}

عسقلان: حيث خيرُ الرِّباط تُنادي والأبناءُ يسْتجيبون

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 15 فبراير 2025
أمكنة عسقلان: حيث خيرُ الرِّباط تُنادي والأبناءُ يسْتجيبون
من آثار عسقلان التاريخية
في لحظةٍ تاريخيةٍ فارِقة، أيْقن ابن حجر العسقلاني (شعبان 773هـ/ 1371م - ذو الحجة 852هـ/ 1449م)، أن خيرَ الرباط هو رباطُ عسقلان، فعاد إليها بوصفها أصلَهُ وفصلَهُ وديرةَ أهلهِ في عسقلان البحريّة الفلسطينيّة الأبيّة، المدينة التي عمّرها بَنوها وصانوا عهودَها وتمثّلوا فيها حديث نبيّهم: "أوّل هذا الأمر نبوّة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم ملكًا ورحمة، ثم إمارةً ورحمة، ثم يَتَكادمون عليها تكادُمَ الحمير، فعليْكم بالجهاد، وإن أفضلَ جهادَكم الرِّباط، وإن أفضلَ رباطِكم عسْقلان".
وفي كلِّ سنواتِ إقامتهِ المصرية (ولد أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلانيّ في الفسطاط وأقام فيها)، ظلّت عسقلان في وجدانِ ابن حجر الشافعيّ المذهب، الكِنانيّ المرجعيّة، الواسع العلم، الزّاخر المعرفة، العريقِ الأصلِ والفصْلِ والثّبات على الثّوابت. لم يبْرح ديارَ قلبهِ إلا طالبًا للعلم، أو راغبًا بِمزيدٍ من مجدِ الإنجازِ الجليل: "وإذا الدِّيار تَنكَّرت سافرتُ في طلب المعارف هاجرًا لدياري". ولكن الديار لم تتنكّر يا حاملَ اسم الصلابة الفلسطينية الخالصة، كل ما في الأمر أنها تركتكم تسعون في مناكِبها، واثقةً أن مرجعَكم إليها، ونبضَكم طالعٌ من قلبِها الصاخبِ بالموجِ والوهجِ والسطوعِ البَليغ.
صاحبُنا ابن حجر وجد الأنُس في الكِتاب، والزّاد في المعاجم، فواصَل السفرَ إثْر السفر: "وإذا أقمتُ فمؤْنسي كُتبي، فلا أنفكُّ في الحاليْن مِنْ أسفَارِي". سفرٌ لم يغيّب عسقلان عن بالِه، ولم ينسِهِ بحرَها وبرَّها وحجرَها وشجرَها وفخّارَها وفخَارَها وألواحَها وضريحَ الحسين بن علي فيها وكل عناوينِ بهائِها وهي كثيرةٌ.
يوم الطوفان العظيم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت عسقلان في وجدان الشباب طلّاب الحق أبناء الكرامة؛ كانت ببحرِها ومينائِها وشجنِ مجدلِها ونبوءات نبيّها وحسنِ جوارِها مع كل مدن جنوبِ فلسطينِها، في وجدانِهم، في عمقِ حساباتِهم، وما عقدوهُ من عزمِ تمريغِ سوْءةِ العدوّ الصهيونيّ الغاشم بالتراب.
عسقلان التي تزهو بِمعناها ومبْناها كانت في يوم من الأيام جزءًا من غزّة الكبرى عندما كانت مساحة هذه الغزّة الكبرى تزيد على 560 كيلومترًا مربعًا.

جورة عسقلان الخضراء 

عسقلان التي فتحها معاوية وحرّرها صلاح الدين من الصليبيين، هي مدينةٌ فلسطينيةٌ عريقةٌ يمتدُّ تاريخُها إلى ما قبل الميلاد بقرونٍ كثيرة. تطلُّ على البحر المتوسط شمال مدينة غزّة. تعاقبت عليها حضارات مختلفة، وصولًا إلى هويّتها العربية الإسلامية القائمةِ اليوم رغم أنفِ اللصوص، وغصبًا عن سارقي التاريخ والجُغرافيا.
كنعانيةُ المحيّا، طيّبةُ المَعْشر، جنوبيةُ الّلظى الطالعُ من عروقِ أرضِها، ومن تباريحِ لحنِها المضبوطِ على إيقاع التّحدي. فلسطينيةُ الأصلِ والفصلِ والحِكاية. سرديّتُها من سرديّةِ أبناءِ كنعان وفي المقدمةِ منهم ابنهُ فلسطين. مُناخُها من مُناخِ إقليمِ البحرِ الأبيضِ المتوسّط المعتدِل شرطَ أنْ لا يستفزّ أحدٌ اعتدالَ هذا المُناخ، وشرطَ أن يُسقط أولادُها الأحرارُ حجارةَ سجنٍ أقامَه العدوّ فوقَ شموخِها، واهمينَ أنهم بسجنٍ عليها يمكنُ أن يقلّلوا من شأنِ جموحِها، أو يُرضِخوا لهيبَ شررِها حين لا بدّ للشّررِ أن ينتشِر.
لستِ عسقلةً واحدةً يا بلد أحمد ياسين (بحسب لسان العرب فإن العسقلةَ هي المكانُ الذي فيه صلابةٌ وحجارةٌ بيْضاء)، بل عسقلان اثْنان، أو عسْقلتان اثْنتان.
ولِمن يرغبُ بالازديادِ من لسانِنا العربيّ الفصيح، فإن العسْقل هو نوعٌ من أنواعِ الكمْأةِ البيضاءِ يُشبه لونُها الحِجارة. والعسْقلان أعلى الرأس. فعسقلانُ، بالتّالي، وكما ورد في أوثقِ المعاجِم، هي مدينة عاليةُ المَجْد، وهي عروسُ الشام، ألَم يقُلْ الأزهريّ عنها إنها من أجناد الشام؟
وبما أننا ما نزال في حدود الاسم وآفاق التسمية، فإن عسقلان، وفق أحد الاحْتمالات، اسمٌ كنعانيٌّ يعني "المُهاجرة". وكل مهاجرة سوف تعود يا عسقلاني، وكل الغيّاب لا بد يومًا ترابكِ الطّاهر سوف يقبّلون، وعنه سيظلّون يدافعونَ حين يعودون.
ولكي نوفّي الاسمَ حقّه، نختم حوله بما قاله أبو عبيد عَبْدِ اَللَّهْ بْنْ عَبْدِ اَلْعَزِيزْ بْنْ مُحَمَّدْ بْنْ أَيُّوبْ بْنْ عَمْروْ البكريّ الأندلسيّ (1030-1094): "إن عَسْقلان بلدٌ معروف، والاسمُ مشتقٌّ من "العَساقيل" ومعناه الشّرب، أو من "العسْقيل" وهو الحجارةُ الضّخمة، ويرى ياقوت الحمويّ صاحب معجم البلدان أن الاسم أعجمي. ويرى آخرون أن العسقلان تعني أعلى الرأس".
عنقودُ الذهبِ أنتِ... كرمةُ العنبِ النّبيذ... شلّال التدفّق كَرَمًا وعراقةً وموائلَ طيرِ ومنعرجاتِ سَمَك. أنتِ أطلالُ كنيسةِ سانتا ماريا فيريديس العاكسةُ في حديقتكِ الوطنيةِ عبقَ أزمانكِ المتوارثةِ حضاراتٍ وعمارةٍ ومنجزاتِ أُمَم. أنتِ بلد الثورات وموْئلِ الثّوار منذ ثورتكِ قبل 3250 عامًا على رمسيس الثاني.
ورغم أن متحف روكفلر يقبعُ في القدس تحت نيرِ الاحتلال البغيض، إلا أنه لم يُعدم بعض آثارِكِ، ووثّق بعض من عبروا منكِ إليكِ، وهنا أودُّ أن أسأل هل تسنّى لاسكندرِ المقدونيّ أن يطوّعك عندما ظنّ قبل 2357 عامًا أنه بسط سيطرته عليكِ؟ وإن كان لا بد من جواب فهو بالنفيّ، لم يطوعكِ إلا أبناؤكِ الأصليون، وكل ما نراه مجرّد وهمِ سيادةٍ سرعان ما سوف يَزول (آ والله).




أمّا وإن كان لا بدّ من إقرار، فهو أنك في الزمن الهيلنستيّ الجامع بين أفضلِ ما عند الهيلينينَ اليونانيينَ وأنبلِ ما عندنا، حققتِ إشعاعًا حضاريًا لافتًا، وبدأتِ تتهجّين حروفَ اسمكِ الكنعانيّ العربيّ بشكلٍ أوضح؛ صرتِ أيامها حرّة كما كنتِ في كلِّ وقتٍ وَحين، وتمتعتِ بحكمٍ ذاتيٍّ، وشيدتِ معالمَ حضارةٍ لافتةٍ في العمارةِ والنّضارةِ والاسْتقرار، وسبكتِ العملاتَ المعدنيةَ، وكنتِ أيامها بهيّةً كما أنتِ دائمًا. ركلتِ المكابيينَ (إن كان هناك، أصلًا، جماعة تحمل هذه التسْمية وهذا التصْنيف، ولا أعرف إن كانوا بضمِّ الميمِ أو فتحِها). لا أصدّق التاريخ الذي يربطكِ بِهيرودس ابن أنتيابتز، فهو مَلِكٌ خالعٌ وإن كنتم لا تصدقوني فاسألوا عنه سالومي ابنة زوجته، واسألوا عنه يوحنا المعمدان. على  كل حال معظم المصادر تربطه بعلاقةٍ بالجليل في فلسطين، ومناطق البحر الميت وشرق النهر ومادبا (جبل نبّو) في الأردن، ولا ذكْرٌ موثَّقٌ لعُلاقةٍ تربطهُ بِعسقلان.
بعدَ عقدِ معاوية بن أبي سفيان صلحًا بينَه وبينَ أهالي عسقلان، أصبحت المدينة مركزًا لقيادة الجيوش الإسلامية إلى المعارك، ونزلَ فيها كوكبةٌ من الصحابة واتّخذوها موطنًا، وترك فيها معاوية بن أبي سفيان المرابطين ليتولّوا مَهمةَ حمايتِها.
لقيمتكِ وأهميّتكِ واستراتيجيةِ موقعكِ القريبِ من البحرِ والغُزاة انتبه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، فحصّنكِ بالأبنيةِ العاليةِ والأسوارِ المنيعةِ الرّاسخة. كما بنى فيكِ مسجدًا شمال شرقكِ في نقطةٍ مرتفعةٍ منكِ ليكون مركز رِباط، وبقي المسجد قائمًا حتى عام 1949 حين دمّرته العصابات الصهيونية، لكنّ أطلالَه لا تزال باقيةً فوقَ ربوتكِ الباسِقة.
إبّان الحروب الصليبية كانت عسقلان محصنة تحصينًا كبيرًا، وأفْشلت كلَّ محاولاتهِم للسيطرةِ عليها، تحصيناتٌ كأنّها أنفاقُ المقاومين ترافقتْ مع بسالةِ أهلِها وصمودِ أصحابِها الذين قدّموا 30 ألفَ شهيدٍ ليمنعوا المحتلّين الأغرابَ التمكّن من مدينةِ أرواحِهِم ومعاقلِ ذاكراتِهِم.

جورةُ عسْقلان...

في عام 1501 سيطرَ الأتراكُ على عسقلان، وبعدما دخلوها بنوا غرْبها (أو لعلّه في وسطِها) قريةً صغيرةً منحوها اسم "الجورة"، ولاحقًا صارت تُعرف باسم "جورةُ عسقلان".
على الرملِ الغربيّ من عسقلان، كانت تتنطّع الجورة للبحر على حافّته. قريةٌ غيرُ آبهةٍ لخضِّ موجِهِ الذي كان يشطفُ حوافَّ بيوتِها في كلّ صباح، إلى أن استعارَ البحرُ منها اسمَه "بحر الجورة"، فإذا بِالجوارنةِ يغنّون له: "وماخذ السمرا شو بدك فيها.... يا بحر الجورة دوبي يجلّيها....". كلّ ذلك الشاطئ الذي امتدّ على طول القرية وبموازاتِها كان يسمّى بحر الجورة أو "بحر أيّوب" نسبةٌ لموسمِ "أربعةُ أيّوب" الشهير فيها قبل النكبة، حيث يرتبطُ الموسم بِحكايةٍ شعبيّةٍ متّصلةٍ باستشفاءِ النبيّ أيّوب على شاطئ القرية كما ظلّ يُعتقد في ديارِ الجنوب.

هربيا جارة المجدل 


تبعدُ الجورةُ عن غزّة المدينة 20 كيلومترًا نحوَ شمالِها الغربيّ، على سيف البحر تسير، تحدّها من شمالِها قرية "حَمامة" بينهما الرّملُ الأشقرُ النّاعمُ وصيحاتُ الفلّاحين وهِيلا الصيّادين. أمّا الرملُ القبليُّ (الجنوبيّ) فيفصلُ الجورةَ عن قريةِ "هرْبيا" التي تتشاركُ مع الجورةِ في الدّوالي والتّداني والعنبِ البليغ. أمّا الجمّيز فحكاية أخرى حيث معرشاتُه العتيقةُ المعمّرة تُدلي في آفاقِ الموّالِ دَلْوَها. قريتا "الخْصاص" و"نعْليا" تعانقانِها من الشرق والشرقِ الجنوبيّ حيث كانت (تشاليقُ) الريحِّ الشرقيّة تهبّ بتعبيرِ أهالي الجورة، في مقابل ريحِ صَبا البحر الغربيّ اللّذيْن بقيت الجورةُ صامدةً في مضربِ مهبّهما إلى يومِ نكبتِها.
لم تحملْ القريةُ في موقعِها غير اسمها الوحيد تاريخيًّا "الجورة"، وأهلُها الجَوارنة، اعتبروها أوّلَ قريةٍ وُلِدت من نسلِ عسقلان المدينة الأمّ، ومع أنّ بلدة "مجدل عسقلان" كانت قد أقيمت كقريةٍ أقرب إلى خرائبِ عسقلان وعلى أنقاضِها، إلّا أنّ الجورة بحكمِ موقعِها المُشاطئ للبحر، وبناءَ بيوتِها الخالصِ من حجارةِ الخرائب، جعل منها ليس جورة عسقلان كما كانت تسمّى فقط، فالمجدل وحمامة كانتا تنسبان إلى المدينة الأمّ أيضًا، إنّما إصرار أهالي الجورة على أنّ قريتهم هي بنت الجوار الأحقّ والأدقّ في الموقع والذاكرةِ للمدينةِ الأمّ عسقلان وسيرتِها، جعلها تُعرف بِجورة عسقلان، وذُكرت في مصادرِ التاريخ العثمانيّ المبكّر بـ"جورة الحجّة" وعلى ما يبدو أنّ تاريخ القرية احتجّ على تسمية "الحجّة" تلك، وردّ نسبها إلى عسقلانِها.
حول اسمِها هناك من يقول إن الجورة هي من الجِوار، وهناك من يقول (سعيد المسْحال مثلًا في شهادتِهِ الشّفوية) إن أصلَ اسمِها هو (أَغورا) وهي كلمةٌ يونانيةٌ معناها السوق لكونِ السوق الأسبوعيّ كان يُقام مكانَها. على أيّ حال، أيًّا يكن المعنى الأصحّ لأصلِ تسميةِ الجورة، فإنّ القرية قد جاوَرت البحر، وأَجارت عسقلان منه ومن غُزَاتِه، قبل أن يجورَ عليها الزمانُ بشرذمةٍ من اللصوص الوَضيعين.
فيها "وادي النّمل" أشهر وديان جنوب البلاد، إن لم يكن أشهر وديانِ فلسطين جميعها، يقع إلى الشرق الجنوبيّ من قرية الجورة. وفيهِ مقام أو مشهد الحسين بن علي، الذي يقال إنّ رأسَه كانت مدفونةً فيه قبل أن ينْقلها الفاطميّون إلى مصر، إلا أن زيارتَه ظلّت شعيرةً حيّةً يُحييها أهالي الجورة وقرى ديار عسقلان في أواخر نيسان/ إبريل من كلِّ عام، وذلك بعد ظهر اليوم الثاني من موسم "أربعةُ أيّوب". وفي الوادي، إلى ذلك، مقامُ الشيخ محمّد، مجاهدٌ من زمن صلاح الدين ضدّ الصليبيّين، قاتل بِمذراةِ قمحِهِ بحسبِ قصّةٍ قديمةٍ ظلّ أهلُ القريةِ وديارُ بحرِ أيوب، يتوارثونَها كابرًا عن كابِر.
مطر والبرْدويل وصيام وقَنن هي حمائلُ القرية الرئيسية، ومنها تتفرّع عائلاتٌ أصغر مثل عائلة ياسين التي ينتمي إليها مؤسّس حركة حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين (1936-2004). كما أن عائلة هنيّة التي منها القائد الشهيد إسماعيل هنيّة (1963-2024) تعود بجذورِها إلى واحدةٍ من حمائِلها الأربع. وفيها أربع حارات: الغربيّةُ والشرقيّةُ والشماليّةُ والقِبليّة. وفيها مدرسةٌ تأسّست غربَ مقام الحسين في عام 1926 (قبل النكبة بـ 22 عامًا)، زاد عددُ طلابِها قبلَ النّكبة بعاميْن على 200 طالب (وكالعادةِ استهدَفها الصهاينةُ في عام النكبة بالقصفِ لأنهم لا يريدون أن يعرف أحدٌ مدى عمقِ حضارتِنا وضربِنا بجذورِ الأرضِ والعمارةِ والتقدّم).
سعى الجَوارنة إلى التماسِ رزقهِم من تراب الأرض ومياه البحر معًا، وتكاد تكون الجورة القريةَ الساحليّةَ الوحيدةَ في جنوب البلاد التي ضربَ أهلُها في الفِلاحةِ والمِلاحة معًا، إذ حرص الجورانيّ على وَضْعِ إحدى قدميهِ في البحر وإبقاءِ الأُخرى في الحقل. أمّا أكثر ما تعوّد الجوارنه غرسَه في رملِ ديارهِم فهي كرومَ العنب، لا بل يصرّ الجَوارنة على أنّ عنب كرومِهم كان يفوق عنب قرية "برْبرة" جودة، غير أنّ أغنية "برْبراوي يا عنب" هي من أشهرتْة على حساب عنبِ الجورةِ الأعرقِ والأسبقِ على حدّ قول أهلِه. الزراقيّ، والأصفرُ المشهور أيضًا باسم المَراوي، والمشبّط، والشّوبانيّ، أنواعٌ مختلفةٌ من عنب الجورةِ الممتدّةُ كرومُه ما بين رملِ ديارِ بحر أيّوب الشماليّ وصولًا إلى القبليّ منها.
وجهُها البحريّ هو علامتُها المسجّلة، وهو مساحةُ معاشِهم ومآسيهِم معًا، وهو هواجسُ النحسِ، ورباطةُ الجأْشِ والنفسِ الذي لم يتردّد بعضُ الآباءِ والأمّهات من إطلاق اسم "بحر" على مواليدهم اتّقاءً لشرِّهِ في الجورة، وذلك على طريقةِ إطلاق الفلّاحين في فلسطين أسماء الوحوش على مواليدهم كتعويذةٍ تَقي المولودَ من شرِّ الوَباء والمَرض. أمّا الـ"سريحة" فهو اسم بحّاريهِم وصيّاديهم السّارحين في البحر بحثًا عن مراعي السمك، أمّا كبار الصيّادين وملّاك المراكب والأفْلوكة فقد عرِفوا باسمِ الـ"ريّاس". السّردين والبوريّ والموسْكار والميّاس والهامور (اللقّز) والطّرخون من أسماك بحر أيوب في الجورة، كانت تحمله مراكب صيّادي الجورة لترسو به بيضاءُ أشرعتِها في سوادِ الليل، بينما الجورانيّات من النساء في الانتظار عند مراسي البحر، يلوّحن بمشاعل النار، ليستدلّ بها أبنائهنّ ورجالهنّ الصيّادين إلى برّ الجورة في ليالِ نوِّ بحرِ أيّوب. السّمّان والشنّار من الطيور المهاجرة التي كان أهل الجورة ينتظرونها لتحطّ بعد عناء السفر في شباكِهِم، حتى أنه كان يقال إن جِمال جورةِ عسقلان، كانت تذْرع رمالَ الساحل إلى مدن البلاد شمالًا، محمّلةً بأقفاصٍ مصنوعةٍ من جريدِ النّخل، مملوءةً بريشِ السمّان والشنّار، في حكايةٍ ظلّت تربط بين طيورِ البحر المتشوّقة لطيورِ الوَعَر في الجورة... كان ذلك من سيرةِ الجورةِ والجَوارنة مع الرملِ وَالماء، أمّا عن الدماءِ فتلكَ سيرةٌ أخرى من وجعِ الجنوب، ووجعِ فلسطين جميعِها، فصبرًا يا دارَ بحر أيّوب.
(تم الاستعانة حولَ جورةِ عسقلان بعديدِ المراجع، منها: "كي لا ننسى فلسطين" لِوليد الخالدي، و"غزّة عبر التاريخ" لِإبراهيم خليل سْكيك، ورِسالة جامعية لِخالد سعيد ياسين حملتْ عنوان "قرية جورة عسقلان تحت الاحتلال البريطانيّ (1918 – 1948)"، وغير ذلك). 

مجدلُ عسقلانِنا...

إضافةٍ إلى الزراعةِ وصيدِ الأسماك، فقد كانت عسقلان مركزًا لصناعةِ النّسيج، واعْتمدت المنطقةُ كلُّها على مدينةِ الحشدِ والرّباط في تغطية احتياجاتِها من الأقْمشة، وكان قسمٌ منها يُصدَّر إلى مدنٍ مُجاورة. من صناعاتِها الأُخرى، صناعةُ الحلوّيات، وإنتاجُ زيتِ الزّيتون والسُّمسم، وصناعةُ الأثاثِ من الأَخشاب. كما كانت مجدلُ عسقلانِنا مركزًا تجاريًا للقُرى والبلدات الواقعةِ حولَها، إذ كان السكان يأتون إليها للحصول على بضائعَ متنوّعة، مثل حبوبِ الأسمدة، والبُذور، والأقمشةِ بأنواعِها، وأدواتِ النّجارة والحِدادة والموادِّ الغذائيةِ المُختلفة.




أهلُ مجدلِنا اعتمدوا على الزراعةِ لتغطيةِ احتياجاتِهم اليوميةِ من خضارٍ وفاكهةٍ وحُبوب، مع تصديرِ الفائضِ إلى مدن فلسطين القريبة منها، وربّما البعيدة عنها. كما اشتهرت المدينةُ بعسلِها الطبيعيّ لوجودِ مراكزَ عديدةٍ لتربيةِ النّحل. سمكُ عسقلان الذي وهبَ نفسَه لصيّاديها هو نفسه، تقريبًا، سمكُ جورتِها، يزيد عليهِ بِالفريدن والفِنيار والمسْقار والسرْغوس والذّهْبان. في مجدلِ عسقلان كان ثمّة سوق كبيرة تقام يوم الجمعة كان يفِدُ إليها الناس من مختلفِ القُرى المجاورةِ للحصولِ على منتجاتٍ زراعيةٍ وصناعيّة.
وإذا كان تعْداد أهلِ الجورة قبل النكبة يزيد على 4000 نسمة، فتخيلوا كم كان عدد أهلِ مجدل عسقلان أيام معانقتِها فضاءَ الحريةِ الواسعَ الفسيح. آثارُها الأقدمُ تعودُ إلى العصرِ الحجريّ، وصولًا إلى أيام العثمانيين. وثمّةُ آثارٍ لمجلسِ المدينة الرّوماني عبارةٌ عن صالةٍ مسرحيةٍ شبهِ دائريّة، تحيطُ بها صفوفٌ من المقاعدِ وأجنحةِ النّصر تزيّن جوانبَها، فيما يزيّن المجلس 24 عمودًا رخاميًّا برؤوسٍ كورنثيّة. من دون أن ننسى وجودَ رأس شخصيةٍ أنثويةٍ أسطوريةٍ من العصر الرومانيِّ أيضًا. عمارتُها من عمارةِ مدنِ البحرِ مضافًا إليْها بعضَ الأبنيةِ المشيّدةِ بالحجارةِ الحمراءِ الشبيهةِ بحجارةِ معان وإلى حدٍّ ما بحجارةِ قباطية.
وإضافةً إلى خيرِ استهلالِنا: ابن حجر العسقلاني صاحب "فتح الباري في شرح صحيح البخاريّ" و"بلوغ المَرام من أدلّةِ الأَحكام"، فإنَّ من أعلامِ المدينة القاضي عبد الرحيم بن علي الميْساني العسقلاني الذي يعدّ من أشهر كتّاب القرن السادس الهجريّ، والقاضي أبو الفتح أحمد بن مطْرف العسقلاني، والشاعر أحمد بن مطْرق العسقلانيّ مؤلّف كتاب "المصنّفات في اللغة والأدب"، والأديب أبو علي بن عبد الصمد العسقلاني الملقّب بالمجيدِ ذي الفضيلتيْن. ومن حفّاظ الحديث محمد بن الحسن بن قتيْبة العسقلاني. أمّا في الزمن الهيلنِستيّ فقد برزَ في مجدلِنا الفيلسوف أنطيوخس العسقلانيّ الذي عُرِفَ بآرائهِ المتباينةِ حولَ الأكاديميةِ الشكيّة، وأسس في عسقلان أكاديميةً لنشرِ آراء الفلاسفة ولتكون مركزًا أدبيًا وفنيًا.
يا حبيبتي يا عسقلان، يا من قال فيك الفاروق عمر: "لولا أن تُعطّل الثّغورُ وتضيقُ عسقلان بأهلِها لأخبرتُكم بما فيها من الفضْل"، وقال ابنُه عبد الله في علوّ قدرِك: "لكلِّ شيءٍ ذروةٌ، وذروةُ الشّام عسقلان". أما ابن تيْمية فقد قال فيكِ وعنكِ: "وأمّا عسقلان فإنّها من ثغورِ المسلمين، كان صالحوهُم يُقيمون بِها لأجلِ الرّباط في سبيل الله".

موسم أربعة أيوب في جورة عسقلان 


نفطُكِ يا عسقلان سرعانَ ما سوف يعود خيرُه لنا. ونبضُكِ لا بدّ من أن يؤوبَ ذات صبحٍ إلى غرفِ قلوبِنا. وأمّا صمودكِ فتشهد عليه معارك محْور الفَالوجا، ومحوَر دوّار المجدل، ومحورُ طريقِ بْرير... قاتلتِ وقاتلتِ... ودافعتِ عن هويّتك الفلسطينيةِ الكنعانيةِ ما دافعتِ من دون أن يصلكِ المَدد، ومن دون أن يأبهَ بما كان يُخطط لكِ أحد... لسانُ حالكِ كان، لسانُ حالِ شاعرٍ تعودُ أصولُه إلى ابن حجركِ العسقلانيّ... أقصدُ أميّةَ بن أبي الصَّلْت الثقفيّ الكِنانيّ وصرختَه:
"كلُّ عيشٍ وإنْ تطاولَ دهرًا مُنتَهى أَمرُهُ إِلى أَنْ يَزولا
لَيتَني كُنتُ قَبلَ ما قَد بَدا لي في رُؤوسِ الجِبالِ أَرعى الوُعولا
فَاجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عينيكَ واحْذر غولةَ الدَّهرِ إنّ للدهرِ غُولا
نائلًا طرفُها القساورَ والصّدعانَ والطفلُ في المنارِ الشّكيلا
إِنَ يومَ الحِسابِ عَظيمٌ شابَ فيهِ الصَغيرُ شَيبًا طَويلا".
ها أنتِ يا خيرَ الرِّباط تُنادي... وها هم أبناؤكِ الأطهارُ يسْتجيبون.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.