتل والاغتيال.
ثمة أيضًا معضلة أخرى باتت تحف بصناعة الرأي وإعلانه. وهي مشكلة تتعلق بقدرة أي طرف سلطوي على تجييش حملة تخوين ضد أي صاحب رأي. وهذه حملات تنتج ميلًا عامًا لدى صنّاع الرأي كتّابًا وناشطين، إلى التردد في إعلان الرأي، وتفضيل الصمت على الخوض في سجالات لا تصل إلى نتائج من أي نوع.
في هذا العالم، الذي بات على هذا القدر من الضيق، تحولت الآراء المدعومة من قوى نافذة في السياسة والاقتصاد والإعلام، إلى قرارات غير قابلة للمساءلة العلنية. ما دفع بأصحاب التوجهات المخالفة والمعترضة على توجهات تلك القوى النافذة إلى اللجوء إلى الصمت، وانتظار الفرصة المناسبة للانقلاب على هذه السلطات، بخيرها وشرها.
والحال، تحولت صناعة الرأي مع انتشار وسائل إبدائها من دون رادع، إلى سلطة ديكتاتورية تمنع كل مخالف أو معترض أو محتج، من إبداء اعتراضه على هذه السلطات. ما جعل الرأي العام غير قادر على التعبير عن توجهات أفراده، إلا من خلال صندوق الانتخاب، أي من خلال تفضيل النقيض والمضاد لهذه السلطات وما أنجزته.
اليوم تعمد الشركات الكبرى التي ترعى ولادة الآراء والتوجهات، في وسائل التواصل الاجتماعي وكبريات شركات الإعلام، إلى الحد من رقابتها على كل ما ينشر، والسماح للناس بالتعبير الحر، نسبيًا، عن آرائهم وتوجهاتهم، في محاولة لدفع الصامتين إلى التعبير مرة أخرى. وتفترض أن ما اصطلح على تسميته بـ "الملاحظات المجتمعية" قادرة على اختيار الأنسب لهذه المجتمعات. وتوقفت نهائيًا عن ممارسة الرقابة في حقول كثيرة، تطاول جوانب لا تحصى في الاجتماع. لكن الأرجح أن هؤلاء الصامتين الذين اختبروا سلطة الصمت الهائلة، لن يعمدوا مرة أخرى إلى التفريط بها. على هذا يبدو العالم متجهًا إلى تغليب الكتمان عن الإفصاح، ولوقت طويل. ويبدو أن السنوات القادمة ستحفل بافتراضات تعتبر كل رأي مشبوهًا إلى أن يثبت العكس.