}

"ماتي": أسرار معبد كهفي

مي عاشور 5 فبراير 2025
أمكنة "ماتي": أسرار معبد كهفي
معبد كهوف الألف بوذا

تصبح الأيام بمثابة علامات، حينما تُذكّرنا بما سبقها وما تلاها، كأنها تتحول إلى فاصل بين حدثين أو إلى واصل بينهما. ما زال ذلك اليوم مطبوعًا في ذاكرتي بتفاصيله: رائحة ندى الصباح الباكر، والخطى التي يحرّكها شغف، وطاقة وجدت في داخلي. وكلما طفرت أمام عيني صور متفرقة، حملتني معها لتعيدني إليه مجددًا، فلا أجد نفسي فقط أستحضر اللحظات والصور والمشاهد، التي تجتاز حيّز الذاكرة، وتتجسّد أمامي بشكل مذهل، بل أعيشها مرة أخرى، هي وشعور صاحبني حينذاك.

ظلال الأشجار الباسقة- على الجانبين- تنعكس على المروج. أقف في منتصف الطريق، وأتأمل الجبال التي تتسربل بالأبيض، وبدت قريبة، رغم بعد مسافتها. الطقس بارد، لكن يحجب دفء الشمس البرودة. أنا في طريقي إلى معبد ماتي الموجود في مدينة جانغ يه، بمقاطعة جانسو، شمال غربي الصين؛ ذلك المعبد العجيب المحفور في باطن الجبل، ومكون من سبعة معابد بوذية صغيرة، ويضم 70 كهفًا، ويحتوي على ما يقرب من 500 تمثال ملون. يرجع تاريخ معبد ماتي إلى ما قبل 1600 عام، وتحديدًا إلى عصر مملكة ليانغ الشمالية (490- 397م) وهي واحدة من الممالك الست عشرة. وظل يتوسع المعبد، وتُفتح فيه الكهوف على مدار عصور الأسر الحاكمة المختلفة في الصين.

كهوف الثلاث وثلاثين سماء


وصلت إلى معبد كهوف الألف بوذا، وهو جزء مهم من معبد ماتي. ووقفت متأملة بوابته المبهجة الألوان، والتي يتناغم عليها اللون الزهري مع الأصفر، ولا تخلو من الزخارف الملونة، والخط الصيني الساحر. وعندما وطئت قدمي باحة المعبد، رأيت - من بعيد- نوافذ مطلة من الجبل، في الأصل كانت معابد، لم أعرف كيفية الوصول لها، إلا عندما صعدت إليها من خلال ممر ضيق في الجبل، يكاد يتسع لشخصين، ثم أفضت هذه الممرات إلى أخرى داخلية في باطن الجبل وسلالم لطوابق أعلى، لا تُصعد بالطريقة العادية، بل يكون صعودها أشبه بالتسلق نظرًا لضيقها وارتفاعها الشديد.

وعندما صعدت إلى أحد المعابد المعلقة في الجبل، خطفت أنظاري الرسومات الدقيقة المنقوشة بطول الأفاريز الخشبية، ورأيت محرابًا صغيرًا، بداخله تمثال. خطوت قرب سور المعبد المطل من باطن الجبل، عند نقطة سمحت لي برؤية الامتداد الرحيب أمامي، والذي يمنح المرء مساحات من التأمل.

مضيت في طريق طويل ضاق بي، ثم انبسط أمامي، فوجدتني أقف في ساحة شاسعة، مكشوفة للسماء، وتنعكس عليها الشمس، بل وتجمع بين الوديان والمروج، والجبال الشاهقة، وأدخنة السحب. أنا في ساحة تآرليانغ، والتي يتوسطها برجان بيضاوان محاطان بعجلات الصلاة البوذية؛ وعادة هذا الشكل من الأبراج مألوف رؤيته في المعابد البوذية التيبتية. بدا لي معبد ماتي أشبه بمتحف وسط الطبيعة، يعرض فنون الكهوف، والفنون البوذية، بكل تفاصيلها من رسوم جدارية، ونحت للتماثيل، ونقوش ملونة. وأهم ما يميز معبد ماتي أنه يجمع بين البوذية الصينية والتيبتية، لكن أهميته الجوهرية تكمن في أنه واحد من أهم المعابد البوذية على طريق الحرير القديم، كما أنه أحد الأراضي البوذية المقدسة على ممر خشبي.

أواصل السير صعودًا. ندفات الثلج متناثرة على العشب والطين، ورغم ذلك، يزهر كل شيء كأنه الربيع. توصلني خطواتي إلى كهف، فأشعر أنني انفصلت عن اللحظة الراهنة، وقفزت إلى أخرى طرحتني إلى حقبة تاريخية بعيدة. ما أعلمه، بل ورأيته بالفعل، هو أن الكهوف معتمة، ولكن الغريب أن الضوء كان ينفذ إلى هذا الكهف من كل الجهات، فينعكس بريقه على تمثال لبوذا ذهبي وشاهق الارتفاع، والذي كان يضع يدًا إلى جانبه، أما الأخرى فيرفعها أمام صدره بإشارة مستديرة، يلامس فيها الإبهام السبابة، وهذه الإشارة تسمى بـ "فيتاكرا مودرا" في البوذية. 

تماثيل بهو بوذا الواقف وتمثال بوذا الواقف والذي يبلغ طوله حوالي 8 أمتار


عندما اجتزت التمثال، كانت أمامه قاعة للتعبد، وعلى جانبيها بهوان، يجلس بداخلهما - من الناحيتين- تماثيل ضخمة، يبلغ عددها 49 تمثالًا. فُتح هذا الكهف في عصر أسرة ووي الشمالية، وهو أكبر كهوف معبد ماتي.

وبينما أسير في البهو، وأتأمل التفاصيل الدقيقة للتماثيل، لمحت فتحة مرتفعة عن الأرض، وعندما دنوت منها وجدت أنه بئر عميقة، تسمى بـ "الماء المقدس للفضائل الثماني"، ويقال إن ماءها شفاء لكل داء. غادرت كهف بوذا الواقف، لالتقاط بعض الصور، ولكن عندما شخصت ببصري إلى الجبل الذي يلامس الأفق، وجدتني أقف أمام كهوف الثلاثة وثلاثين سماء، لمعبد بوجوانغ، والتي تتكون من 7 طوابق و21 كهفًا معلقًا، حيث يجتاز ارتفاعها 40 مترًا. أنا الآن في الجزء الشمالي من معبد ماتي، والذي حُفرت معظم كهوفه في عصر مملكة يوان.

تتولد الأسئلة في نفسي، عندما يلفت انتباهي شيء، ولكنها تجبرني على البحث عن أجوبة لها، عندما تتملكني رغبة في تعميق التجربة. وهكذا غمرني الفضول حول اسم المعبد ماتي، فماذا يعني الاسم، ومن أين جاء؟

عندما قرأت بتمعن حول المعبد، فهمت أن ماتي بالصينية تعني: حافر الحصان؛ ويرجع سبب تسميته بهذا الاسم، إلى اكتشاف آثار لحافر الحصان على صخرة بداخل معبد بو جوانغ، الموجود داخل معبد ماتي. وهناك أسطورة شعبية تروي إنه منذ آلاف السنين هبط حصان مجنح من السماء، ليرتوي بالماء، فدعس على إحدى الصخور، فطُبع أثر حافره عليها.

في تلك الأيام، كان الخريف ينفح بنسمات لطيفة، تحرك الأشياء وتغالب الجمود. كنت أشعر بهمساتها في لحظات بعينها، كأنها تأتي لتحمل معها شيئًا تنتظرني أن أفلته من يدي، ولكنني لم أدرك ذلك حينها.

معبد كهوف الألف بوذا في صورة من الجبل/ ساحة تآرليانغ، والتي تظهر المنظر الشامل للمعبد، يتوسطها برجان وعجلات الصلاة البوذية


في طريقي لمغادرة المعبد، رأيت ممرًا سلالمه خشبية، يفضي إلى مكان يجتاز مرمى بصري، فبدا لي وكأنه متصل بالأبدية. أخطو إلى الممر، وأتأمل الرايات الملونة الصغيرة التي تكلله، ويتخللها شعاع الشمس، فتبدو شفافة ومبهجة كفراشات منطلقة في الأفق. أما ظلال الرايات - ذات الحركة الترددية- فكانت تنعكس على الأرض، كأنها عشبات المروج، تتمايل كلما لامسها الهواء. تلك الرايات الملونة الصغيرة، هي رايات الصلاة التيبتية، والتي تحمل معاني عميقة، وترمز إلى الطبيعة بألوانها الخمسة: الأحمر، والأصفر، والأزرق، والأبيض، والأخضر. فمثلًا الأزرق يجسد السماء، والحرية، والأبدية. والأحمر يرمز إلى النار، وكذلك الحماسة والطاقة. والأصفر يشير إلى الأرض، والاستقرار والرخاء. أما الأبيض فيعبّر عن السحب، والنقاء، والصفاء. والأخضر يعكس لون الماء والأنهار، وأيضًا يرمز إلى الحكمة والسلام.

أغادر معبد ماتي، لأتابع رحلتي على طريق الحرير القديم، والتي استغرقت أيامًا بالحافلة. كنا نرتحل يوميًا من مدينة إلى أخرى، وحينها، تطلعت لتدوين تجربتي في الأمكنة المختلفة التي زرتها، لكن غلبني التعب، وضاق بي الوقت، مما أربكني لخوفي من تسرب التفاصيل من ذاكرتي. وفجأة، تقافزت إلى ذاكرتي كلمات قرأتها للأديب المصري عبد الوهاب عزام، في مقدمة كتابه "رحلات": "وكانت أسفاري في الشرق طويلة المدى قصيرة الزمن. فلم ينفسح الوقت لوصف ما أشاهد وما أحس أثناء الأسفار، وكانت كتابتي عن بعض الرحلات تتأخر أشهرًا بل سنة أو سنتين. وكلما لُمت نفسي على هذا التأخير أجابت: ’إن المشاهد التي لا يبقى أثرها في النفس سنين لا تستحق التسجيل’". فتيقنت أن كل ما رأيته هذه المرة لا يمكنه أن ينسل من ذاكرتي بسهولة، ليس لجمال المكان وحسب، بل لروعة التجربة بأسرها، والتي نقلتني من حيّز بعينه، إلى فضاءات التجارب المتفردة. ووجدت في تدوين هذه التجربة، إعادة إحياء لها، وتجسيد براق لتفاصيلها، وردها للوجود، وسحبها من منحنى التلاشي والانقضاء، إلى أبدية البقاء. وهذه الرحلة كان لها أثر حيوي أزهر بداخلي، بل ودرجت بي إلى مسارات جديدة ساقتني إلى نقطة سأطلق منها العنان لكل ما تَرَكته بقلبي. 

*الصور بعدسة كاتبة المقال.

مقالات اخرى للكاتب

أمكنة
5 فبراير 2025
هنا/الآن
14 ديسمبر 2024
يوميات
8 نوفمبر 2024
يوميات
4 فبراير 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.