وقدّم المهندس أنس الخطيب، الذي يقيم في مخيم الدهيشة للاجئين في محافظة بيت لحم بالضفة الغربية، في ندوة بهذا الشأن عقدت مؤخرًا في رام الله، نظرة عامة حول "عمارة اللجوء"، غير مقتصرة على مخيمات اللاجئين في فلسطين، ومحيطها، بل انعكاسات أبرز الأحداث السياسية عليها، متحدثًا عن التحولات التاريخية لهذه العمارة المرتبطة بنكبة فلسطين عام 1948، وما تلاها من نكبات وصولًا إلى حرب الإبادة.
ويبقى المخيم، كفضاء استثنائي بين الزوال والدوام، المحور الأساسي لـ"عمارة اللجوء"، وما رافق ذلك من بناء للهوية الوطنية الفلسطينية، بحيث كثفت "عمارة اللجوء"، عبر المخيمات، الفاعلية المجتمعية الفلسطينية. وقد ساهمت الممارسات المكانية للاجئين في فلسطين والمنفى بإعادة بناء التكوينات الاجتماعية والثقافية للقرى والمدن التي هُجّر منها الفلسطينيون والذين تحولوا إلى لاجئين، منذ عام النكبة، بحيث تحوّل المخيم بذلك إلى فضاء اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي حيوي ومركب، مُنتجًا لمفاهيم مهمة في النظريات المعمارية.
الخطيب، وهو معماري أيضًا، تعود أصوله إلى قرية "بيت عطاب" المُهجرّة، جنوب غرب القدس، قسّم ندوته القيّمة، حول "عمارة اللجوء"، واحتضنتها "علية" مركز خليل السكاكيني الثقافي بمدينة رام الله، أخيرًا، إلى محاور عدّة، من بينها: مدخل إلى "عمارة اللجوء"، و"مخيمات اللاجئين الفلسطينيين"، و"معمار في المخيم"، و"صُمّم بأيدينا"، و"مراحيض"، وغيرها.
ويحمل الخطيب شهادات دراسة عليا في حقوق الإنسان والفنون من كلية "بارد" في نيويورك العام الماضي، إلى جانب شهادة البكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة بير زيت. وأسّس، بالتعاون مع مجموعة من الفنانين والمعماريين والحرفيّين، مبادرة تحت عنوان "معمار في المخيم" عام 2021، في حين تتركز ممارساته البحثية في التاريخ حول البيئة السياسية لعمارة اللجوء، والبنى التحتية المادية وغير المادية في فلسطين.
وربط الخطيب بين "عمارة اللجوء" ومفهوم اللاجئ الذي رفض حصره في تعريف "الأونروا" باعتبار اللاجئين هم فقط من تم تهجيرهم من ديارهم قبل وأثناء وبعد نكبة عام 1948، وأن النكبة، كما التهجير، لا تزال فعلًا احتلاليًا استعماريًا مستمرًا في فلسطين. فعملية التهجير لا تستهدف انتزاع الفلسطيني من بيته ومنعه من العودة إليه فحسب، بل تستهدف أيضًا انتزاعه من أنماط عايشها على مدار زمن ممتد، والحيلولة دونه ودون أنماط العيش والعمل التي كانت تشكل جزءًا من يومياته، سواء أكانت أراضٍ أو مبانٍ أو أشجارٍ ومواشٍ ومعدّات مختلفة تندرج في إطار الممتلكات. علاوة على كون التهجير انتزاعًا من شبكات اجتماعية واقتصادية وثقافية تكونت عبر قرون من الزمن. وشدّد الخطيب على أنه من الضرورة بمكان التعاطي مع قضية تهجير الفلسطينيين بحثيًا وواقعيًا كعملية بنيوية مستمرة للمحو ضمن سياسة إنتاج مستمر للجوء.
ولفت الخطيب إلى أن التصنيف الصارم الذي ابتدعته الأمم المتحدة بخصوص تعريف اللاجئ الفلسطيني، حال دون الاعتراف بمجموعات أخرى من اللاجئين الفلسطينيين، خاصة الذين لم ينتهِ بهم المطاف في المخيمات، فمنهم من أعاد بناء حياته في العواصم والمدن العربية، ومنهم من سكن مدن الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، ومنهم من يعيش في قرى غير معترف بها، وغير ذلك؛ فمن نتائج النكبة تكوين مجتمعات سكّانية وأماكن لجوء مختلفة داخل فلسطين التاريخية وخارجها.
وأشار المهندس الفلسطيني إلى إمكانية فهم أنماط التهجير الفلسطيني ومراحله عبر التحولات العمرانية في الأماكن التي هُجّروا إليها، مخيمات وغيرها، وهو ما يعرف بـ"عمارة اللجوء"، ويدلل على فعالية اللاجئين الفلسطينيين في إنتاج البيئة العمرانية، والبنى التحتية المادية وغير المادية المتعلقة بحدث اللجوء، بدلًا من اقتصارها على دور الحكومات والمجتمع الدولي ومنظماته في تقديم الدعم الإنساني، علاوة على الدور الذي لعبه اللاجئ الفلسطيني ليس في بناء هوية فلسطينية حديثة عابرة للحدود، في فلسطين ومحيطها العربي فحسب، بل في صون الهوية القومية العربية أو الوطنية للدول العربية، برغم التهميش الذي عايشه في عدد من الجغرافيات التي لجأ إليها، وهو ما انعكس على التكوين المعماري للمخيمات الفلسطينية في الدول العربية، كلبنان، وسورية، والأردن.
تعد المخيمات جزءًا من "عمارة اللجوء"، حسب الخطيب، فأنماط اللجوء المتعددة في فلسطين، ودراستها، تساعد بالضرورة في تشكيل فهم أكثر اتساعًا لمفهوم "عمارة اللجوء" التي يستمر الاستعمار الاستيطاني في إنتاجها، مع مواصلته فعل التهجير، وبالتالي استمرارية اللجوء، كما حدث في مخيمات قطاع غزة على مدار العقدين الماضيين، وفي مخيم جنين عام 2002، وفي اللجوء الناتج عن بناء جدار الفصل العنصري، والقوانين العنصرية المعقدة لبناء الفلسطيني أو التوسع في البناء في القدس والمناطق المصنفة "ج"، وأخيرًا "ب" أيضًا في الضفة الغربية، بعيدًا عن النتائج الكارثية وإعادة الإنتاج الفج وغير القابل للتوصيف للتهجير واللجوء خلال حرب الإبادة على غزة، والحرب المتواصلة على مخيمات شمال الضفة الغربية، هذه الأيام، وكذلك تهجير التجمعات البدوية في الأغوار الفلسطينية وجنوب ووسط الضفة أيضًا، وهو ما يمكن وصفه بـ"حالات اللجوء ما بعد أوسلو".
وكان لافتًا عند حديثه عن دراساته الميدانية والفريق المرافق له في مبادرة "معمار في المخيم"، تلك النتائج التي توصلوا إليها في أعقاب الدراسة المعمارية للمداخل والأبواب للمخيمات، وتحديدًا مخيمي جنين والدهيشة، ومنها أنه بسبب غياب التخطيط الحضري الشامل وعشوائيته، وارتفاع الشوارع عن حدّ البيوت، أجبر السكان على معالجة كل مدخل لكل بيت بطريقة مغايرة عن الآخر، ما أنتج تعقيدًا بصريًا شديدًا في واجهات المنازل، بحيث اعتمدت هذه المداخل على "هندسة العتبة"، أي تلك المبنية على علاقة "العتبة" مع الشارع، بحيث تكون "عتبة البيت" أعلى من مستوى الشارع لتجنب دخول مياه الأمطار إلى المنازل.
وتحدث عن زيارات الفريق العفوية، والنقاشات حول "عمارة اللجوء" مع سكان المخيمات وغيرها، ومن بينها تلك الزيارة لمن وصفها بـ"الخالة عبلة" المهجرة أسرتها عام 1948 من بلدة "بيت جبرين" ما بين الخليل وبيت لحم، وهي تقيم بمنزلها وحدها بعد وفاة والدتها، وتمارس الخياطة لأهالي مخيم العزة للاجئين في بيت لحم، ويعرف لدى البعض باسم مخيم "بيت جبرين" أيضًا، وتصر على إبقاء منزلها كما هو، مطلقة عليه وصف "ستايل الحجة"، أي ذلك التصميم القائم على تجربة والدتها في تصميم وصناعة وتصنيع الفراغ، ما جعلهم يدركون توارث اللاجئين للعديد من المهارات، بما فيها العمرانية، بحيث ينقلون معمار وعادات الريف الفلسطيني الذي هُجرت منه الغالبية العظمى عام 1948 إلى المخيم، حتى على المستوى المعماري.
أما "معمار المراحيض" وتحولاته في المخيم، فكانت دراسة متميزة قدّمها الخطيب، موضحًا تحولات المرحاض بالنسبة لأهالي المخيمات، مع اختلاف المراحل التاريخية لتسارع أو تباطؤ تلك التحولات من مخيم لآخر، بدءًا من مراحيض العراء العامة والبعيدة، ومن ثم المراحيض المرتبطة بحارات بعينها، لتتبعها مراحيض المنازل، التي كانت في البداية خارجها، وعرفت في اللغة الدارجة بـ"بيت الخارج"، ومن ثم انخراطها داخل المنازل، وتحولها ما بين رفض لأسباب مجتمعية أو تأويلات دينية، من "عربية" إلى "إفرنجية"، مع المزج بين الاثنين في ذات المراحيض داخل الكثير من منازل المخيمات حتى أيامنا هذه.
وشدد الخطيب على أن "عمارة اللجوء" تدمج ما بين الشعبي والحضري واللارسمي، لافتًا إلى أن المعمار الشعبي، في هذا الجانب، تكوّن عبر تدخلات سكان المخيمات، في مرحلة "ما بعد الملجأ"، أي ما بعد الأنماط التي فرضتها "الأونروا" بقوانين صارمة، وهي مستوحاة مما كان يعيشه اللاجئ أو والداه أو أجداده قبل التهجير، عبر فراغ "الحوش"، "والطابون"، بحيث تحولت العناصر الأساسية في معمار القرية إلى بعض المنازل، ولو جزئيًا في "عمارة اللجوء" داخل المخيم، متحررًا من اللارسمي الذي كان رسميًا في حالة المخيم، ومتحولًا بعدها إلى الحضري، بحيث باتت تلامس بعض المخيمات في معمارها المدن المجاورة لها، أو التي تقع ضمن حدودها، وخاصة في الضفة الغربية.
وخلص المهندس والمعماري والفنان المقيم في مخيم الدهيشة للاجئين، إلى أنه في ضوء تفاقم التهجير وموجات اللجوء الجديدة، جراء العمليات العسكرية للاحتلال الإسرائيلي في غزة، وفي مخيمات شمال الضفة الغربية، فإننا قد نكون أمام مرحلة جديدة من "معمار اللجوء"، وهي بالتأكيد مرحلة مرتبطة بالتطورات السياسية، ومخططات الاحتلال على الأرض، وإمكانية مقاومتها، قبل أن يختتم ندوته بصور فوتوغرافية وفيديوهات من ابتكارات "عمارة اللجوء" في غزة، منذ ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.