وحده الخيال المشبع بالتجربة والإحساس لا يزال يلوح بشارة النصر في مواجهة الذكاء الاصطناعي، ليس فقط لأنه قادر على أن يرسم الحلم بالكلمات، بل لأن تلك الكلمات تستطيع أن تلامس أرواحنا، أن تراقص ذلك الجنون الذي تأخذنا إليه جمالية الصورة، وأن تذرف دموعنا المحبوسة على شفا رمش خجول، صحيح أن الذكاء الاصطناعي قادر على صف الكلمات، وتأليف الجمل، وصياغتها كما تفرضها قواعد اللغات، لكنه عاجز عن استنطاقها بالمشاعر، أو إحيائها بالأمل المتدفق من حروف تبتسم لكاتبها، أو تحزن مع قارئها.
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة في كل العلوم، وربما منها الكتابة الإبداعية، خاصة في مجالات الرواية والأدب، حيث أصبح في إمكان الخوارزميات إنتاج نصوص أدبية من خلال الاعتماد على تقنيات مثل التعلم العميق، ومعالجة اللغة الطبيعية، وتمكنه بشكل فعلي من تقديم أعمال أدبية بأسلوب يُحاكي به في بعض الأحيان الكتابة البشرية. رغم ذلك، لا يزال هنالك عدد من التحديات التي تواجهه، خصوصًا في ما يتعلق بمحاكاة العمق العاطفي، والإبداع الفطري الذي يتمتع به الكتاب البشر.
ومع ذلك، فقد تبنى الغرب خوض هذه التجربة لتأكيد قدرة التطور التكنولوجي في مجال الإبداع، فقدموا لنا تجارب روائية باستخدام الذكاء الاصطناعي، أحد أبرز هذه الأمثلة هو (رواية "1")، التي كتبها برنامج AI Writer في عام 2017، وعلى الرغم من أن الكتابة كانت تفتقر إلى التماسك الأدبي الكامل، فقد كانت خطوة نحو استخدام الذكاء الاصطناعي في تأليف الروايات.
وفي اليابان، فازت رواية (اليوم الذي يكتب به الكمبيوتر الرواية) بجائزة أدبية في عام 2016، حيث استخدم الباحثون تقنيات التعلم العميق لكتابة هذه الرواية التي منحت الجائزة، رغم أنها لم تكن تملك عمقًا عاطفيًا كالروايات التي يكتبها البشر. أي أنهم تفهموا خلو الرواية من المشاعر، وتقبلوها كعمل تقني طبقوا عليه شروط الجوائز، ما يجعلنا نتساءل عن أهمية الجائزة لرواية لا تروي تجربتنا كبشر، ولا تستطيع أن تتفهم عبر سياقاتها مخاوفنا وهواجسنا، وحتى أنها خالية تمامًا من العيوب اللغوية، كما لم يكتبها البشر!
وفي هذا السياق نشرت مجلة "المجلة" مقالًا حول أول رواية عربية باستخدام الذكاء الاصطناعي قدمت من خلاله نظرة شاملة حول تجربة الكاتب المصري أحمد لطفي في كتابة رواية "خيانة في المغرب"، بالتعاون مع تشات جي بي تي، مشيرة إلى أن هذه الرواية هي أول عمل روائي عربي يتم إنتاجه باستخدام الذكاء الاصطناعي، وقد أثير حولها جدل كبير في الأوساط الأدبية، فيما قدم المقال أيضًا تساؤلات حول قدرة الآلات على إنتاج نصوص تلامس المشاعر الإنسانية، وتفحص الحدود بين الإبداع البشري والتكنولوجيا، إلا أن النقاد أشاروا حسب الكاتب إلى أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى القدرة على نقل الانفعالات الإنسانية المعقدة التي تميز الكتابة الإبداعية الحقيقية.
هذه التجارب الغربية والعربية، في الوقت الذي وضحت فيه قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة جوانب من الكتابة الإبداعية، إلا أنها في الوقت ذاته أيدت الحكم عليها بأنها مقدرة منقوصة من حيث عدم كفاءته في محاكاة العمق العاطفي، والتعقيد الروائي، ومداخل ومخارج الزمن، واستعادة الذكريات في لحظات الهروب البشري إلى الماضي مثلًا، أو القياس عليه، والذي يعتمد على التجربة الإنسانية المعاشة وحدها، والتفاعل المتبادل مع العالم الداخلي للإنسان والخارجي.
فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي قادر على إنشاء نصوص وأفكار جديدة، إلا أنه لا يمكنه "إحساس" اللحظات الإنسانية التي تشكل لب الأدب، مثل الحب، والفقد، والفرح، والحزن، والغضب، والجنون، والجنوح إلى الانفلات من لحظة الحدث الحالي إلى الماضي، أو المستقبل.
ومع ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قيمة لدعم الكتاب البشر في إبداعهم، كما هي الحال في مجالات الحياة المتنوعة، وذلك من خلال استخدامه لتوليد أفكار جديدة، واقتراح تطورات لحبكة الأعمال، أو حتى مساعدتهم في تطوير الشخصيات والحوارات، كما يمكن أن يكون عنصرًا مساعدًا في العمل الإبداعي، من دون أن يكون بديلًا حقيقيًا من الكاتب، لأن الكتابة إذا فقدت كاتبها الإنسان تفقد معه أهم أدواتها ومقاصدها، كما يفقد معها القارئ شغفه تجاهها، لأن ما تقدمه أجهزة مصنوعة من معادلات سيقدم نتائج حسابية ليست كما هي أقدار البشر، وحظوظهم في هذه الحياة.
لهذا يمكن لمقولة أن الذكاء الاصطناعي في الأدب ليس مجرد تهديد للكتابة البشرية، بل هو فرصة لتوسيع نطاق الإبداع، وتقديم أدوات جديدة للكتاب المبدعين، أن تكون معبرة جدًا عما يمكن أن تعتمد فيه في هذا المجال على اختراعات التكنولوجيا. وإذا كان من تهديد فعلي، فهو سيكون لانقراض شغف القراءة الأدبية، حين تكتبها آلات حديدية لا تعرف معنى القلب المكسور، أو الفقدان الأليم.
*كاتبة سورية.