ومنه كانت بداية العناق المُدهش لروح الأندلس العتيقة والراهنة.
كانت الطائرة التي أقلّتنا من باريس، وينبغي أن تحطّ في مطار غرناطة، تعثرت أحوالها الجويّة فهبطت بنا في مطار ملقا، ثم حملَنا باص إلى غرناطة. كانت الرحلة متعِبة جدًّا، ورغم ذلك فقد كان وصولنا إلى الفندق في حي البيّازين، في غرناطة، أمرًا غاية في الجمال. الباب العتيق للفندق ومدخلُه وباحته والنوفرة الصغيرة كلّها مدهشة. لم نكن نعرف أننا حجزنا (عبر أونلاين) فندقًا يعود بناؤه إلى القرن السادس عشر (1520)، أي بعد سقوط الأندلس (1492) بثمانية وعشرين عامًا فقط... لكنّ حضارات عدّة تركت بصمتها عليه، قبل أن يعيد المسلمون تأسيسه وترك طابعهم فيه. ثم جاءت البصمة الإسبانية فغيّرت وأضافت إليها الكثير.
يقع هذا الفندق الصغير نسبيًّا، في زقاق طويل وممتدّ، ومرصوف بالحصى، ولا يتسّع لأكثر من سيّارة أو باص صغير، وعلى جانبيه الفنادق والمطاعم والمقاهي والحانات، والمحالّ الصغيرة... و"زنقات" تصعد منها أدراج إلى الأحياء السكنيّة والبيوت. وذلك كلّه في بنايات من الطرز الفني العريق للعمارة العربية- الإسلامية التي عرِفت بها الأندلس، وتحديدًا السورية- الأمويّة، لجهة قيامها على أعمدة غليظة وأقواس وزخارف وموزاييك وفن الأرابيسك، كلّها تجعلك تشعر أنك في واحد من بيوت الشام، وخصوصًا البيت الدمشقيّ بباحته التي تحتوي نافورة في وسطها.
منذ البداية، ورغم ارتفاع أسعار الإقامة في هذا الفندق، كغيره من فنادق غرناطة، بسبب قربه من قصور الحمراء، حيث لا يبعد عنها أكثر من خمس دقائق بالسيارة، كانت العلاقة معه تبدو حميميّة. كانت لي غرفة مطلّة على قصر الحمراء، فندق بغرف صغيرة، أو بغرف ذات طابقين، وأسرّة مريحة، لكنه مثل جميع الفنادق التي أقمت فيها في الأندلس وبرشلونة لا يسمح للمقيم فيه بالتدخين داخل الغرفة، ولا حتى في نطاق الفندق، بل في الخارج تمامًا.
مع غرناطة ومعالمها الشهيرة والدافئة والباذخة الأناقة، تشعر أنك في الأندلس التي لم تعرفها من الكتب؛ غرناطة وإشبيلية وملَقا وقرطبة وطليطلة وغيرها الكثير، هي اليوم كما كانت منذ ما يزيد على 500 عام. وبلا أي حنين لأيّ شيء، رحتُ أزور معالمها، وأتأمّل ملامحها الغائرة ولكن الباقية أيضًا. باقية في الذاكرة وعلى الأرض، بوصفها تاريخًا غابرًا على الأقل. التاريخ الذي صنعه رجال كبار، وضيّعه الصغار في حروب الطوائف، وآخرُهم الصغير حامل لقب "أبي عبد الله الصغير"، أوّل ما يخطر في البال أنّ غرناطة هذه، هي آخر استسلام المسلمين، عبر أبي عبد الله الصغير هذا، للصليبيين ممثَّلين في فرديناند وإيزابيل، في ما سُمي بـ"حروب الاسترداد". أبو عبد الله الذي- بحسب الروايات التاريخية، أنه عندما سلّم مفاتيح المدينة، خاطبته أمّه قائلة بألم:
ابكِ مثل النساء مُلكًا مُضاعًا
لم تحافظ عليه مثل الرجالِ
وعلى ما في هذا البيت من تمييز المرأة ضد المرأة، فهو جزيل تعبيره عن حال الهوان التي آلَ إليها مُلك بني أميّة وتراثهم وتاريخهم و... دولتهم التي "سادت ثمّ بادت". دولة قدّمت الكثير من الإبداعات الحضاريّة، عِلمًا وأدبًا وفنًّا وعمارة ما يزال الكثير منها ماثِلًا للعيان، في كلّ مدينة من مدن الأندلس.
يحتاج حيّ البيّازين وحده جولات عدّة، وقد أقام فيه الحرفيون والصناع، ولا يزال يحتفظ بنكهة الماضي البعيد، وروح الأندلس القديمة، تقطع فيه مسافات طويلة مشيًا على القدمين، وسط سيارات بالكاد تستخدم الزامور. متوقّفًا عند بائع الفطائر، أو كشك العصائر والقهوة والسجائر، أو باحثًا عن مطعم "معقول!" على غير مستوى. وخلال هذه المشاوير الأساسية، وما يتبعها من جولات بلا هدف سوى التجوال والتعرف على المدينة، يلفت نظرك ارتفاع الأسعار بصورة عامة، الطعام والشراب (أشهر المشروبات وأقلّها ثمنًا هو مشروب السنغرية وما يشابهه، فهو أقرب إلى المشروب الشعبي).
وكذلك تلمس ارتفاع أجور المواصلات، التاكسي والباص، وغلاء أثمان الطعام والشراب، وتذاكر عروض فنّ الفلامنكو الشهير في إسبانيا عمومًا، وبين الغجر على نحو خاص، على سبيل المثال، لأنها أسعار سياحيّة بالطبع... كان لا بدّ من حضور حفلة واحدة على الأقلّ في حيّ البيّازين، في كهف من الكهوف.
صعودًا إلى الحمراء
بعد الإقامة والتجوال في حي البيازين، وحيث ترى في غرناطة تحديدًا المعالم الشهيرة والأكثر شهرة، تنطلق نحو القصر الكبير الرائع، بل "القصور" باذخة الجمال، أعني قصور الحمراء المتداخلة، وهي من أقدم معالم غرناطة، ولعلّ الرحلة بين أجنحة كل قصر من القصور تحتاج إلى ساعات من الوقوف والتأمّل في التفاصيل الفنية والجمالية التي تنطوي عليها. الحدائق، النوافير، والقنوات التي تنقل المياه بين أقسام القصر. تتنقل بين الزخارف الهندسية التجريدية وبين الحروفيّات والمقرنصات حتى تدوخ من جماليّات الحرف العربي ورسم الآيات القرآنية.
تبدأ رحلة السعي إلى المعالم الرئيسة والشهيرة، لذا كانت البداية هنا من المَعْلم الأبرز فيها، الذي أسمّيه "مدينة قصور الحمراء"، وليست قصر الحمراء كما هو معروف، فهي مدينة كبرى، تتجوّل فيها كمدينة- متاهة، لساعات طويلة، وتكاد لا تنتهي منها، وقد تحتاج إلى زيارات عدة ولا تكتفي... إذ لا تكفي ساعات للتعرّف على كل جناح من أجنحة القصور المتعددة وأقسامه المتداخلة المنتشرة في هذا المكان، مع تأمّلات سريعة في كلّ ما يمتّ إلى الفنّ الإسلامي، فنّ العمارة المختلف مع الأقواس التي تشكّل مداخل القصور. وربّما كان الأكثر إدهاشًا هو الأعداد الكبيرة واالازدحامات من السيّاح من جنسيّات العالم كلّه.
وفي غرناطة أيضًا، كان لا بد من الصعود إلى جبل ساكرومونتي (Sacromonte) وقلعته ومتحفه، فهنا تجد العربيّ والأمازيغيّ واليهوديّ والغجريّ، يتوزّعون بين بيوت قديمة وكهوف محفورة في الجبال، لكنك لا تستطيع أن تتبيّن أصول السّاكنين وأعراقهم، حيث يندمجون في حياة مشتركة ومتداخلة اجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، فلا تميز بين ألوان وملابس ومأكولات عمّا يجري في غرناطة كلّها، إلّا من خلال ما يميّز حياة الجبليين في صعود الجبال والالتواءات في الطرق، والتنقّل بأدوات المواصلات البسيطة، لكنهم لا يعدمون وسائل المواصلات والتواصل الحديثة من باصات وسيارات صغيرة تليق بالطبيعة الجبلية، ويمتلكون وسائل الاتصال من الهواتف وشبكات الإنترنت.
قرطبة وإشبيلية
تمثل غرناطة بمعالمها وملامحها هذه صورة أنموذجية للأندلس العربية الإسلامية، صورة للقاء حضارات عدّة تناوبت على حكم جنوب إسبانيا على مدى قرون، ونحن حين ننتقل منها إلى باقي الحواضر الإسلامية الأندلسية العريقة، لن نجد فروقًا أساسية أو كبيرة. ففي قرطبة مثلًا، سيدهشك مسجدها الكبير "الخرافيّ"، كبير في كل شيء، حجمه وأجنحته وأعمدته والزينة في سقوف مبانيه التي لا تعرف من أين دخلتها وكيف تخرج منها، مسجد من قاعات تنفتح على بعضها، وتأخذك القاعة إلى ما بعدها، قاعات بسقوف عالية مزيّنة بالرسومات والزخارف، وبصعوبة تبلغ نهاياتها.
معظم المساجد هنا، إن لم نقُل كلّها تمّ تحويلها إلى كنائس وكاتدرائيّات، فمنارة الجامع أو مئذنته أصبحت برجًا لقرْع أجراس الكنيسة. وفي حين تمّ الإبقاء على محراب هذا المسجد، فإنك سوف تبحث عن المنبر الذي يعتليه الشيخ خطيب المسجد ولن تجده، لسبب غير معلوم. وإذا كان قصر الحمراء يتشكّل من مجموعة قصور وحدائق، فإن مسجد قرطبة هو بناء واحد شديد الضخامة، إلى درجة تجعلك تعتقد أنه، بقاعاته الكثيرة، يتّسع لعشرات الآلاف من المصلّين. ومن جهة ثانية، فإن تحويله إلى كاتدرائية، تطلّب إجراء الكثير من التعديلات على بنيته الداخلية، حيث انتشرت الصور ذات الطابع المسيحانيّ، من صور السيّدة العذراء والسيّد المسيح، إلى رموز المسيحية الأساسية المُكرّسة... ومعلوم ما يقال من أن هذا المسجد قام على كنيسة.
الجولة الأخيرة في ربوع الدولة الأندلسية كانت في إشبيلية، عاصمة الخلافة في الأندلس، وكانت لا تقلّ إدهاشًا عن قصور الحمراء وجامع قرطبة. ففي إشبيلية الأندلسية، و(Savilla) الإسبانية- المسيحية، تجد القصر والمسجد، تجد الملك الشاعر المعتمد بن عبّاد وقصره المنيف الباهر، بأجنحته وحمّاماته ومرافقه، وتضيع في أرجائه الواسعة والكثيرة والمتداخلة أيضًا، وتجد الأصول الفينيقية والقرطاجية، وآثار الكثير من الحضارات والأمم التي مرّت من هنا، حتى إنك سوف تضطر لاستيقاف كثيرين لتسألهم عن المَخرج من القصر... لكنك قبل ذلك تتذكر من شعر ابن عبّاد ما قاله وهو سجين في سجن أغمات، يشكو حاله وحال بناته المتجوّلة من العزّ إلى البؤس والذلّ:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا ... فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتكَ في الأَطمارِ جائِعَةً ... يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قَطميرا
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَسليمِ خاشِعَةً ... أَبصارُهُنَّ حَسيراتٍ مَكاسيرا
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ ... كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكا وَكافورا
إسبانيا الحديثة
ومن العالم القديم، عالم الأندلس والمدن العتيقة، تنتفل إلى برشلونة، بما تمثله من صور الحياة الحديثة والمعاصرة، حياة يمكن اعتبارها حداثيّة على غير صعيد، هنا تجد الانفتاح في أشدّ تمثيلاته حضورًا واقعيًّا، حداثة واقعية بلا ادّعاءات أو استعراضات، وأظنّها أعمق من انفتاحات أوروبّا التي تنطوي على قدر من الاستعراض والادّعاء. هنا الانفتاح على الحياة أكثر ممّا تراه في باريس ولندن مثلًا. عشّاق يعيشون لحظات الحبّ في قبلات الشوارع، صبايا على الدراجات الهوائية والناريّة، نظام صارم وطبيعي في التعاطي مع الشارع والعلاقة بين الماشي وراكب السيارة، لا يعتدي سائق على طمأنينة من يعبرون الشوارع والإشارات الضوئية، ولا يطلقون العنان للزوامير. هذه حياة تجسد الاسترخاء والأمان في أجلى الصور. نساء كبيرات السنّ وصبايا لا يتورّعن عن التدخين بحرية في الشارع. مقاهي الرصيف التي تقدّم "كلّ ما يريد الجمهور". الشارع متعدّد الجنسيّات، حضور كثيف للأفارقة،لا يغيب عنه المغاربة من جزائريين ومغربيّين.
ومع ذلك كله، ثمة إصرار من الإسبانيّين على الاكتفاء باللغة الإسبانيوليّة. قلة قلية جدًّا يتحدثون بلغة غير لغتهم، بالكاد يتحدّث قلة منهم الفرنسية والإنكليزية، جهلًا بهذه اللغات أو ترفُّعًا عنها وعمّن يتحدث بها. وثمة غياب للغة العربية وكأنّ العرب لم يكونوا هنا يومًا، حضور لفلسطين في التواصل مع بعض الفئات، بمن فيهم سائق التاكسي يسأل عمّا يحدث في غزّة وفلسطين من حرب صهيونية، ووقف للقتال.
هذا شيء عن إسبانيا، التاريخ والملامح الراهنة، كلما غصتَ فيها أكثر ستكشف عن طبقات جديدة مدفونة تحت ركام الزمن الغابر، فهنا الحروب والهزائم والانتصارات، وهنا تاريخ إنسان ترك آثار أقدامه وأعمال يديه، ما يجعل من هذا البلد مركز حجٍّ لملايين السائحين القادمين من أصقاع الأرض، يجمعهم تاريخ لا يفقهون منه شيئًا سوى أنه من صنع أسلافٍ لا يعرفونهم، ولكنهم يقدّرون صنيعهم العظيم.