يتعرّض الذكور والإناث من ذوي الإعاقة للإجحاف بسبب إعاقتهم، لكنّ الإناث يخضعن لتمييز سلبي مضاعف عن الذكور بسبب جنسهن. إنّ الإناث من ذوات الإعاقة، لا تخضعن للتمييز السلبي بسبب إعاقتهن فقط، بل يضاف إلى ذلك النظرة الدونية من المجتمع لكونهن إناثًا. وكما تقول المفكّرة الفرنسية سيمون دي بوفوار (1908-1986)، فإنّ الأنثى تولد إنسانًا، ولكن المجتمع الذكوري يحولّها إلى أنثى مهيضة الجناح. وما تقصده دي بوفوار هو أنّ الاختلاف البيولوجي بين الذكر والأنثى لا يحتّم أي اختلافات تذكر على الصعيد الفكري والمجتمعي بينهما، لكن المجتمع الذكوري هو ما يصنع هذا الفارق الذي نستطيع أن نعدّه اضطهادًا جنسيًا بحقّ الإنثى، فأرسطو يقول بأنّ: "الأنثى ذكر مشوّه" فالذكر بالنسبة لأرسطو، هو الصورة المثال للكائن البشري الفكري والمجتمعي، وما يحيد عنها هو أقرب للحيوان.
لم يكن أرسطو في توجّهه شاذًا بأفكاره عن محيطه الفكري، فالأسطورة ترى الأنثى كائنًا ناقصًا حتى لو كانت إلهة، فأساطير ما بين النهرين، كما جاء في ملحمة غلغامش في صراعه مع الرّبة عشتار، أظهرت بأنّ الأنثى تلوّث كلّ من يحملها كـ "القِرْبَة المثقوبة" وما تومئ إليه ملحمة غلغامش هو الدورة الشهرية للأنثى والتي تعدّ فيها الأنثى نجسة غير طاهرة. إنّ الطهارة الجسدية المنقوصة لدى المرأة كلّ شهر كانت سببًا لاستبعادها من الطقوس الدينية ودخول المعابد المقدّسة والمناصب الدينية، وهذا الأمر ليس في الديانات الوثنية فقط بل التوحيدية أيضًا. وهذه النظرة عن الطهارة بحّق الأنثى، لا تشذّ عنها، أيّة عقيدة أرضية أو سماوية اعتنقها الإنسان، لذلك نرى بأنّ الإناث المقدّسات، لا تأتيهن الدورة الشهرية، بل أكثر من ذلك، فهنّ دائمات العذرية، حتى يكن مقدسّات في نظر تلك الديانات الوثنية والتوحيدية.
لا يتوقّف الأمر عند ذلك بالنسبة للأنثى، فهي تعدّ نجسة في حالة الولادة أيضًا، فكما تقول التوراة في سفر اللاويين؛ بأنّ الأنثى التي تنجب ذكرًا تعد نجسة مدّة أربعين يومًا، فيما لو أنجبت أنثى، فالنجاسة تتضاعف لمدّة ثمانين يومًا! ولا يتوقّف الأمر هنا، فكثيرًا ما ربطت ولادة طفل مريض، أو غير تام الأعضاء بشهوات المرأة السيئة خلال حملها أو ما يُعرف بـ(الوحام)؛ وهذا الأمر ليس اعتباطيًا فهناك سردية تدعمه نجدها في أساطير ما بين النهرين، فعندما تعبت الآلهة من العمل، طلبت من الإله (إنكي) أن يخلق لها خدمًا يقومون بالعمل نيابة عنها، بدلًا من إلهة الخلق (ننمو). فغضبت إلهة الخلق ننمو من توجّه الآلهة للإله إنكي وإهمالها، فخلقت ستة أشخاص من ذوي الإعاقة تحدّت الإله إنكي أن يجد لهم أعمالًا. ولا تختلف الأسطورة الإغريقية عن ذلك، فالإله (هيفايستوس) كان معوّقًا والسبب في إحدى سرديات ولادته المختلفة، بأنّ الإلهة (هيرا) زوجة الإله (زيوس) حملت به ذاتيًا من دون تلقيح من الإله زيوس، لذلك جاء معوّقًا. هذه النظرة التي ترى بالأنثى سببًا لوجود ذوي الإعاقة، كان لها تأثير كبير فيما بعد على حقوق الأنثى المعوّقة في الزواج والإنجاب.
إنّ البحث في التاريخ عن وجود الإناث من ذوات الإعاقة، يكشف مقدار الحيف الذي تعرّضن له، فبالكاد هناك ذكر لهن. وإن كان لنا أن نورد مثلًا من تلك القلّة، سنختار منها، ما يؤكّد وجهة النظر التي تمنع المرأة المعوّقة من الزواج والإنجاب، ففي تاريخ هيرودوت نجد ذكرًا لأحد أعداء الإغريق المسمى (سيبسيلوس) وأبنائه الذين ارتكبوا من الشرور ما يتعارض مع نظام المثل الطبيعية المتبعة عند اليونان. ويذكر هيرودوت بأنّ أمّ سيبسيلوس كانت تُدعى (لابدا العرجاء) لم يقبل الزواج منها أي رجل من الإغريق، لأنّها عرجاء؛ لذلك تزوجت رجلًا من خارجهم ومن طبقة متدنية اجتماعيًا، وبالضرورة أن ينتج هذا الزواج من أنثى عرجاء الطاغية سيبسيلوس عدو الإغريق، وفق تصوراتهم.
لا ريب في أنّ ازدراء الأنثى، لم يتوقّف على طبيعتها البيولوجية فقط، فقد امتد إلى عقلها وصنفت كناقصة عقل حتى لو كانت من الآلهة، مع وجود استثناء يكسر هذا التعميم، إلّا أنّه يكشف عن مقدار الحيف الذي تقع الأنثى تحت سطوته. هذا الاستثناء هو (أثينا) إلهة الحكمة والعقل عند الإغريق لكن لنتأمّل لحظة، فأثينا قد ولدت من رأس الإله زيوس! وبناءً عليه فإنّ أقدم ديمقراطية في العالم لدى الأغريق، لم تكن تسمح للأنثى بالانتخاب، مع أنّ إلهة العقل والحكمة أنثى. لقد تأخّرت حيازة الأنثى حق الانتخاب حتى القرن العشرين. وعلى نفس المنوال كان التعليم حكرًا على الذكور، ولم تنله الأنثى إلّا في القرن العشرين بشكل عام. أمّا على صعيد العمل والأجور، فالتمييز كان واضحًا لصالح الرجل. وأمام هذا الواقع الصعب الذي تعاني منه الأنثى (الطبيعية) فما هي حال الإناث من ذوات الإعاقة؟
بناء على ما سبق نجد أن الأنثى (الطبيعية) تخضع إلى التمييز السلبي بسبب جنسها، فيما الأنثى المعوّقة تقع تحت سطوة تمييزين: النوع الجندري والإعاقة. وقبل أن نضيء على جوانب من التمييز الذي تتعرّض له الأنثى المعوّقة يجب الإشارة إلى مجالين يفترض بأنّهما داعمان لها وهما: الدراسات التي تتناول موضوع الإعاقة والحركة النسوية، إلّا أنّه بعد الكشف كما يقول الباحثان ميشيل فاين Michell Fine وأدريان آش Adrienne Asch في كتابهما: Women with Disabilities "النساء من ذوات الإعاقة" (1988)، تبيّن بأنّ الدراسات قد أهملت الخصوصية المتعلّقة بالأنثى المعوّقة بسبب جنسها وذهبت إلى تعميم النتائج وفق احتياجات الذكر المعوّق متجاهلة قضايا الأنثى الخاصة الجسدية والنفسية هذا من ناحية. أمّا فيما يخصّ الحركة النسوية التي تطالب بحقوق الأنثى، فقد استبعدت الحركة الإناث المعوّقات، والسبب بذلك يعود إلى أنّ الإناث من ذوات الإعاقة يتم تنميطهن في صفات معينة وذلك باعتبارهن: "طفوليات، وعاجزات، وتابعات، ومحتاجات، وضحايا، وسلبيات". وهذه الصفات لا تتوافق مع تصوّر الحركة النسوية عن الأنثى المستقلّة المكافحة والحرّة في حياتها وقراراتها وأفعالها؛ وبالتالي تعزّز الصفات السلبية التي ألصقت بالأنثى المعوّقة الصورة النمطية التي تناضل الأنثى (الطبيعية) لرفعها عنها، هكذا جاء الظلم للأنثى المعوّقة من بنات جنسها، لكن هذه السقطة الأخلاقية للحركة النسوية لم تستمر طويلًا. وبناءً عليه، نستطيع أن نشمل المجالات التي تعرّضت فيها الأنثى المعوّقة، استنادًا إلى ما سبق بــ: الإجحاف في الزواج والإنجاب والتعليم والعمل.
لا يُنظر إلى الأدوار التقليدية للإناث في المجتمع، كزوجة وأمّ، أو مربية أطفال وربة منزل، وحتى عشيقة، على أنّها مناسبة للنساء ذوات الإعاقة، مع أنّ هذه الأدوار تعتبر مقياسًا للنجاح الأنثوي في المجتمع. إنّ الإناث من ذوات الإعاقة أكثر عرضة لعدم الزواج بالمطلق، من الإناث الطبيعيات، وحتى من الذكور ذوي الإعاقة. وكثيرًا ما تتعرض الأنثى إلى الهجر بعد إصابتها بالإعاقة، فيما تقل جدًا الحالات التي يُهجر فيها الذكر بعد إصابته بالإعاقة، بل إنّ مقارنة بسيطة تبين أنّ نسبة الذكور المتزوجين من ذوي الإعاقة، تتجاوز بكثير نسبة الإناث المتزوجات من ذوات الإعاقة. وفيما يخصّ الأمومة، فالإناث من ذوات الإعاقة تستبعدهن النظرة الاجتماعية من هذا الدور، فما دامت الأنثى المعوّقة تحتاج إلى رعاية، فكيف لها أن ترعى طفلًا حديث الولادة. أمّا بالنسبة للفعل الحميم، فلا ينظر للأنثى المعوّقة، بأنّها قادرة عليه، وينطبق الأمر على الذكر المعوّق، لأنّ التصورات عن هذا الفعل في مخيلة المجتمع، هي أقرب للحركات البهلوانية، لكنّ الذكر المعوّق يتجاوز هذه النظرة! ومع ذلك، فالإناث من ذوات الإعاقة أكثر تعرّضًا للاعتداءات الجنسية.
ويبدو الأمر كنوع من المفارقة، فمن ناحية لا يوجد مخيال جنسي عن الإناث المعوّقات، ومن ناحية أخرى عادة ما يكن ضحايا للاعتداءات الجنسية أكثر من الإناث (الطبيعيات)! فوفق التحليلات النفسية والاجتماعية لهذه المفارقة، فالاعتداء ينتج عن رغبات سلطوية قمعية، أكثر منها من رغبات جنسية من المعتدي على المعتدى عليها.
كنّا قد ذكرنا سابقًا، بأنّ التصوّر السلبي القائم على أنّ الإناث (الطبيعيات)، والإناث من ذوات الإعاقة، بأنّهن مسؤولات عن ولادة ذرية ذات إعاقة، مع أنّ الفحوصات السريرية أكدت بأنّ الكثير من الإعاقات غير وراثية، ولا تختلف نسبة تسبّب الذكر (الطبيعي)، أو المعوّق في توريث طفله إعاقته، عن الأنثى (الطبيعية)، أو المعوّقة.
ومع ذلك يستمر هذا النهج من التصوّر، الأمر الذي أدّى إلى تعقيم ذوات الإعاقة في الكثير من الأحيان. أمّا وإن حدث وأنجبن، فتقوم الجهات المجتمعية بإبعاد أطفالهن عنهن، بل ويمنع عليهن تبني الأطفال. ومن الحماقات المعرفية، بأنّ التصنيف الطبي للإعاقات الإدراكية والعقلية عند الأنثى يحتاج لتشخيصه إلى نسبة أعلى من العوارض عنه عند الذكور، وذلك بسبب الاعتقاد، بأنّ قلّة العقل أمر متجذّر في الأنثى.
اعتبر حقّ التعليم من الحقوق الأساسية للإنسان، كما أقرّته الشرائع العالمية، لكن بالنسبة للإناث من ذوات الإعاقة أو حتى الإناث (الطبيعيات) فقد تم تفضيل تعليم الذكر على الأنثى، ويعود ذلك لقناعة المجتمع بأنّ الذكر هو المسؤول عن الأسرة، وقد ثبت العكس، فكثيرًا ما قامت الإناث ببناء المجتمع بعد الحروب، وعملت يدًا بيد مع الذكر في الكوارث. أمام هذه القناعات فقد عانت الإناث من ذوات الإعاقة من صعوبة دمجهن في المجتمع نتيجة نقص في تأهيلهن التعليمي والمهني، ممّا أدى إلى قلّة توظيفهن أو الحصول على فرص عمل تمنحهن الاستقلالية والاعتماد على النفس.
إنّ تسليط الضوء على معاناة الإناث من ذوات الإعاقة يفضح هشاشة المنظومات الاجتماعية التي تدّعي حماية ذوي الإعاقة، حيث تمارس في العمق تمارس تمييزًا بين الأنثى المعوّقة والذكر المعوّق، وهذا التمييز يعتبر انعكاسًا للعلاقة غير المتوازنة بين الذكر والأنثى في المجتمع بشكل عام وخاص؛ لذلك يجب إصلاحه لتستقيم العلاقة بين حدّي المجتمع البشري.
ملاحظة: وضعت كلمة الطبيعي بين قوسين للإشارة إلى التقسيم الذي وضعته الفلسفة اليونانية بين ما هو مثالي/ طبيعي وما هو غير طبيعي/ معوّق.
*كاتب من سورية.