}

على أعتاب يومها السنوي: عَمَّان مدينة التلال والمفارقات الاجتماعية

أحمد طمليه 24 فبراير 2025
أمكنة على أعتاب يومها السنوي: عَمَّان مدينة التلال والمفارقات الاجتماعية
أحد مخيمات اللاجئين في الأردن (13/9/2024/ Getty)

عَمَّان ليست واحدة، فهنالك عمان الشرقية، وعمان الغربية، يفصل بينهما وسط البلد. مدينة قائمة على سفوح جبال، أما وسط البلد فيقع في قاع المدينة. لهذا إذا أردت الذهاب إلى وسط البلد تقول: سوف أنزل إلى وسط البلد، ولا تقول، مثلًا: سوف أذهب إلى وسط البلد، أو سوف أقصد وسط البلد، فأنت، من حيث أتيت، قادم من جبل ما من جبال عمان، لهذا يعد الوصول إلى قاع المدينة نزولًا، وليس صعودًا.

مفارقات اجتماعية

حي جبل الحسين في عَمَّان للأغنياء يطل على مخيم الحسين للاجئين الفلسطينيين 


تتأتى المفارقات الاجتماعية من كون الجبال متقاربة جغرافيًا، فإذا كنت، مثلًا، في جبل النزهة، وهو مجاور لجبل القصور، وهما محسوبان على عمان الشرقية، فما هي إلا خطوات، تمشيها سيرًا على الأقدام، لتكون في جبل الحسين، خطوات إضافية أخرى، وتكون في جبل اللويبدة، ومنه لا تحتاج إلى وقت لتكون في جبل عمان. وقد تعرج من هناك إلى جبل النظيف، وجبل المريخ، وجبل التاج، وجبل الجوفة.
التقارب الجغرافي بين الجبال، يخلق طقوسًا مختلفة تمامًا من جبل إلى جبل، فمن يسكن في أحد جبال عمان الغربية يعد من ميسوري الحال، أما القابعون في جبال عمان الشرقية، فإن أوضاعهم المادية "على قدهم"، بالكاد يجدون ما يسد احتياجاتهم.
عمان الشرقية يعيش فيها الفقراء، وذوي الدخل المحدود. فيها الازدحام، والحارات الشعبية، والأطفال الذين يلعبون كرة القدم في الشارع، وتكون إمكانية أن يُفرم أحد منهم تحت عجلات سيارة مسرعة واردة. أما في عمان الغربية فإنك لا ترى أطفالًا في الشوارع، لهم أماكن يقصدونها، الذهاب إليها مكلف.
من عمان الشرقية، بأحيائها الشعبية، ترى المدينة على نحو مختلف عما يمكن أن تراه في عمان الغربية. ترى الأسواق الشعبية الرخيصة، والأمهات التقليديات، اللاتي يعملن ليل نهار لتلبية حاجيات أسرهن الكبيرة. ففي عمان الشرقية إنجاب كثير، معدل الأسرة الواحدة قد لا يقل عن ستة أفراد، هذا في أحسن الأحوال، لذا ترى الآباء يخرجون مبكرًا إلى أعمالهم، وهي، في الغالب، أعمال شاقة، تهد الحيل، فيما تتفرغ النساء، وأغلبهن ربات بيوت، أي أن لا عمل لهن سوى تدبير شؤون البيت، وهذه مهمة ليست سهلة لمن لا يعلم. أما في عمان الغربية فإن عدد أفراد الأسرة مجتمعة يعدون على أصابع اليد الواحدة، وللنساء هناك اهتمامات عديدة غير تدبير شؤون البيت.

وجبات سريعة وطبيخ
في عمان الشرقية، لا مكان، تقريبًا، للوجبات السريعة، مرتفعة الثمن، المعدة في مطاعم تتفنن في إعدادها على حساب رفع سعرها، وجبة لا تملأ المعدة، إنما تشبع الرغبة في مجاراة آخر ما تم ابتكاره في عالم الوجبات التي بلا طعم. أما في عمان الشرقية، ثمة طبيخ: ملوخية، سبانخ، مقلوبة، منزلة باذنجان: طناجر واسعة فيها طبيخ كثير يكفي أفراد الأسرة لوجبة الغداء، ويبقى منها لوجبة العشاء أيضًا.




في عمان الغربية، تختلف الصورة تمامًا، فلا ازدحام، بيوت أنيقة أشرف عليها مهندسون. بيوت فيها أكثر من حمام، وأكثر من غرفة نوم، وأكثر من غرفة جلوس، وأكثر من نوع من أنواع الوجبات السريعة، التي تصل البيت برنة من الهاتف، ليأتيك شاب وسيم محمل بوجبة مغلفة بشكل أنيق.
قلت إن القرب الجغرافي بين عمان الشرقية والغربية يخلق كثيرًا من المفارقات: كاتب محترم يخرج من رابطة الكتاب الأردنيين، الواقعة في جبل محترم، وهو جبل اللويبدة، حيث الهدوء، والبيوت التي لا تدخلها إلا بعد أن تستأذن، وترن جرس الباب عند الوصول. لديهم أجراس بدل الدق على الأبواب. لديهم أبواب لا تفتح إلا إذا كبس صاحبها على كبسة ما من داخل شقته بعد أن يتعرف على شخص الزائر.
تخيلوا هذا الكاتب المحترم حين يعود إلى بيته في أحد أحياء عمان الشرقية، كل شيء يختلف، حتى أخذ قيلولة متعذر من الصخب حوله، فهذا بائع الغاز، لا يمكن أن يلفت انتباه الناس إلا بالدق بمفتاح حديدي كبير على أسطوانة الغاز. لقد انتبهت أمانة عمان لمقدار الإزعاج الذي يتسبب به الدق بمفتاح حديد على أسطوانة الغاز، فابتكرت طريقة للتخلص من هذا الإجراء، تقوم على تخصيص نغمة موسيقية جميلة تعزفها سيارة الغاز، فيدرك السكان أن سيارة الغاز في الجوار. لكن، للأسف، بقي هذا الإجراء معتمدًا في الأحياء الراقية، أما الدق على أسطوانة الغاز فقد بقي من نصيب الأحياء الشعبية، ذلك أن سيارات الغاز لا تدخل الأحياء الشعبية، بل يدخلها عمال وافدون، يجرون أسطوانات الغاز على عربة، ولا مجال إلا الدق على الجرة حتى ينتبه الناس إلى وصوله. تخيلوا: عامل يجر عربة فيها عدد من جرار الغاز ثقيلة الحمل. ماذا لو لم يحالف هذا العامل الحظ، ولم يجد من يشتري منه. إنها مهمة شاقة بالتأكيد، تجعل تعبه، وانقطاع نفسه من جراء دفع عربة مليئة بأسطوانات الغاز، يذهبان هدرًا.

أدراج ومصاعد

أدراج عمان الطويلة تربط بين أزقتها 


مفارقات:
(أم محمد) تسكن في "حي نزال" (عمان الشرقية) وسط درج تصل عدد درجاته إلى 300 درجة تقريبًا. والأهم أنه درج "واقف"، أي ليس مصممًا هندسيًا على نحو مريح، لا فواصل استراحة بين الدرجات، إذا نزلته تشعر أنك سوف تقع على وجهك، وإذا صعدته تشعر أنك سوف تنقلب على ظهرك. إذا أرادت الوصول إلى الشارع الفرعي أعلى الدرج عليها أن تصعد 150 درجة، ثم تنزلهم عندما تعود. وهذه مهمة تقوم بها في اليوم أكثر من مرة. شقيقها يزورها في الأعياد فقط، وبسبب مشاكل بسيطة في مفاصل قدميه لا يصل إلى بيتها، بل يهاتفها وهو على رأس الدرج لتصعد إليه، تسلم عليه، وتعود أدراجها. في حين ثمة مصاعد في الشق الغربي من المدينة، بمجرد أن تكبس على مفتاح، تنتقل، برمشة عين، من طابق إلى طابق، إلى طابق، إلى طابق، من دون أدنى مجهود يذكر.




ناهيكم عن الباعة المتجولين، الذين ابتكروا طريقة للمناداة على بضائعهم تقوم بتسجيل ما لديهم من بضاعة عبر مسجل، إذ يرفع البائع صوت المسجل عاليًا ليريح نفسه من مواصلة النداء إلى أن يأتيه زبائن: بطاطا، بندورة، بقدونس، فلفل أخضر، و... و...

غزة
مفارقات بين الشرق والغرب:
مرة، كتبت على صفحتي على فيسبوك، في ذروة حرب الإبادة على غزة، أن الناس في عمان تنام باكرًا، هربًا من عجزها عن فعل شيء إزاء ما يحدث في غزة، إضافة إلى انطفاء قلوبها من ممارسة أي نشاط أسفًا على ما يحدث في فلسطين عمومًا، والخذلان العربي المريب، والانحياز العالمي الذي ما كان يمكن أن يكشف عن قذارته لولا ردود أفعاله أمام حرب الإبادة الجارية على قدم وساق، وعلى الهواء مباشرة، من دون أن يتحرك الضمير العالمي قيد أنملة.
وإذ بصديق يرد محاولًا تصحيح معلوماتي، بالقول إنه، حسبما يرى، فإن الناس في عمان يسهرون حتى الفجر، يمكنك أن تراهم بعد منتصف الليل، يجلسون في الكوفي شوبات، يشربون القهوة، ويتسامرون.
هو محق، وأنا محق، المشكلة أن عمان التي نختلف حول طقوسها ليست واحدة، إذا كنت أنا أقصد ما يحدث في الشق الشرقي، فهو يقصد ما يحدث في الشق الغربي، وذلك بسبب سكن كل منا.
شتان ما بين الشرق والغرب في عمان، ففي الشرق، الفقر يتجلى على أصوله، وفي الغرب حياة الناس مختلفة تمامًا. في الشرق أزقة، وأدراج تكسر الظهر، وسيارات مهترئة تصطف أمام بيوت آيلة للسقوط، وفي الغرب شوارع فسيحة، وسيارات فارهة، وأماكن كثيرة يمكن أن تقصدها.

مندسون
مفارقات:
صديقي الكاتب الصحافي ماهر أبو طير لم تنطل حيلته كثيرًا، على نفسه، حين حاول أن يصدق أنه يسكن في أحد أحياء عمان الغربية الراقية، بعد أن تحسنت أحواله المادية، وتمكن من أن يرحل. لكن قطًا شريدًا كشف أمره، حين رآه يتسكع في ذلك الحي الراقي في الشارع، فأدرك أنه قط مندس، فقطط الحي الجديد الذي سكنه تحظى برعاية تحميها من التسكع بالشوارع.
ثم سرعان ما أدرك، حسب ما جاء في قول له، أنه هو أيضًا مندس في الحي الذي يسكن فيه. كيف لا يشعر بذلك وهو يعيش في الأحياء الشعبية منذ أن ولدته أمه، يعرف كل زقاق في عمان وحواريها منذ أن تفتحت عيناه على الحياة. وحين كبر، وامتهن العمل الصحافي، كان صاحب بصمة خاصة في الكتابة عن الفقراء، وأحوالهم، كان يزورهم في بيوتهم، ويتصور معهم، وينشر صوره وصورهم في الجريدة.
ذات يوم، فكرت أن أستأجر شقة جديدة، لكن موقعها حيرني، فلا هي محسوبة على مخيم الحسين، ولا هي محسوبة على جبل الحسين، بسبب أن المسافة بين المنطقتين تعد بالخطوات. مبعث الحيرة والتردد، إذا كانت محسوبة على المخيم فالإيجار الشهري قد يصل إلى مئة دينار أردني، أما إذا كانت محسوبة على جبل الحسين فقد يصل الإيجار إلى مئتي دينار، وربما أكثر.
عبثًا حاول صاحب الشقة أن يقنعني أن شقته تابعة للجبل، وأن لا علاقة لها بالمخيم، لكني لم أقتنع. صحيح أنني أرى من النافذة اليمنى للشقة جبل الحسين وتفاصيله، لكن أرى من النافذة اليسرى المخيم وتفاصيله، فلم تتم الصفقة على خير.

تعايش وطقس معتدل
ما أكتبه من مفارقات في عمان، لا يصل أبدًا إلى حد التناقضات، بل ثمة تعايش من نوع ما. ثمة ألفة تجمع الناس، وهذا ما يتجلى حين تكون في وسط البلد، إذ تجد الجميع منصهرًا في تفاصيل الحياة في عمان التي يحبها. وهذا "الجميع" مختلف الأجناس، فيه جنسيات مختلفة، ولغات مختلفة، وثقافات مختلفة. لكن، الأهم فيها أمان، فلا أحد يخشى التسكع في وسط البلد مهما اختلفت الثقافات والجنسيات. وهذه، في حد ذاتها، مفارقة: كيف تجتمع التضادات من دون أن يتعكر صفو تواصلها. مفارقة أخرى أترك تحليلها للدارسين في هذا المجال: كيف يحدث التآلف بين الناس وسط كثير من المفارقات الاجتماعية؟
يقول الصديق القاص زياد بركات: عمّان جميلة، صغيرة وملمومة ودافئة رغم تجاوز ساكنيها حاجز خمسة ملايين نسمة. وكان الفنان التشكيلي الراحل رفيق اللحام يقول: أجمل ما في عمان طقسها المعتدل، وإن احتجت إلى هواء عليل، فما عليك إلا أن تسير بسيارتك مدة نصف ساعة تقريبًا فتجد نفسك في أحراج جرش، أو عجلون. وإذا اشتقت إلى الأجواء الدافئة، أو حتى الحارة، ففي أقل من ساعة، بسيارتك، تكون في البحر الميت، أخفض مكان على وجه الأرض.
يرجع تاريخ مدينة عمّان إلى الألف السابع قبل الميلاد، وبهذا تُعد من ضمن أقدم مدن العالم المأهولة بالسكان. أقيمت على أنقاض مدينة كانت تعرف باسم "ربّة عمّون"، ثم "فيلادلفيا"، ثم "عمّان"، اشتقاقًا من "ربة عمّون"، واتخذها العمّونيون عاصمة لهم.
يُشار إلى أنه تم اعتماد يوم 2 آذار/ مارس من كل عام يومًا لمدينة عمّان بعد اتخاذ مجلس الوزراء الأردني قرارًا بذلك في بداية عام 2021، وذلك في إطار الاحتفاء بمرور 100 عام على تأسيس الدولة الأردنيّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.