اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي غضبًا بعد تسريب جزءٍ من التعديلات الرسمية على المناهج الدراسية للصفوف الابتدائية في سورية الجديدة، حيث وبعد أن كلّفت الحكومة المؤقتة السيد نذير القادري وزيرًا مؤقتًا للتربية والتعليم، بدأت الوزارة، وعلى الفور، بنشر مقارنات على موقعها للصفحات التي أجريت عليها التعديلات، فثارت ثائرة عدد كبير من المتابعين ومن الأهالي ضد هذه التعديلات الدراسية. في هذا السلوك وجهٌ صحيٌّ غاية في الجمال، حيث لم يك للجمهور السوري في العهد البائد، أو ما يسمى بالرأي العام السوري، أو الشعب، أي وجه من وجوه حق الاعتراض أيام عصابة آل الأسد، والتذمر أو الرفض، لأي تفصيل يمس حياتهم الخاصة والعامة، وبالتالي، فإن الاعتراض على تعديلات وزارة التربية والتعليم، هو تطور غاية في الأهمية.
في سياق متصل، انبرى عديد النشطاء لتبيانِ الفروق بين المناهج القديمة والمناهج الجديدة، علمًا أنه من نافل القول إن المناهج القديمة هي مناهج أيديولوجية عقائدية كرّسها نصفُ قرنٍ من قيادة حزب البعث للدولة والشعب، تم عبرها بعْثنة المجتمع بتفاصيله جميعها، بدءًا من الجيش، مرورًا بالوزارات والجامعات والنقابات، وصولًا إلى المناهج التعليمية وحتى اللباس الموحّد الذي يُفرض على الأطفال من سن السادسة وحتى تخرجهم من الجامعة. على كل حال، أَجرت حكومة النظام المخلوع عدّة تعديلات أيامنا اقتصرت على شكليات، مثل استثناء طلاب الجامعات من اللباس الموحّد أزرق اللون، مُكتفيةً بفرض اللباس الموحّد على طلاب الابتدائية والإعدادية والثانوية، وهو لباس عسكري زيتي اللون، مرفق بسدارة أو ما يعرف بِاسم (الطاقية العسكرية)، مع شارات الكتف الملوّنة لتمييز الصفوف، والحذاء العسكري شبيه الجَزمة، الذي نطلق عليه في سورية (بسطار)، والحزام العسكري.
وبعد إنجاز عسكرة الشكل واللون للطلبة السوريين، كان لزامًا، وفْقَ ذلك، ومِن وحيِه، عسكرة العقل، وتحويله من فكر إبداعيٍّ ابتكاريّ، إلى فكر ناقلٍ للمعلومة، يعتمد على تّكرار وحفظ وراء تكرار وحفظ وراء...، وصولًا إلى مرحلة تبلّد العقل الشاب، الذي ينبغي عليه أن يكون رافضًا متمردًا على كل سابق له، باحثًا عن كل جديد. مع وصول الأجيال السورية إلى مرحلة التبلّد المعرفي، عبر سنوات من التدجينِ التربويِّ والتعليميّ، المترافق مع كمٍّ هائلٍ من العنف والضرب والإرهاب، وصل حلم التغيير (الذي تحقق أخيرًا) إلى أمنية بعيدة المَنال تقترب من المُحال.
كل طالب سوري درس في مدارس الجمهورية العربية السورية خلال الفترة ما بين 1970 و2024، يعلم حجم العنف والعقوبات العسكرية التي كانت تطبّق على الطلاب السوريين، عبر ما يسمى بحصص التدريب العسكري، أو تلطيفًا ما أطلق عليه اسم "دروس الفتوّة"، حيث يطلب الأستاذ المُخصص للمادة (وهو عادة عسكريٌّ عاملٌ أو سابق)، من الطلبة أن يزحفوا/ يزحفن على بطنهم/ن مثل الجنود، أو يمشوا مشية البطة، أو أن يُمارَس بحقهِم/نّ إرهابٌ جسديٌ عبر إجبارِهم/نّ على قصِّ شعرهِم/نّ، أو وضع رأس الطالب/ة تحت حنفية الماء البارد، إذا سولت له/ا نفسه/ا أن يـ/تغير قصة شعره/ا أو أن يجعلها مختلفة عن رفاقه/ا أو عن القصة العسكرية التي سمح بها الحزب ومدرب الفتوّة العسكري. ولك سيدي القارئ أن تتخيل حجم الضرر النفسي والعقلي والسلوكي على الطلبة (ذكورًا وإناثًا)، الذين تعرضوا لمثل هذه الممارسات العنفية خلال مختلف مراحلهم/ن الدراسية، وصولًا للعام الأخير من المرحلة الثانوية، علمًا أن المنهاج الوحيد الذي رافق هذه المراحل جميعها هو منهاج الحفظ والنقل! حيث ركزت الامتحانات على فكرة حفظ المنهاج، ومن ثم إعادة كتابته حرفيًا فوق أوراق الامتحان. وعليه يتحصل الطالب على العلامات التي تزداد بمقدار حفظه للمنهاج وليس فهمه وإعادة تفسيره.
في التراث العربي يميز الباحثون بين مبدأيْن، النقل والعقل، حيث يقوم النقل على استعادة النص القديم الأساسي، ومحاولات تدويره وإعادة إنتاجه إلى ما لانهاية في تعطيل كامل لسلطة العقل والاجتهاد، حتى يبدو الإنسان مرددًا لأفكار غيره مثل الروبوت، أو الببغاء، حتى وإن كانت تلك الأفكار قد أُنتِجت قبل آلاف السنين، بينما يفتح تيارُ العقلِ الأبوابَ على مصراعيْها، فيُتاح له (أي العقل) أن يناقش ويفنّد كل فكرة وفاصلة وتفصيلة، بحثًا عن مطابقة زمنية للأفكار، والنظريات وحتى النصوص الدينية والسياسية والفكرية. لا مقدّس أمام العقل، فكل شيء يجب أن يمر عبر مبدأ الشك والتشكيك. بينما يرفض "أئمة النقل" هذه النظرية بشدة إلى درجة التهديد الوجودي عبر القتل والنفي في أقصاها، أو عبر العزل والتجفيف والتهميش في أدنى احتمالاتها. لأن الخيار الثاني يعني نهاية للخيار الأول. ولهذا تجد في البلاد التي تعبد الأيديولوجيا أشخاصًا يرددون أفكارَ غيرِهم من الساسةِ والمفكّرين وأقوالِهِم كأنّها كلام مقدس، يعدّلون حيواتِهم ومسالكَهم اليوميّة بناء عليها، ومنهم من يسمّيها ماركسية أو دينية أو ماوية أو بعثية. وهكذا صارت أقوال الرئيس السابق والد الرئيس المخلوع بشار الأسد أقوالًا مقدّسة تجد في سلم العلامات حظوة كبيرة. حيث يمكننا تتبع كلماته عبر السنين في المناهج السورية منذ الصفوف الأولى وحتى سنوات الجامعة الأخيرة.
بغض النظر عن كلمات (الأب القائد) وفراغها الروحي والفكري من أي معنى، تبدو المناهج السورية بالية وغير مجدية تكرّس عقلية النقل بشكل عبثي، فما هو جدوى تكرار مقولات الآخرين، أو حفظ طرق حل المعادلات الرياضية، أو تدريس كم هائل من المناهج لطلاب لن يجدوا فيها أي معنى، وقد لا تهمهم أو تثيرهم الهندسة، ولا تعنيهم مادة الجبر... أو علوم اللغة العربية، وهلمّ جرّا. فإن كان العالم قد وجد أجوبة للأسئلة الكثيرة المطروحة، فما حاجتنا للتعليم والبحث والتطوير والتجديد. ستجد على سبيل المثال حلًا واحدًا لمسألة فيثاغورس، التي بني عليها العالم، بينما قد تخفي عقول الأطفال لو قدر لهم حلولًا مختلفة قد تفتح آفاقًا جديدة في البحث على مستوى العالم، من أجل هذا تراجع ترتيب الجامعات والمدارس، واختفى الابداع في المدارس السورية، لأن القائمين عليها اكتفوا بما حققه الأولون.
حيث تبدى الصراع في تغيير الأسماء في المنهاج الجديد بعد سقوط النظام وكأنه كارثة، بينما أعتقد أن تغيير آلية التعليم في سورية هي تلك التي تحتاج إلى مراجعة، وتعليق، بأن تطلق العنان للتجريب وكسر التقليدي، وفسح المجال للطلاب لكي يتعلموا القواعد كي يكسروها لا كي يعبدوها، ويكرروها إلى ما لانهاية، فالابداع العلمي وليد التجريب.
لا أن يكتفي بتبديل جملة من مثل (عطاء الطبيعة) إلى جملة جديدة هي (عطاء الله)! أو استبدال أقوال الدكتاتور، بأقوال أي قائد آخر.
السوريون بحاجة ماسة إلى مراجعة أساليب التلقين وإيقافها، وإلى إتاحة المجال واسعًا لإِعْمال العقل لدى الطلبة، وحثّهم على المشاركة في تعليم أنفسهم، واختيار المواد التي يرغبون بتعلّمها، عبر هدم تلك الآلة الصمّاء المسماة جهاز التعليم، الذي أدى وعبر أزيدِ من ستين عامًا ماضية، إلى تصدّر مهنة الطب قائمة المهن المرغوبة في البلاد، بينما تحتاج السوق السورية إلى مهن ومهارات مختلفة، وعبر نسف عقلية التنافس والمنافسة على العلامات واعتبار (الشاطر) هو من يحصد أكبر عدد ممكن من العلامات، بينما يختفي الابتكار والابداع والاختلاف في الصفوف الخلفية.
أَسَرَت فكرة التلقين والنقل المجتمع بضوابط أنتجت خطوط إنتاج لا نهائية للأجيال وهو أمر يحتاجه المجتمع، بدون ادراك أن الاختلاف عبر إنتاج طفرات سيؤدي إلى حدوث تطور على المدى الطويل، وفرّخت مهندسين وأطباء وما إلى هنالك من مهن أساسية ولكنها تقليدية في النظام التعليمي، نظامٌ تعليميٌّ بائد، قوائمه العنف والحفظ دون إبداع، لم يكن يفسح المجال للتنافس إلا على أساس حصاد العلامات، بحيث تعود الجائزة الكبرى لمن يحظى بأكبر عدد ممكن منها، وهو أساس غير دقيق، والنقل والحفظ ليسا مقياس إبداعٍ، ولا عنوان شغفٍ، والفهم أوْلى من الحفظ الآليّ، والتأمّل والتدبّر أجدى من الانقياد القطيعيّ البليد. فرغبة الطالب في دراسة ما، قد تقوده إلى شغف قد يجعله مبدعًا فيها، أضف إلى ذلك عجز عدد غير قليل من الطلاب عن المنافسة في النقل والحفظ، ليحظوا بالعلامات، لأنهم ببساطة يعتمدون على الفهم وليس على الحفظ. إن عملية تعديل المناهج لا تعدو كونها عملية استبدال مفردات بمفردات.
في سورية الجديدة، فإن الحاجة تبدو ملحّة أكثر من أي وقتٍ إلى تغييرٍ كاملٍ في عقليةِ التّعاطي الرسمي مع المناهج التعليمية، واستبدالها جملة وتفصيلًا بمناهج قادرة على أن تواكب العصر والتكنولوجيا، وتعمل على تفعيل ميزة العقل والابتكار لدى الطلبة، لا أن تكرس أفكارًا مفروضة جبريًّا، مع ضرورة الاستفادة، طبعًا، من تجارب الآخرين على سبيل ضرب المثل لا اتخاذ القدوة، بحيث تعزز تلك المناهج الحديثة مفهوم الفرد والذات لدى الطالب وتركز على تفعيل عقله وتجربته الشخصية وما يراه من حلولٍ لأزمات الحياة. الإنسان هو ثروة المجتمع الحقيقية، فإن نهض، نهض المجتمع كلّه، وإن تبلّد تبلّدت حياة ذلك المجتمع. وليست المدارس والجامعات إلا مختبرات تُنتج للمجتمع روادًا وفاعلين فيه، مع ضرورة تعزيز المواد الإبداعية مثل الرسم والرياضة والموسيقى، لا التعامل معها على أساس أنها أوقات فراغ وساعات راحة. إن بناء العقل البشري هو أهم تحدٍّ تخوضه الحكومات القادمة، ولعلّه يتقدم أهمية كتابة الدستور نفسه، ولكن يبقى السؤال: كيف سيتمكن من خضع لآليات التعليم القديمة أن يقوم بِهدم تلك الآليات والمناهج وهي كانت سببًا في تكوين عقله؟ من هنا يأتي الجواب: إن الحرية ليست في القضاء على إرهاب الدولة السابق، بل هي تحرير العقل من كل شوائب الماضي، كي ينطلق نحو المستقبل.