إنها مدينة الضياء، إحدى بنات كنعان (اسمها الكنعانيّ تاباص (أو توبا سيوس) ويعني الضياء أو البهاء)، آخر المدن الفلسطينية شرق الخط الأخضر التي تحوّلت إلى محافظة (صارت في 2007 محافظة طوباس والأغوار الشمالية)، الناجيةُ من زلزال عام 1836، المنحازةُ إلى خيرات الأرض عند الحديث عن الاقتصاد وأبواب الرزق، فإذا بها مدينة زراعية بامتيازٍ تتلألأ في ربوعِها كرومُ العِنب وأشجارُ اللوز والتينِ والزيتونِ والمشمشِ والتّفاح، في طمّونها مخلّلات البَركات التي انْسكبت فوق حداقتِها وأملاحِ أرضِها في طمّون الشفويّة الغوْريّة قبل أيام دماء عشرة شهداء ارتقو مقبلينَ غيرَ مدبرين. فيها تلٌّ أثريٌّ (تل الردغة) وخِرَبٌ قديمة (جباريس وسلحب وكشدة والحمّة (ما أكثر الحِمم في الأغوار من جنوبِها إلى شمالِها) والغَرور وعيْنون). وفيها طمّون بلْدةُ خالتي انتصار، وبلدةُ قادمينَ إليْها من كفر قدوم ومن حلحول، حيث حبوبُ الأرض من قمح ومن شعير، وقثّاؤها من حرّوشٍ ومن قرْعٍ ومن يقْطينٍ ومن شِمّام، وحيث أغنامها مقياسُ جاهٍ ودلالةُ نُفوذ، وحيث حرارةُ إطلالتِها على أريحا وبيسان ومنحدراتِ التّعميد في نهر الأردن.
في طوباس كما باقي مدن الضفّة مخيمٌ للاجئينَ هو مخيم الفارعة... وفيها، كما باقي عروق الأرض هناك، بوابةٌ للفدائيينَ الذين كسروا هدوءَ المدينة وقضّوا مضاجعَ المحتلّين.
طوباس الفِدائية
فدائيةٌ طوباس من يوْمِ يومِها؛ حتى أنها من أوائل المدن التي أسهمت في إشعال الثورة الفلسطينية عام 1965، وأسهمت في إشعال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وبحكمِ موقعِها الجغرافيّ الحدوديّ، مهّدت طوباس للثوّار طريقِهم للعُبور ولِتهريب الذِّخيرة وسلاح المقاومة، ويَاما مرّ منّك يا طوباس سلاحٌ رُغم أنفِ الإجراءات والاحتياطات الأمنيّة جميعها. ومع حراك المقاومة المتواصل شهدت المدينة ظهور كتيبة من المقاومين تواجه قوات الاحتلال الإسرائيلي تحت مسمّى "كتيبة طوباس" التي تتبع سرايا القدس/ الجناح العسكري لِحركة الجهاد الإسلامي، وأُعلِن عن إطلاقها منتصف تموز/ يوليو 2022. وفي أوائل 2024 (السنة التي دخل فيها الطوفان تقويمًا ميلاديًا ثانيًا)، وقعت اشتباكات مسلحة بين الكتيبة وجيش الاحتلال الصهيونيّ أثناء اقتحامه المدينة.
واَستخدمت الكتيبة العبوّات الناسفةُ المحليةُ الصنع لِمواجهة الاحتلال، ممّا أدّى لتدميرِ عددٍ من آلياتِه، وتحقيقِ إصاباتٍ مباشرةٍ في صفوفِ عصاباتِه. ولأن مصطلح الفدائي والفْداوي آتٍ، أساسًا، من التضحية والفِداء، فقد ارتقى في طوباس مقابل تصدّي المدينة للعدوّ الغاشم عشراتُ الشهداء منهم قادة (الشهداء هم، دائمًا، قادَة وسادَة)، ففي 27 شباط/ فبراير 2024، ارتقى القائد الشهيد أحمد دراغمة (قائد كتيبة طوباس)، ثم في 12 نيسان/ إبريل 2024، ارتقى القائد الشهيد محمد رسول دراغمة خلال مواجهةٍ داميةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ وألْف مع العدو الذي أوصل الشعب الفلسطينيّ إلى قناعةِ أن حلَّ الدولتيْن حلٌّ مُخاتِلٌ خدّاع وغير واقعيّ ولا بأي شكل من الأشكالِ في ظلِّ وجودِ كائناتٍ (خصوصًا المُستوطنين) تَرْهِنُ وجودَها على الخُرافة وتعْجَزُ عن التّعايش، بل قُل لا تريده هذا التعايش ولا بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ولا تهْضمه، وربّت أجيالَها جميعَها على العُزلةِ الفوقيةِ المركّبة؛ فهي من جهةٍ فوقية، ومن جهةٍ أُخرى مسكونةٌ بعددٍ مهولٍ من عُقَد النّقص والدّونيةِ وحسدِ الآخرينَ وضيقِةِ العينِ نحوَ حيواتِهم ومُوجبات وجودِهم ورُسوخية هذا الوجود.
في سياق البُعد المقاوم لِطوباس، عرضت كتيبتُها في الخامس من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، فيديو يبيّن خوْضها معارك ضارية مع العدو المُدجّج بالأسلحة والخُرافة. حتى أن الكتيبة المقاومة كانت اضطرت في العاشر من 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، إلى خوضِ معارك مع أجهزةٍ تُنَسِّقُ مع هذا العدو المدجّج نفسه لتقتلع بالتّعاون معه كلَّ نبضِ مقاومةٍ فوقَ أرض فلسطين! أكْتبُ هذا بروحٍ مشلوعةٍ وقلبٍ حزين. محاولات تلك الأجهزة الفاشلة للإجهاز على الروح المقاومة في المدينةِ الفلسطينية المُشعةِ بضياءِ الشمس، جاءت بعد تصاعد عملياتِها وانخراطِ كثيرٍ من شبابِ محافظة طوباس والأغوار الشمالية في صفوفِها، فالكتيبةُ كانت أعلنت، على سبيل المثال، بتاريخ 29 أيلول/ سبتمبر 2024، عن تصدّيها لقوّةٍ معتديةٍ قائلةً: "يتصدّى مقاتلونا لقواتِ الاحتلال المُقتحمة في محاورِ القتال محيط مدينة طوباس ويُمطرون قواتِ العدو والآليات العسكرية بزخّاتٍ كثيفةٍ من الرصاص". المُلاحقات (المُدانة) من أجهزةٍ مُنَسِقَةٍ مع العدو تكرّرت في حالةِ كتيبةِ طوباس كثيرًا، حتى أن واحدةً منها سبقت الطوفان بزهاءِ 43 يومًا، وبحسب مصدر مطلّع، طاولت حملةُ اعتقالاتٍ وقتَها عددًا من كوادر حركة الجهاد الإسلامي، منهم يزن المسلماني، وعيسى أبو دواس، وعبود عبد الرازق، واستجواب عناصر آخرين للتحقيق، وملاحقة آخرين دونَ التمكّن من اعتقالهم. تمادت تلك الأجهزة، فاعتقلت المطارَد عديّ الشّحروري، عقِبَ حصار منزلِهِ في مخيم الفارعة جنوب طوباس، وبعدَ ظهورِهِ بمقطعٍ مصوّرٍ يستنكر محاولة اعتقاله، قائلًا: "لماذا تحاصرونني؟ أنا مطارد للاحتلال فما مشكلتكم معي؟ (....) لم أقْترف أيَّ شيءٍ ضدَّكم". مظاهرُ المقاومةِ في طوباس لا تقتصرُ على زمنِ الطوفان؛ ففي 17 أيار/ مايو 2023، على سبيل المثال، اكتشف مجاهدو الكتيبة قوةً صهيونيةً خاصةً حاولت التسلّل إلى داخل المدينة، فَواجهوها وَأمطروها وأوْقعوا فيها إصابات مؤكّدة ولقّنوها درسًا لا يُنسى، أن ألاعيب اللصوص الجبناء لم تعد تنْطلي على أبطال شعبِنا الصابر الصامِد المقاوِم. وفي 17 أيار/ مايو أيضًا وأيضًا، ولكن في العام الذي تلاه: 2024، بثّت كتيبة طوباس مشاهد لِتصدي مقاتليها لقوات الاحتلال الصهيونيّ خلال اقتحامِها المدينة شمالَ الضفة الغربية المحتلة، وأظهرت المشاهد إيقاع آليات الاحتلال بكمينٍ مُحْكَمٍ وتفجيرِ عددٍ من العبوّات النّاسفة، وقالت الكتيبة إنها حقّقت إصابات مباشرة بصفوف العدوّ المتسلِّل، إلى جانب خوضِ أبطالِها اشتباكاتٍ مسلّحةً بشكلٍ مباشرٍ مع تلك القوات.
مخيم الفارعة
أحد المخيمات الفلسطينية المُنشأة بعد نكبة عام 1948. تبلغ مساحته 225000 مترٍ مربعٍ. يقع على بعد 17 كيلومترًا شمال شرقي مدينة نابلس وخمسة كيلومترات جنوبي محافظة طوباس و25 كيلومترًا جنوبي محافظة جنين. يشكّل مخيم الفارعة جزءًا من سلسلةٍ جبليةٍ آتيةٍ من شمال فلسطين. تتغلّغل في المخيم أراضٍ زراعية واسعة. يعود أصلُ تسميةِ المخيّم إلى عين الفارعةِ المحاذيةِ للمخيّم، حيث قصّتان متعلّقتان بتسميةِ هذهِ العيْن؛ الأولى تُنْسبُ للفارعةِ أمّ الحجاج بن يوسف الثقفي التي شربت من العين، أما الثانية فهي نَسَبُ الاسمِ للشيءِ الفارعِ الطويل، ما قد يربط اسم العين بِطولِ مسافةِ جريانِ مائِها العذْبة الدائمة، علمًا أن مياهَ النّبعِ تقدّر بـ 2.5 مليون متر مكعب سنويًا.
يطلُّ المخيّم على بقايا حصنٍ أثريٍّ مبنيٌّ على تلّةٍ، يُرجّح أنّ الحِصْنَ يعود لحقبة الدولة الأيوبية في فلسطين. يسكن مخيم الفارعة حاليًا، بحسب آخر إحصائيات وكالة الغوث، حوالي تسعة آلاف لاجئ فلسطيني، ينحدرُ معظمُهم من قرى شمال فلسطين، خصوصًا حيفا وقضائِها، إضافة إلى الآتين من شمال شرقي يافا، ومن الكفْرين، وصبّارين، وأمّ الزّينات، وبْيار عدس، وقنّير، والريحانيّة، وأمّ خالد، وبصّة الفالِق (برْكة رمضان)، والسّوالم وغيرها. شارك أهالي المخيم في مقاومة الاحتلال الصهيونيّ، وقدّم أهله عشرات الشهداء، منهم الاستشهادي محمد هزاع الغول، وأحمد محمد أيوب، ومصطفى جبر أبو زلط، وماهر جوابرة، وعبود مبارك، وعبد المنعم شاهين، وإبراهيم أبو صيام، ومحمد العبوشي، وفادي صبح، وإبراهيم سرحان، ومحمود إسماعيل وغيرهم من الشهداء الصّاعدين إلى السماء.
أُقيم المخيم، بالأساس، على أرضٍ مستأجرةٍ سُلّمت لِوكالة الغوث الدولية من وزارة الأشغال والتّعمير الأردنية عام 1949، وهي جزء من أراضي عائلة عبد الهادي. أقامت وكالة الغوث الدولية، بدايةً، خيامًا للسكن والمؤسسات العامة من مدارس وعيادات ومسجد، وفي عام 1951، أُنشئت بيوتٌ من (الإسْبست)، وفي عام 1952، أُنشئت بيوتٌ من الإسْمنت، وبين عامي 1958–1959، أُنشئ قسمٌ آخرُ تابعٌ للمخيم يقعُ إلى الغربِ منْه، أصبح يُدعى لاحقًا بالمخيم الغربي. وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1998، وبعدَ توقيعِ اتفاقيةِ "واي ريفر"، أصبح المخيم تحت سيطرةِ السُّلطة الوطنية الفلسطينية ضمن المنطقة "أ".
سِمات
يُسمّى الزيّ الطوباسيّ النّسائيّ بـ"المرْدن"، وهو مُستوحى من اللباس التقليديّ للأكراد، يحتوي على ثوبٍ أسودٍ فضفاضٍ من الحرير، بدون أي نُقوش وتطْريزات يدويّة، على عكس غالبيةِ الأثْواب الفلسطينيّة، وعباءَة بيضاء، وغِطاء للرأس من قطعتيْن بيْضاء وخضْراء، ويُربط الخَصر بقطعةٍ من الكوفيةِ الفلسطينيّة.
تتّسم طوباس بروح عشائريةٍ تكافليةٍ يرعى شؤونها مجلسُ عشائرِ طوباس، ومن أهمّ العشائر التي تنضوي تحت لواء هذا المجلس: الدراغمة، والصوافطة، والفقهاء، التي تتفرّع منها عشرات العائلات الفرعية والأفْخاذ والحُمولات الأصْغر، مثل: المساعيد، الضبابات، العنبوسي، أبو صلاح، أبو دوّاس، أبو مطاوع، أبو خيزران، العويضات، الحمودات، الخضيري، الخيرات، المدارسة، الدبابرة المسلماني، العيسى، المرايرة، الحمّامي، المشني، أبو ليل، أبو جبارة، أبو بشارة، الغزاوي والمصري وغيرها الكثير. البعد العشائريّ هناك هو الآمِر النّاهي في أمور الزواج والطّلاق والصّلح والعطْوات وكَفالة الدّم وما إلى ذلك.
السِّمة الجغرافية الأهم لِطوباس أنها منبسطة (تشبه غزّة) مع قليلٍ من التّلال والمُرتفعات. أما أرضها فترتفع عن سطح البحر من 300 متر إلى 600 متر. مُناخ المدينة معتدل... شتاؤها غزير وخيراتُها وافِرة... وكَما نساء صحراء النقب جنوب فلسطين، وبعض نساء شمال العراق على الحدود مع كردستان، وبعض نساء جنوب العراق في محافظة البصرة، وبعض أمازيغيات المغرب العربي، تُزيّن بعض نساء طوباس وجوههنّ بأوشامٍ لها مواصفات خاصّة. قد تكون تراجعت... انقرضت هذه العادة (السِمة) عند الجيل الجديد من نساء طوباس، لكن وجوه بعض النساء الكبيرات ما تزال تتزيّن بِها.
تراثٌ طَريف
من تراث طوباس الطريف الذي يورده أهل طوباس للتغنّي بزيتِ زيتونِهم وشهيّ أطايبِهم ومضيافيّتهم، ما وجدتُه منشورًا على صفحة فيسبوكيةٍ اسمها "طوباس حلوة يا بلدي"، واستهوتني طرافتُه وبساطتُه وها أنا أضعهُ بين يديكُم:
(لمّا طلب عنترة إيد عبلة من أبوها... 🌹 طلب منه عمّه مهر لعبلة تنكة زيت زيتون صافي... ومتل ما بتعرفوا بالصحرا زيتون مافي... جاب البلاد... وشاف العباد... وسأل الناس الكرام... حتى وصل إلى فلسطين... وبسرعة عِرِف يتصرف ووصفولو طوباس... واحترامًا لأهلها ترجّل عن جواده... وقال بيت شعر مفاده: "أنا الذي قطع الصحارى في الليالي... لا تأخذني لومة لائم ولا أبالي... جئتك يا طوباس والشوق يسبقني... وفي أرضك يا حبيبتي سأحط رحالي"... وبعد أن استقبله أهل طوباس، قال: يا سادة يا كرام. فقالوا له: اطلب واتمنّى طلبك عنّا. فقال لهم: (بدي تنكة زيت زيتون من الوجهِ الغربي مهر لِعبلة ولسكِّت عمّي ومرتو الهبلة)... فأجابوه قائلين: مِنْضيفك عنّا ثلاث ليالي... وبعدين طلبك مُجاب يا غالي... وأوّل يوم الصبح... جابولوا فطور حمص مع لحمة من عند مطعم أبو ضياء، وعالغدا عملولو أحلى سدر مسخن... والعشا حطولو لبنة وجبنة ومكدوس وسفرة طويلة عريضة... وبعدين تحلّى أحلى كنافة من عند الغاوي... قام أخونا عجبتو العيشة الهنية... ونسي الصحرا والبرية... وتعلّق أبو الفوارس بِطوباس وكرم أهلها... ونثر قصيدة مطلعها: (يا عبلة على حبك سامحيني... ففي طوباس ضالتي وحنيني... قد كنتُ أخطأت في حبك مرّة... وقد أحببت عليك طوباس فاعذريني)... وتجوّز من صبحية اللي أهلها أشاوس... وهيك خلصت سيرة أبو الفوارس... وترك عبلة عم تستنّى (التنكة)... وقال في طوباس: أحلى عيشة وأحسن ناس).