}

السطوح: حارسة البيوت والكتابة

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 13 فبراير 2025
إناسة السطوح: حارسة البيوت والكتابة
الخيمة البدوية بوصفها مكانًا مرتحلًا أبقت على اتصالها السماوي(Getty)

(1)

ينقذف السطح إلى أعلى البيت ويتمدد، ليس لأنه فائض، إنما لأن له أدوارًا سردية متعددة في وجوده الفوقي الساند لبيتٍ فيه مجموعة اجتماعية تُسمى الأسرة؛ على عكس الغرف التي تكتفي بأسقفها؛ مكتفية بوجودها كحماية موضعية لكيانها الثابت. ليكون نص السطح خارجيًا وليس مقطوعًا عن نصوص الداخل البشرية التي تحتمي تحته. والسطح بهذا المعنى يكوّن له شخصية نصّيّة تفترق عن مكونات البيت عمومًا، لكنها تدخل في تضاعيفه الجمالية، وتؤسس كيانًا منفردًا له دوافعه في أن يكون النص الخارجي المنفتح على فضاءات عمومية لا حدّ لها. 

سقف الغرفة وجهٌ بلا ظهر، ينظر إلى الداخل، ترك ظهره بظهر السطح والتحم به. بينما السطح ينطلق إلى الخارج، من وجهه المتحرر كذلك النص له وجهٌ وقفا. نرى أحدهما، ويتوارى الآخر في تضاعيف المجهول السردي. وفي هذا التباين الافتراضي يمكن أن نقول بأن ثقافات الغرف الواصلة بين الواقع وشبحه، لا تتشابه كثيرًا مع ثقافات السطوح. فالسرود تختلف في وقائعها وتداعياتها وذاكراتها، فبين الذاكرة الريفية القروية ووقائعها، وبين معطيات المدينة وضواحيها المتاخمة لها، تنشأ علاقات بينية مع حاضر لا تحدده تركات الماضي شكليًا، بقدر ما تحدده حداثة الحاضر وشكلياته ومعطياته المتزايدة. فمثلًا نرى سطوح المدينة أكثر إضاءة من سطوح القرية الغارقة في الظلام. لكنها غير مسكونة كليًا بسبب تكنولوجيا التبريد الوافدة من معطيات العلم. لهذا فإن ثقافة السطوح البيتية لا تنفصل عن ثقافة المجتمعات التي تكون فيها. فهي جزء من منظوماتها القديمة المتوارثة وحارسة لأفكار قيمية ذات جذور عميقة في الذات الشخصية والجماعية على نحوٍ مباشر، فتكون النصوص في خطابات السطوح ذات بنية اجتماعية أمينة في نقل وقائع المجتمعات، لا بالشكل البدائي الذي يقود إلى سهولة التصور، بل في تركيب طبقات المجتمع وإعادة تدويرها من الأعلى، حيث يكون النص مشرفًا على زوايا كثيرة فيه. لذلك قد نقرأ السطوح بوصفها تمثل أزمانًا قديمة لنظام شعبي أسري بدأ منذ الكهوف والمغارات وأنفاق الطبيعة، كأرحام توفر الظلال والدفء والأمن الممكن والألفة إلى حد معقول في قراءة ممكنة لا تتجاوز الطبيعة، بوصفها الحاضنة الأولى والأخيرة لها.

في الحالات كلها فإن السطوح تبقى بهوية محلية في أنثروبولوجيا القرية والمدينة. وهي سطوح اجتماعية في جغرافيات الأمكنة. لذلك فالنصوص التي تتعامل مع موروثاتها القديمة ومعطياتها المستحدثة، لا بد وأن تقع بين الواقع ووقائعه وبين الخيال الفني، لأن الخيال "يزيد من حدّة حواسنا"، بحسب غاستون باشلار في "جماليات المكان". والنصوص الفنية أيًا كانت شعرًا أو قصة أم رواية تتنوّر بالخيال، فهو خلاصة الواقع وتكثيفه، كما يقول كافكا.

(2)

إذا كانت للسطوح أشكالها المعمارية المتشابهة والمتقاربة، فإن لها أيضًا تفاعلاتها وتقسيماتها الاجتماعية التي تقع بين الريف والقرية من جهة، والحضرية والمدينية من جهة أخرى، بما فيها الضواحي المتاخمة لها؛ وبالتالي فإن للمدينة سطوحها وللقرى سطوحها وللكهوف سطوحها، لكنها تشترك كلها بحماية البيوت من دخائل الخارج: غبار، عواصف، أمطار، رياح، نيران، أشباح، جن، ومفترسات. ويقينًا فكلها تجتمع على فكرة الحماية من الخارج. وعادة ما يكون الخارج معاكسًا لألفة البيت، وهو الرحم الذي يوفر الأمان بشكل مباشر. ومثلها النص الإبداعي؛ أشكال معمارية وابتكارات لا تنتهي، وتفاعلات مزدوجة بين الواقع والخيال في قرويتهما ومدينيتهما، لينشأ نص جديد، تكون علاقته متينة أو ضعيفة بحسب الصياغة الفنية له.

بهذا التناظر يكتسب السطح أولوية في غلق الخارج من الأعلى، تمهيدًا لبث الأمان والسلام في الداخل. إذ يكون النص أمام خيارات بين المدينة والقرية وبيوت الشعر الصحراوية التي لا سقف أو سطح لها بالمتعارف عليه من سطوح ثابتة. وكل خيار له مقوماته البلاغية والوراثية والدينية، بما يشكّل بانوراما اجتماعية ليست بعيدة عن أي حاضر تستقدمه حداثة العمران والبناء. وهذا ما يمكن تسميته بالسطوح النفسية التي تتغير من الداخل/ عبر الخارج، كلما تغير واقع الحال واضطردت معه مفهومات مستجدة تقع في بيانات الثقافة الشخصية، مؤشرة إلى أنثروبولوجيا البيت والإنسان الذي تقع عليه مسؤولية الحفاظ على ما ورثه من ودائع اجتماعية. ولأن هويات السطوح مضاءة بطبيعة وجودها الفوقي، بعكس القبو ذي (الهوية المظلمة للبيت) بالرؤية الباشلارية، فإنها تفتح مساحات الرؤيا إلى حد بعيد.

تكتظ سطوح الأحياء بالنوم والشخير والأحلام البسيطة، المعتادة، كما لو أن الجميع ابتكروا طريقة واحدة للحلم الجماعي الخفيف (Getty)


(
3)

نقول عادةً بأن النصوص اجتماعية الرؤيا، فلا نص من دون خلفيات وهويات مجتمع. ولا خيال إلا وأنه يتكثف منه؛ حتى الخيال الفني يخضع لعجائبية الواقع في علاقاته اليومية، لذلك نرى في السطح ورشة عملية نصّيّة قابلة لاستلهام معطيات المجتمعات بأنواعها كلها. فالسطح لغة مشتركة بين القرية والمدينة في ريفية النوع الاجتماعي الساكن فيه. ونركّز على ترييف السطوح لأن المجتمعات العالمية كلها انتقلت من الحاضنة الزراعية إلى الحاضنة الصناعية، فبقيت علاماتها القديمة موروثة في اللاوعي والإرث القروي الذي لا تسحقه أقدام الصناعة كليًا، بل تجزّؤه إلى وحدات صغيرة، يبقى طافيًا منها الإرث العتيق كدلالات على الهويات الفرعية الضامنة في البقاء العام. لنرى في تتبع الأثر الأدبي بأننا نقتسم مع السطوح البيتية ذكريات كثيرة. الطفولة وبراءتها. الأصياف التي تجتذب العشاء الأخير، البق والبعوض والناموسيات ومخدات ريش البط الناعم. صلوات الآباء والأجداد. مرويات الجدّات المتغيرة مع زمن السطوح المفتوح. ضيوف البيت من العمّات والخالات والأقارب البعيدين والقريبين. العلاقات العاطفية العابرة مع بنات الجيران. لتتعالق أزمان السطوح مع بعضها وتنسجم الجزئيات الصغيرة في متتاليات السطوح المتلاحقة في ذاكرة اجتماعية لا يمكن إخفاؤها عن النص وهو يستدعي ماضي السطوح، ويلاحقها، متمعنًا في فطرتها قبل زوالها الكلي مع عصور العلم التي والإلكترونيات التي تتوالى وتلتحق بالزمن الجديد في حداثاته التي لا تنتهي.

(4)

يحتاج البيت إلى مساحة محددة بالأمتار، وتندرج سقوف الغرفة تحت هذا الوصف، لكن السطح قد يتجاوز هذه المساحة المحددة بالأمتار، ويشكّل لنفسه وجودًا شخصيًا خارج المساحة بتزيينات جانبية وأمامية، مستفيدًا من اتساع الفضاء الذي حوله وفوقه من دون الحاجة إلى إضافات أرضية. ومثله الإنشاء الذي يكتنف النصوص، فهو يقع في ثقافة المؤلف الوصفية التي تريد أن تموّه في بعض الأحيان على انسيابية النص، أو تعطّل فيه بعض الإجراءات لأغراضٍ فنية، لذلك نقرأ السطح على أنه وجود اجتماعي مراقِب لألفة البيت وحركته الموضعية. ويحتفل النص العلوي بمقامات ليست ثانوية، إنما جوهرية تمليها عليه فكرة النظر من فوق إلى تحت. ولأن طبيعته الهندسية والنفسية المتكونة من وجود واقعي، تسمح بأن يكون كائنًا ذا سمات شخصية، لا يحددها الفضاء عمومًا، بل يحددها الوجود الواقعي له، بكينونته الفضائية التي تستقبل إشارات الخارج بشكل مباشر. فهو لا يتصل برحم البيت، إنما يتصل بسرّة الفضاء والغلاف الخارجي للبيت، بما فيه من ستر وساتر يتعامل مع الكون الخارجي، خارج تفصيلات المكان، مؤثثًا لنفسه كيانًا مستقلًا، بالرغم من ارتباطه الحميم بأضلاع البيت وسقوف غرفه. بمعنى أنه يكوّن لتمدده الهندسي ما يشبه الخيمة المستطيلة أو المربعة من الكونكريت والتسليح الحديدي. أي أنه ليس فراغًا يعوم في الفراغ. بل هو جزء من الفراغ الذي نستشعره حينما يحيط بنا من كل جانب. فتحولات السطوح تحولات ثقافية في جزئها الكبير. إذ ينكسر الزمن الماضي فيها وتنشأ علاقة ما بينها وبين اللامكان الذي يتطور دائمًا مع مستجدات العلم وتكنولوجيا الحداثة.

(5)

السطوح خمائر النصوص.

هكذا قال الراوي وهو يوثق كلام رجل قروي.

(6)

السطوح الصيفية حيّة في القرى والأرياف والضواحي والأحياء الفقيرة، وللصيف لها فيه نكهة ساخنة. مزيج من العشاء الصيفي المعتادة: بطيخ. خبز تنور. ماء. زبدة. وفيما بعد دخلت "الفلافل" في الصحن الأسري القروي كطاعم وافد من دولة عربية. وهذا هو المتاح لأية أسرة قروية تركت بيوت القصب وأصوات الماء، وتعجّلت إلى حضارة الأحياء البسيطة، بينما هُجرت سطوح المدينة مع حداثة العمران وضخامة البناء فيه، فأصبحت سقوفها بلا سطوح. أنهتْ تلك الثقافة الفطرية، منتمية إلى عصر لا تعنيه الفطرة الأولية في الاستجابة لمتطلبات الحياة السريعة والدائمة. فبقيت عائمة في كهوف البيوت التي لا تنطق معها كثيرًا، وهي تستجيب لمفرزات الواقع العملي الذي يعمّ المدن الكبيرة، متسارعة إلى طي أيامها وشهورها بعجالة. والنصوص الروائية والقصصية تتحول معها من حالٍ إلى حال، لكنْ تبقى تراها سطوحًا ذات جوهر قروي بعلاقاته الداخلية التي يستبطنها كاتب محترف. فسطوح الصيف سيمياء الأحياء المنبسطة مع الحال المعاشية المتواضعة. وغالبًا ما يكون السكان من جنوب المدن من مدن الأنهار وظواهر الطبيعة البكر. أولئك الذين تعلموا على مناداة البط المهاجر وأشباح الليل الكثيرة. لتحفل النصوص بطقوسها وخرافاتها وحكاياتها التي تتناسل ولا تنتهي. وفي الغالب نستمع إلى حكايات الجدّات وهنّ يضفرنَ الحكايات بأساليب تنطوي على متعة وتشويق وإبهار، بينما يُكثر الأجداد من صلوات السطح، مناغين السماء طالبين منها العفو والرحمة والرزق والأمان. ويكون الأب على سطح آخر صامتًا في ليل ساخن. وتدمع عينا زوجته بلا سبب يمكن للأبناء والأحفاد معرفته. بينما تكتظ سطوح الأحياء بالنوم والشخير والأحلام البسيطة، المعتادة، كما لو أن الجميع ابتكروا طريقة واحدة للحلم الجماعي الخفيف. ولهذا فإن السطوح هي أمكنة بشرية، ولا أمكنة معًا، تتحفظ نصوصها بالمغامرة الفنية، متخذة من فضاء السطوح خلفية مناسبة لسرد الحكايات والروايات. فالأصياف في موسمها تفتح الوعي الشفاهي إلى آخره تقريبًا، وتستدعي الذاكرة من أن تتصل بالحيوات الماثلة أمام جدّة عجوز تستنسخ من السلف الصالح ما ورثته من قصص متداولة وشواهد ماثلة ومشاهد لا تُنسى وحوارات حكيمة، فيها من الوعظ الشيء الكثير.

السطوح لا تنتمي إلى بقية الفصول. بل تُستهلك في المناخ الجاف وتتوسع وتشارك جزءًا من البيئة الاجتماعية. ولأنها موسمية، فهي بالضرورة قروية وريفية وليست مدينية. لذلك نجد في المدينة عمارات طولية ليس فيها سطوح، فحداثة العمران ألغت هذه الفكرة القديمة، وجعلت منها طوابق بلا سطوح، واستغنت عنه بالسقوف المتصاعدة. وبالتالي ألغت الكثير من القيم والطقوس الاجتماعية التي كانت سائدة على فكرة البساطة والجمال في المرويات الشفاهية، والاتصال بالسماء بما فيها من نجوم وفيرة وأقمار متناوبة في الظهور والغياب، وكواكب تتحرك يحفل بها ليلها الريفي. وأهم ما تمكنت من تغييره هو أن جعلت الناس تعيش بشكل عمودي. فالأفقية القروية طوقتها مستجدات الحداثة وتوابعها في العمران والبناء ومن ثم تحييد العلاقات الاجتماعية فيها على وجه التقريب. وبهذا فإن السطح كون زمني فسيح غير زائل لكونه منفتحًا، يغيب كليًا عن إنسان العمارة العمودية بشكل تام. وهو لا مكان لوجوده بين الفراغ والمكان، ولا يكتسب تجربة المكان الكلية بسبب ذاكرته المطبوعة على فصل واحد يأتي ويمضي إلى الربيع. وسنرى أن الكثير من السطوح العمودية والأفقية، هي سير ذاتية متفرقة، ينظّمها رابط اجتماعي وربما ديني أيضًا.

(7)

الخيمة البدوية بوصفها مكانًا مرتحلًا أبقت على اتصالها السماوي، بسقفها المثلث، فسطحها بؤرة معقودة على التقاء رؤوس المثلث المتعامد، وظلت إلى اليوم مكانًا صغيرًا ذا صلة بالمحيط البري الشاسع. ليست بعيدة كليًا عن الفضاء العلوي. وهي تجمع الأرض والسماء في تطلعها إلى يومها وغدها المتساوي في درجة كمالها الاجتماعي بنزعتها المنفردة، لكي تكون المكان المرتحل حتى من دون أسباب. يرتحل معها المكان إلى لا مكان، وهذه خصوصية الخيمة التي ليس بها حاجة إلى سقف أو سطح. فالجلود الوبرية تكفي لأن تكون على سفر فصلي لا ينتهي، وهي مستعدة نفسيًا لأن تغادر اللامكان إلى لا مكان آخر. فالطبيعة التي تتغير مع الفصول تغيّر الناس الرّحّل وتغيّر لا أمكنتهم ضمن فضاءات طبيعة لا حدود لها في سرديات أشبه بالخيال بمغامراتها الدائبة في جغرافية اللامكان الشاسع. ولنفهم مثل هذا سنجد أن المَزارع والبساتين والحقول (لا سقوف وسطوح لها) تقع ضمن هذا التصور اللامكاني، لأنها توأم الطبيعة ومتغيراتها المناخية الفصلية. حتى نقف في هذا السياق متعرفين إلى أن السطح هو قرية أو ريف وليس مدينة، لا بالشكل الهندسي والمعماري، بل بالشكل النفسي والاعتباري والقيمي. وفي أحيانٍ كثيرة تلعب المناخات الفصلية أدوارًا في متغيرات السطوح الاجتماعية، لنجد فيها ظروفًا أخرى لا تفترق عن ماضيها إلا بالقليل منه. وما نعنيه بالمتغيرات هو ملء الفراغات "السطحية" بالمتيسر من المواد العازلة لمنع تدفق دخول المطر أو الغبار الصحراوي، وهذا الإجراء اللاهندسي واللاطقسي إجراء تفرضه ضرورات مهيمنات الطبيعة ومتغيراتها المتوقعة وغير المتوقعة.

السطوح الصيفية حيّة في القرى والأرياف والضواحي والأحياء الفقيرة، وللصيف لها فيه نكهة ساخنة


(
8)

تشترك السطوح المتجاورة بالزمن والمكان والهوية الشخصية والنوع الاجتماعي، وهذه سطوح اجتماعية المنشأ فرضتها عقيدة مشتركة وهوية دينية ذات ملامح شخصية لا يمكن ألا نفهمها. ويمكن القول بأنها سطوح دينية على الأرجح لتشابه نوعها المحلي، وفرضياتنا قائمة على مسميات محلية كثيرة في الوطن العربي. فالسطوح المسيحية ليست هي السطوح الإسلامية. والسطوح المذهبية تلفظ السطوح المعاكسة لها في المذهب. بمعنى؛ وإن التقت في عموميات المكان فإن لها طقسها البنيوي الديني الذي تمارسه. والكثير من السطوح الصيفية (قبل الكهرباء والمبردات والتكييف) كانت ملاذات ليلية آمنة. فالجد يصلّي ليكون قريبًا من السماء، وتصل دعواته إليها مباشرة من دون أن يحجزها سقف الغرفة. هكذا يكون الوعي البدائي بسيطًا، وفيه من التباس الحالة الشيء الكثير. ويتبع الجد الأب ومن ثم الأولاد والبنات. إنها سلسلة وراثية لا حدود لها تُقام على السطوح والغرف المغلقة. ليكون الزمن الاجتماعي علامة فارقة في سطوح الناس ممن يشكّلون علاماتهم الموضعية الدينية الواقعية والاحترافية أيضًا. لهذا نقول إن السطوح المنفتحة على السماء ذات بنية فضائية خارجة عن زمن البيت وغرفه المغلقة. وإن السطوح الاجتماعية بوصفها المتشكل من تقارب الأديان مثلًا، تعطي نكهة خاصة بوجودها المضمون تحت السماء، هذا قبل حضارة الكهرباء والعمران، حتى تتبدل الطقوس من وضعها الديني البسيط إلى الوضع السياسي لتكون شاهدة على تظاهرات جماهيرية متكررة. وبالتالي فإنها تفقد بعض صفاتها في اتساع العمران من عمارات متلاصقة لا سقوف لها.

(9)

السطح آخر ما يُبنى في البيت، فهو انغلاق وانفتاح. انغلاق كالستارة الكونكريتية الضخمة، وانفتاح إلى الفضاء الخارجي، حيث السماء التي لا تنتهي، والفراغ الذي نتصوره هو مجرد فضاء داخل في البعد اللانهائي؛ لذلك فهندسة السطح خلاصة هندسة البيت، بالرغم من أنه-واقعيًا- سيأخذ اتساع البيت ومساحته بالشكل الممدود المتعارف عليه فهو القانون الضامن لأن يكون البيت بكامل حريته. ونعتقد أن علينا ككتّاب أن نبحث عن ضمانات النص اللامكاني في اكتظاظ الأمكنة الفاعلة، لنجعل من اللامكان أسطورة في الكتابة والإبداع.

(10)

الفضاء ليس هو الفراغ. بل هو ما بعد الفراغ.

(11)

يؤثث السطح في الأصياف القروية على بساطة متناهية، تمتثل إلى اجتماعية الساكنين وظروفهم المعاشية، فلا توجد هناك فخامة علوية تملأ المكان. بل يوجد سرير أو سريران خشبيان؛ أحدهما للأم التي تشكو من الربو أو السكري والضغط الصاعد. والآخر للأب الذي ينام مبكرًا كعادة الفلاحين المتعبين الذين يقضون نهاراتهم بالزرع بين الماء والطين. وبقية أفراد الأسرة يفترشون البُسُط الخفيفة، بغطاءات بيتية، الأُزُر الملونة، عباءات الأم والأخوات من دون أن تكون ثمة فسحة للحلم. فالليل بنجومه الوفيرة لا يترك فسحة لحالم أو حالمة، ولا شك بأنه يمرر الكثير من الطمأنينة بين أفراد الأسر العاكفين على نوم صيفي ليس طويلًا في الأحوال كلها. فيتشكل النص على وفق هذا من هوامش جانبية لحيوات لها قدرة تفجير جوهر النص لو تم معاينة إجراءاتها الداخلية الخفية، فعلى السطوح تكثر الناموسيات لحجب البق والبرغش والحرمس الذي يتسلل إلى مخادع النائمين. وهي دفاعات بسيطة وبدائية بين الناس البسطاء، لكنها ضامنة لنوم مريح بلا هذه الحشرات الناعمة. وتعمل الناموسية عمل الرحم الذي يضم بين أحشائه أجنّةً صغارًا وكبارًا، وبالتالي تصبح هذه الشبكة القماشية الخفيفة حاجزًا أكيدًا، بما تشكله من حوض هوائي بلا منغصات. وتكون سقفًا ليليًا تُرى النجوم الفضية من ورائه وهي تتزاحم في الفضاء البعيد.

(12)

أشياء يراها السطح نهارًا: طيران العصافير والفواخت والزرازير والحمائم الأليفة التي تدور حول سطوح بيوتها. اقتتال صقور على فرائس ضعيفة ضلّت طريقها في السماء. طائرات بعيدة تترك وراءها حبلًا غليظًا من الدخان. طائرات مسافرة إلى عواصم ومدن العالم. أشجار تتنفس عافية الصباح (يقال إن عصافير الفجر توقظها من نومها) تفتح أزهارها وثمارها ليوم جديد.

قد يتشظى النص لاعتبارات كثيرة، لكنه يجمع نفسه في هذا التشظي، لأن السطوح ترى سطوحًا مثلها في شمس اليوم الجديد. ترى الناموسيات المطوية والوسادات الملفوفة كالأنابيب المنفوخة، حيث غادرها أصحابها إلى العمل في الزرع والحصاد (ولاحقًا في الوظيفة) حيث لا تتمكن كثيرًا من فهم مشروع البيت من الداخل، لكنها تتحسسه منذ بداية المساء الصيفي، في عودة الأسرة لتجتمع على عشاء الخبز والبطيخ واللبن الرائب والماء في أكوازه الباردة.

(13)

السطح.. آخر بناء في البيت.

لكنه أول مَن يرى حركة الداخل ويوثقها في ذاكرة الكتابة اللاحقة.

(14)

الأسفل هو عمق الأعلى.

(15)

الجزئيات الصغيرة التي ينتجها الواقع والخيال معًا، هي التي تراكب النص، وتمنحه شرعية فنية على الأرجح. فسرود الجزئيات هي مهيمنات أساسية على تركيب النص، والسطوح على أشكالها مَغارف للسرد في تبنيه لاجتماعيات السطوح في مداخلها السالفة، ومخارجها التي أدركت وصفة الحداثة، كشأن تحديثي لملامح الحياة. وما التقنيات العلمية والتكنولوجية سوى إضفاء صفات جديدة على المكان واللامكان، بضمنها السطوح السعيدة... والتعيسة أيضًا.

(16)

هل لاحظتم أن باب السطح يكون من الداخل وليس من الخارج؟

 

هامش:

(*) "جماليات المكان"، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا- بيروت- المجد - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 2006، الطبعة السادسة. وباشلار أحد الفلاسفة الفرنسيين. ترجمت أغلب مؤلفاته إلى العربية، وقد برز كواحد من أبرز وأشهر المتخصصين في فلسفة العلوم. (ويكيبيديا)

مقالات اخرى للكاتب

آراء
13 مارس 2025
آراء
27 فبراير 2025
هنا/الآن
30 يناير 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.