}

الضجيج عتبة المعنى الأولى

باسم سليمان 20 فبراير 2025
اجتماع الضجيج عتبة المعنى الأولى
(Getty)
عادة ما يُعرف الضجيج بأنّه صوت غير مرغوب فيه، أكان عاليًا كهدير الرعد أو مجرد همسٍ بين شخصين، أثناء حضور حفلة موسيقية كلاسيكية، أمّا في موسيقى الروك، فالتعبير بالصراخ يعتبر أمرًا طبيعيًا ومحبذًا؛ بهذا المنحى لا يعدّ الضجيج شيئًا موضوعيًا بشكل كامل حتى ينطبق عليه التعريف، بأنّه صوت غير مرغوب فيه دومًا، ففي الكثير من الأحيان يكون الحكم على الضجيج من منطق ذاتي ونسبي. إنّ الضجيج صوت، والصوت عبارة عن اهتزازات، تقاس تردداته بـ(الهرتز/ *Hz) والإنسان يسمع ما بين (20 هرتز) و(20000 هرتز). وتعتبر الترددات التي تقع تحت 20 هرتز، بأنّها تحت صوتية لا تسمع، فيما التي تقع فوق 20000 هرتز بأنّها فوق صوتية، كذلك لا تسمع. تحسب شدّة الصوت بوحدة تسمى (الديسيبل/*dB) والإنسان يسمع من الواحد إلى 140 ديسيبل، لكن الأنسب له ما بين 60 و90 ديسيبل. أمّا ما فوق التسعين، فتتعرض الآذان للضرر، وكلّما زادت الشدّة أنتجت أضرارًا على مستوى الجسد كاملًا وصولًا للموت، لكن الضجيج كصوت مسموع ليس حالة فيزيائية فقط، بل ذاتية وموضوعية، فردية ومجتمعية، مرتبطة بالأسطورة والثقافة وحتى الأيديولوجيا.


الضجيج مبتدأ الخلق وقد يكون منتهاه

قبل (13.8) مليار سنة ضوئية حدث (الانفجار الكبير/ Big Bang) الذي تولّد عنه الكون، الذي نعرفه الآن؛ هذا ما اتفق عليه العلماء إلى الآن كتفسير معقول لوجود الكون، ولكن الأساطير قالت ذلك بطريقة أخرى!

تسرد لنا الأساطير والأديان، بالأعم الأغلب من محكياتها، بأنّ الإنسان خُلق من تراب، لكن خلف الأكمة حكاية أخرى. تعدّ أساطير بلاد ما بين النهرين من أقدم السرديات البشرية التي ترى بالضجيج أحد أسباب الخلق!  في ملحمة الخلق البابلية (إنوما إليش/ عندما في الأعالي) كانت الإلهة الأم (تيامات/ تعامة) تمثل الماء المالح البدئي، بينما زوجها (إبسو) إله الماء الحلو، وقد كانا ممتزجين في تطامن وسكون، إلّا أنه تولّد عن هذا الاتحاد العديد من الآلهة، كان من بينها إله الماء العذب (إنكي). لقد ضج الوجود بصخب الآلهة الجديدة، فقرر إبسو القضاء عليها، ليعود إلى حالة السكون السابقة، فقام إنكي بقتله وبنى عرشه عليه. وهنا تثور تعامة وتقرر القضاء على أبنائها/ الآلهة الجدد، فتتزوج قائد جيشها الإله (كنغو) وتستعد للمعركة ضد الإله مردوخ الذي اختارته الآلهة الأبناء لقتالها. ينتصر مردوخ عليها، ومن جسدها يصنع الأرض والبحار والسماء، أمّا قائد جيشها، فيأخذ دماءه بعد ذبحه ويخلطها بالطين، ليخلق الإنسان.

ليست الأسطورة البابلية هي الوحيدة التي ذكرت الضجيج كأحد الأسباب غير المباشرة لخلق الإنسان أو تنظيم حياته، فهناك تشابه بينها وبين الأسطورة اليابانية. كانت الشمس هي سيدة الكون في المخيال الأسطوري الياباني وعندما اشتكت لها الآلهة تأذّيها من الضجيج الذي يحدثه الإنسان على الأرض، أرسلت حفيدها (نينيجي) إلى الأرض حاملًا هدايا لهم ونعمًا كثيرة ومن تلك اللحظة أصبح الإنسان الياباني تحت رعاية الشمس وقوانينها.

وكما كان الضجيج في الأسطورة مستصغر الشرر لبداية خلق الإنسان، كان في المقابل أحد الأسباب التي ستسبب دماره. تذكر لنا أساطير بلاد ما بين النهرين في ملحمة (أتراحاسس) المعادل الأسطوري للنبي (نوح) بأنّ الإله (إنليل) قد غضب من ضجيج البشر: "ضجيج البشر لم يعد يطاق- صخبهم يفقدني نومي- أعطوا الأمر كي يتفشى فيهم مرض الطاعون"، لقد كان مقصد الإله إنليل أن يقل عدد البشر، وذلك بأن يصيبهم بالطاعون، لكنّ إله الماء العذب (أيا/ إنكي) يتدخل لإعادة الناس إلى الصواب والإيمان، فنجاهم من الطاعون. ولا تختلف سردية النبي نوح عن ذلك، فقد ضج البشر بكفرهم ممّا توجب إغراقهم. وعلى نفس المنوال نجد أن عقاب الثموديين الذين عقروا ناقة النبي صالح كان بــ"الصيحة" وقد فسّرت بأنّها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض؛ هكذا حدّدت الأساطير والديانات السماوية منشأ البشر وموتهم بصوت عال جدًا/ الضجيج!

سينيكا سئم ضجيج روما وعدّه نوعًا من التعذيب، فقرر مغادرتها، على الرغم من معتقده الرواقي الذي يدعوه إلى تحمّل مصاعب الحياة (Eduardo Barrón)


تاريخ الضجيج  

قال هوميروس في إلياذته بأنّ الكلمات كالطيور تحلق بعيدًا ما إن تنطق من الشفاه، كذلك الضجيج، فإذا الكلمات قيدت بالكتابة، فقليلًا ما ذكر الضجيج في الكتابة وظلّ تجربة شفوية قليلًا ما كتبت. كانت استعارة هوميروس مجازية إلى حدٍّ ما، إلى أن تم اختراع إشارات مورس ومن بعدها الهاتف والراديو وغير ذلك من وسائل الاتصال، لكن الطبول الأفريقية التي كانت تُسمّى (الطبول الناطقة) كانت تستخدم منذ القدم لنقل الكلمات عبر إيقاعها الضاج عبر الغابات والسهول وإلى مسافات بعيدة. عندما استمع المبشّرون الأوائل في أفريقيا وتجار العبيد لضجيج الطبول خمّنوا بأنّها أصوات أعمال سحرية شيطانية أو دعوة للحرب، لكن تلك الطبول كانت تنقل دعوات للحذر والهرب من هؤلاء التجّار. يصنع الطبل الناطق من جذع شجرة وهو مجوّف؛ في قسم منه يكون ثخينًا وفي الآخر يكون رقيقًا، وعبر ضربه بعصاتين يصدر الإيقاع الضاج، الذي نستطيع أن نرمّزه وفق التدوين الموسيقي (دم - تك) وكأنّه إشارة مورس (-، ./ الشرطة والنقطة) وعبر التناوب والدمج بين (الدم والتك) كانت الكلمات المشفرة تطير في الهواء، فمن يعرف رمزيتها، يسمعها كلغة واضحة المعنى، ومن يجهلها يرى فيها ضجيجًا شيطانيًا.

تنسب صناعة الضجيج إلى الإنسان، ألم يكن هو نتاجًا للضجيج الذي استعر في بدء الكون. إنّ الإنسان بقدر ما هو ميّال إلى الهدوء، إلّا أنّه أكثر الكائنات ضجيجًا، فتجمعاته في الصيد والزراعة والحروب كانت مكانًا للضجيج، لكنّها كانت مؤقتة، ولم يصبح الضجيج صفة للإنسان إلّا في لحظة تشكّل المدينة. ذكر الضجيج كنتاج لتجمع الإنسان في التاريخ، إلّا أنّه مع  بدء الحقبة الصناعية بمعاملها ومراجلها وأعداد العمال الهائلة أصبحت المدينة البشرية رمزًا للضجيج، وقد كان الطبيب الأسكتلندي دان ماكنزي أول من ذكر هذه الصفة للمدينة البشرية في قصته الرمزية "مدينة الضجيج": "إنّ الطبيعة كانت هادئة ومريحة؛ وفي المقابل اتسمت الحضارة الحديثة بالضجيج، وكلما تطوّرت الحضارة كانت أكثر ضجيجًا". وعلى نفس المنوال قال العالم الموسيقي الفرنسي بيير هنري مَري شيفر في سبعينيات القرن المنصرم: "لقد تلاشت أصوات الطبيعة بتأثير تشويش الآلات الصناعية والمنزلية". قد نحسب أنّ الضجيج الصناعي، هو ما دفع هؤلاء العلماء إلى إعلان أن الإنسان لا يلوث الطبيعة فقط بالمواد المادية بل بالأصوات، لكن الضجيج، ليس صفة لهذا الزمان، وإنّما متجذّر في تاريخ المدينة البشرية. كان الشاعر الروماني جوفينال الذي عاش ما بين القرن الأول والثاني ميلادي من أول من وصف ضجيج مدينة روما الذي يبعث على القلق والاضطراب، لكنّه رآه دليلًا على الحضارة العظيمة لروما. وجاراه في هذا الوصف الفيلسوف الروماني سينيكا الذي سئم ضجيج روما وعدّه نوعًا من التعذيب، فقرر مغادرتها، على الرغم من معتقده الرواقي الذي يدعوه إلى تحمّل مصاعب الحياة. هذه الاحتجاجات على الضجيج أخذت في الاعتبار في بناء المدن الحديثة، حيث ترتفع قيمة المدينة بقدر ما تستطيع أن تخفّف من ضجيجها، لذلك أصبح بناء البيوت يأخذ بالاعتبار إمكانية حجب الضجيج، وأنشئت الحدائق العامة كرئات للمدينة، ليس لتنظيف الهواء فقط، وإنّما للسماح لسكانها باستعادة هدوء الطبيعة.  

على الرغم من هذا الجانب السلبي للضجيج، إلّا أنّه في الثورة الفرنسية أبان الضجيج عن جانب مهم، فالثوار كان لهم ضجيجهم، وأتباع الملك كان لهم ضجيجهم بالمقابل، لينتهي الضجيج إلى مبادئ الثورة الفرنسية: الحرية والمساواة والإخاء. ظهر التعامل مع الآثار المرضية للضجيج في الحرب العالمية الأولى، فالكثير من الجنود والضباط ظهرت عليهم أعراض صدمات نفسية نتيجة أصوات القذائف والانفجارات المتواصلة على الجبهات، ممّا استدعى افتتاح مراكز للتأهيل الصحي والنفسي لهم بسبب الضجيج.

الأصل في الأشياء الضجيج

لا يوجد سكون إلّا بالمعنى المجازي، فكلّ الأشياء في هذا الكون تصدر اهتزازات مسموعة وغير مسموعة، فالضوضاء تتخلّل وتحيط بكل شيء، لكن ما يحدّد الضجيج، هو علاقة الكائن البشري معه. لقد حاول ديكارت جاهدًا أن يستبعد الأحاسيس والمشاعر الصادرة عن الجسد، لتصفو له الأفكار الخالصة للعقل، ولأجل ذلك اعتبر الجسد البشري مجرد امتداد مادي للإنسان ولا قيمة له، وما يصدر عنه مجرد ضجيج لا معنى له، مع أنّ العلم أثبت حاليًا العلاقة المتبادلة بين العقل والجسد، فبقدر ما يتحكّم العقل بالجسد يفعل الجسد بالعقل. لم يكن ديكارت لوحده في هذا المعنى، فحتى أفلاطون ميّز بين الفكر المتسق والمنظم والفكر العشوائي، هكذا يمكن اعتبار الفلسفة السفسطائية ضجيجًا يعكر صفو الفلسفة المثالية التي نظّر لها أفلاطون، حيث تصبح مقولة السفسطائي بروتاغوراس: "الإنسان مقياس كل شيء" ضجيجًا على منطق الأفكار المثالية المطلقة النابعة من عالم المُثل. لم تختلف الأديان عن ذلك، فقد اعتبرت وسوسة الشيطان ضجيجًا يلوث صفو وطمأنينة المؤمن، حيث كانت الوسوسة السبب في هبوط أبي البشرية آدم من جنّة عدن إلى دار البلية. لقد اشتكت الملائكة وفق مروية التراث الديني للإله من تأذيها من بكاء وصراخ آدم، فلقد ضجّ الكون بشكواه، فأنزل الإله عليه كلمات تاب بها آدم عن خطيئته وسكت عن النواح والضجيج. ألهذا كان الطفل البشري، هو الكائن الوحيد الذي ما إن يولد حتى يملأ الكون بكاءً وصراخًا، وكأنّه بهذا الضجيج يعبّر عن شكواه من إخراجه من عالم الهدوء والطمأنينة، أو يذكّر من يسمعونه بأصلهم البعيد: الضجيج!          

يتغلغل الضجيج كاستعارة في تاريخ الإنسان، فأصبحنا نطلق على كلّ ما يشوّش على نظمنا وقوانيننا ومعتقداتنا وأعرافنا بالضجيج، لكن ألا نحتاج للضجيج لنرفع صوتنا ونرفض تلك النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت مع الوقت قيودًا تجعلنا مجرد مسننات صامتة في مكنة الحضارة الإنسانية التي تزداد توحشًا يومًا بعد يوم.

هوامش:

(*) الهرتز: وحدة قياس التردد، نسبة للعالم الألماني هاينرش هيرتز الذي أثبت وجود الموجات الكهرومغناطيسية.

(*) الديسيبل: وحدة قياس للتعبير عن قوة الصوت وشدته.

*كاتب سوري.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.