}

الزبداني: لُبّ الخير والجوع والحصار والتهجير

سمر شمة 29 يناير 2025
أمكنة الزبداني: لُبّ الخير والجوع والحصار والتهجير
شهدت الزبداني منذ انطلاقة الثورة السورية معارك طاحنة (Getty)

 

عروس مصايف سورية وأكبرها في محافظة ريف دمشق، وأقدم وأشهر المصايف العربية، لُبّ الخير وخلاصته، قبلة الزوار وأهم مصادر المياه التي تغذّي العاصمة دمشق، ينبع نهر بردى من جنوبها وتمتد على سفوح جبال لبنان. فيها أعذب الينابيع منذ فجر التاريخ. تقف أشجار الصنوبر شامخة في بساتينها وأراضيها المزروعة بالعنب والتين والخوخ والدراق والجوز والتفاح والكرز. تحيط بها مجموعة من البلدات السياحية: بقين – بلودان – سرغايا – ومضايا.

إنها مدينة الزبداني المنكوبة التي تغيّرت ملامحها بعد قيام الثورة السورية عام 2011 وتحولت إلى مدينة أشباح بعد أن دمّرها النظام السوري وحلفاؤه. وهي النموذج الحي للنضال الثوري. صاحبة المشاركة في الثورة السورية منذ انطلاقتها حتى الحصار الخانق الذي تعرضت له عدة مرات بعد معارك عنيفة استشهد فيها المئات من أبنائها ومقاتليها وثوارها ومدنييها من نساء وأطفال وشيوخ. ارتبط تاريخها بدمشق، أقدم عاصمة مأهولة في العالم. تقع على يمين الطريق الدولي الذي يربط العاصمة السورية بلبنان. وتشرف على بساط أخضر يشكّل سهل الزبداني البديع، وتبعد 45 كم شمال العاصمة السورية. أصل تسميتها الآرامي (السرياني) كان على صيغة الجمع "زابادوناي" ثم نُقلت إلى اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد باسم "زابادوني" ومعناه لُبّ الخير وخلاصته.

كانت مدينة الزبداني الآرامية القديمة مدفونة تحت المدينة الحالية، وآثارها موجودة في أماكن متفرقة منها، ومن أبرزها: بلدة "بردى" (قنوى) وقد بناها الآراميون أكواخًا من القصب ثم تحولت لمنازل دائمة ولكنها تعرضت عبر الزمن لحوادث جيولوجية فلم يبقَ منها إلا القليل؛ "السفيرة" التي كانت تحتوي على أنقاض آرامية ويونانية وهضبة عالية ومغاور وكهوف؛ "الكبرى" التي تحولت إلى مصيف؛ "قلعة الكوكو" التي تحتوي على معبد يوناني لإله الحبوب؛ بقايا معصرتي عنب وزيتون ضخمتين منحوتتين في الصخور؛ دير القديس يوحنا المعمدان الذي تحول إلى مسجد فيه بقايا حجارة ضخمة وزخارف ورموز كنسية مسيحية قديمة. وادي قاق ويوجد دير وكنيسة وكانت آثار الدير باقية إلى ما قبل الحرب؛ موقع دير النحاس؛ خربة الدلة وتقع بين الزبداني وبلودان؛ إضافة إلى قلاع قديمة وأعمدة حجرية ضخمة على سفح جبلها الغربي ولم يبقَ منهم جميعًا إلا الاسم فقط.

المصادر التاريخية ذكرت أن الانسان استوطن هذه المنطقة لكثرة خيراتها ووفرة مياهها، وأن أصل السكان يعود إلى الآراميين الذين كانوا أول من سكن هذه البلاد وهم نسل سام بن نوح الذين أسسوا مدينة دمشق منذ آلاف السنين وسموها باسم جدهم سام أو شام.

تقع الزبداني في منطقة نصف جافة إلى نصف رطبة، تحدها سلسلتان جبليتان هما جبل سفير من الغرب وجبل الشقيف من الشرق وتتميز بطقسها المعتدل، وكانت تقوم فيها قرى عديدة هي عبارة عن بلدات صناعية ذات مستوى اقتصادي جيد، ويعمل قاطنوها في صناعة الحرير الطبيعي ومزارع الكروم والعنب ومعاصره، كما كان فيها الكثير من الخدمات السياحية من مطاعم وفنادق ومقاه متنوعة يقصدها الزوار من كل أرجاء العالم، ولا سيما من دول الخليج العربي.

الزبداني أقدم وأشهر المصايف العربية


شاركت الزبداني في الثورة السورية مشاركة فعالة منذ شهر آذار/ مارس 2011، وتطور العمل المدني فيها بسرعة، وتأسست لجان التنسيق المحلية بمشاركة الرجال والنساء، وتطور فيها أيضًا العمل الإنساني والإغاثي والثوري المدني قبل اضطرار أهلها وثوارها لحمل السلاح للدفاع عن أبنائهم ومنازلهم ومدينتهم. وقد شارك أهلها بالتظاهرات السلمية ودعوا لإسقاط النظام وحملوا لافتات تطالب بالحريات واحترام حقوق الإنسان ونبذ العنف والطائفية وإقامة دولة مدنية تحترم القانون والعدالة الاجتماعية، ونادوا بوحدة الشعب السوري بمكوناته كافة.

شهدت منطقة الزبداني منذ انطلاقة الثورة السورية أحداثًا مفجعة ومعارك طاحنة بين النظام وحلفائه والجيش السوري الحر والفصائل والكتائب التي تشكلت للدفاع عن السوريين والمدن والبلدات السورية، إضافة إلى المجازر والهجمات المتكررة التي تعرضت لها المظاهرات السلمية من قوات الجيش النظامي والأمن والشبيحة، والتي استشهد وجرح خلالها الكثير من أهالي وثوار الزبداني التي تعرضت في 17 تموز/ يوليو 2011 للاقتحام الأول، حيث اجتاحها أكثر من ألفي جندي من قوات النظام واقتحمتها الدبابات والمدرّعات بعد حصارها وإغلاق مداخلها. وفي الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه تعرضت للاقتحام مجددًا على أيدي آلاف الجنود من جيش وأمن النظام وسط إطلاق نار كثيف واعتقالات عشوائية طاولت المئات وانتشار واسع للحواجز الأمنية في شوارع المدينة وأزقتها، وقد قاومت المعارضة المسلحة والأهالي ذلك مقاومة أسطورية.

في 13 كانون الثاني/ يناير 2012 دارت معارك عنيفة بين الجيش السوري الحر وجيش النظام للسيطرة التامة على مضايا والزبداني واستمرت لأربعة أيام متواصلة عجز خلالها جيش الأسد عن اقتحام البلدة بسبب إحكام المعارضة السيطرة عليها والمقاومة البطولية الشرسة لمحاولات التوغل فيها. رافق ذلك قطع للماء والكهرباء والاتصالات ومنع لدخول الغذاء والدواء مما دفع كتيبة حمزة بن عبد المطلب إلى تهديد النظام بضرب أبراج نقل الكهرباء المتجهة إلى لبنان وكذلك أنابيب المياه التي تغذي مساكن ضباط النظام وأبراج الاتصالات. الأمر الذي أجبر السلطة على الدخول في مفاوضات مع المعارضة انتهت باتفاق لوقف إطلاق النار في 17 كانون الثاني/ يناير، وقد شارك في المعارك أكثر من ثلاثين ألف عسكري للنظام وأكثر من 300 مقاتل من ميليشيات حزب الله اللبناني التي قاتلت إلى جانب النظام في عموم البلاد وفي الزبداني تحديدًا، إضافة إلى المدرعات والمدفعية التي دمر الجيش الحر أعدادًا هائلة منها، وقتل عددًا كبيرًا من جنود النظام وحزب الله. وبالمقابل دمر النظام المنازل والمؤسسات ودور العبادة والبنية التحتية برمتها بوحشية وهمجية وبدأت حكايات النزوح والتهجير القسري من الزبداني إلى أماكن مختلفة.

قبل توقيع الاتفاق وفي الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير كانت قد وصل إلى الزبداني بعثة المراقبين العرب فاستقبلها الأهالي بمظاهرة حاشدة بعد استشهاد مدنيين متأثرين بجراحهم، وأصدر الجيش الحر بيانًا أمهل فيه جنود النظام وحزب الله 24 ساعة للانسحاب من محيط الزبداني ومضايا وإلا فإنه سيقوم بتدمير المرافق الحيوية في المنطقة، ولكن بسبب وصول تعزيزات عسكرية هائلة قادمة من لبنان لحزب الله اللبناني وبعد حصار المدينة وقصفها بأعتى الأسلحة ووصول تعزيزات كبيرة لجيش النظام اضطر الجيش الحر للتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار كما ذكرنا آنفًا.

الجدير ذكره أن المعارك عادت في بداية شباط/ فبراير وتم قصف مضايا والزبداني قصفًا عنيفًا وحوصرتا حصارًا خانقًا وتم أيضًا قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء عنهما مجددًا وتدهور الوضع الإنساني، وقُتل وأصيب عدد كبير من المدنيين بعد استخدام النظام وحزب الله للقذائف الانشطارية والمسمارية التي استهدفت أحياء بكاملها وكنائس ومساجد في مضايا وبلودان والزبداني رغم تكبدهم لخسائر فادحة بالأرواح والمعدات. ومن أجل حقن الدماء والسماح بدخول المساعدات الإنسانية والطبية إلى المدنيين المحاصرين أعلن الجيش السوري الحر انسحابه من الزبداني ومضايا بعد عقد اتفاق مع النظام. ومن المعارك المعروفة معركة الزبداني في تموز/ يوليو 2015 حيث قام النظام بإطلاق حملة كبيرة ضد أهالي الزبداني وقصفها بالبراميل المتفجرة وقنابل النابالم الحارقة المحرمة دوليًا، ولكن المعارضة وأبناء المدينة استبسلوا آنذاك في الدفاع عنها وكبدوا النظام وحزب الله والميليشيات الطائفية خسائر بشرية كبيرة رغم قلة عددهم وعتادهم وتعرضهم لحصار شديد. وقد وثقّ الناشطون آنذاك مقتل أكثر من 200 من حزب الله ومئات من جنود النظام، ولم تستطع قوات النظام وحلفائه حسم المعركة بعد انطلاقتها، فالمدينة التي اختبرت خمس محاولات فاشلة لعقد هدنة على مدى سنوات لا تزال قوات المعارضة فيها تواجه الحرب والهجمات رغم الحصار والطاقة النارية الكبيرة لإنهاء وجود المعارضة في آخر المدن الحدودية مع لبنان.

أكد باحثون ومحللون سياسيون أن الإصرار على تدمير مدينة الزبداني ومحاولة حصارها والسيطرة عليها واحتلالها يعود إلى أهميتها وموقعها الاستراتيجي (Getty)


كانت مدينة الزبداني مسرحًا لمعارك ضارية بين النظام السوري وحلفائه من جهة والجيش السوري الحر وفصائل عديدة من جهة أخرى، وعاشت حصارًا مريرًا لسنوات وعانت من الاعتقالات المتواصلة والخسائر البشرية الكبيرة وتعرضت للتهجير الطائفي الممنهج للسكان على يد حزب الله اللبناني الذي نهب المنازل وأحرقها وقسّم الزبداني إلى قطاعات تمّ تهجير أهلها تباعًا، وذلك منذ عام 2014، والهدف هو تغيير التركيبة السكانية على أسس طائفية كما ذكر المجلس المحلي للمدينة. وسيطر أيضًا على أحياء بالكامل ضمن المدينة المهدمة وقطع كافة أشجار الصنوبر والتفاح وحرقها وباعها في لبنان ودمشق عن طريق تجار الحرب جنبًا إلى جنب مع جيش النظام وشبيحته وقواته الأمنية. وحاول أيضًا محو الجغرافية والسكان بإعادة تسميته للأماكن فسمى الزبداني "مدينة النور" بعد أن اجتاحتها العتمة وسمى سهلها "سهل الربيع" بعد أن شوهوه وأحرقوه، وفجرّ أيضًا المباني بعد خروج الثوار منها في عملية أقرب ما تكون إلى التطهير العرقي والانتقام الحاقد الأعمى.

وقد أكد باحثون ومحللون سياسيون أن الإصرار على تدمير مدينة الزبداني ومحاولة حصارها والسيطرة عليها واحتلالها يعود إلى أهميتها وموقعها الاستراتيجي حيث تمثل البوابة الحقيقية للقلمون الغربي بسورية، والسيطرة عليها تعني تقلص المخاطر المستقبلية المسلحة على خط بيروت – دمشق، وتسمح للنظام وحزب الله بعمليات عسكرية في ريف دمشق دون صعوبات. وتكمن أهميتها أيضًا بقربها من لبنان وبامتدادها الجغرافي الجنوبي مع ريف القنيطرة الذي كان يسيطر عليه مقاتلو المعارضة آنذاك وبالتالي قدرة المعارضة على قطع طريق دمشق وتهديدها من الجهة الجنوبية.

تعرضت الزبداني لتدمير البنية التحتية بالكامل إذ تقدّر نسبة الدمار فيها بأكثر من 90% وحُرقت معظم أراضيها الزراعية، ولكن وبعد خروج الجيش الحر منها نهائيًا عام 2017 بدأ الأهالي بالعودة إليها بحذر شديد وبشروط تعجيزية من النظام وحزب الله في محاولة لترميم ما يمكن ترميمه بعد أن هُجر الآلاف من أهلها إلى إدلب وغيرها وخرجت المعارضة منها.

منع النظام كسرة الخبز من الدخول إلى أهل الزبداني لسنوات ومنع حبة الدواء أيضًا، واعتقلت أجهزة الأمن والفرقة الرابعة أعدادًا كبيرة من سكانها، وارتكبت مع الميليشيات الطائفية انتهاكات جسيمة بحقهم رجالًا ونساءً وأطفالًا.
واليوم وبعد سقوط النظام السوري يعود أهالي الزبداني ومضايا وغيرهما من المدن إلى منازلهم وأراضيهم لينهضوا بمدنهم وحياتهم من جديد بعد أن كتبوا على لافتاتهم الشهيرة في مظاهراتهم السلمية ذات يوم: "آن أن ينصرفوا"، وفعلًا انصرفوا جميعًا مذعورين بعارهم الأبدي.

مراجع:

- بوابة المجتمع المحلي لمنطقة الزبداني.
- بوابة حرب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.